ليس عربيا
يبدأ صاحب الفيديو بمقدمة تعريفية قصيرة للإمام البخاري، يخلُص فيها إلى أنَّ البخاري ليس عربيا، وخلاصته هذه لا ترقى أبدا إلى كونها شبهة تستوجب الرد، لأنه سيظهر لكل ذي ذهن حَصِيفٍ أنَّ العُجمة لم تكن في يوم من الأيام مانعا من تعلم العلوم وإتقانها باللسان العربي أو بغيره،والملاحظ أنّ أكثر مَن ألّف في العلوم وخاصة علوم اللغة العربية، كانوا في غالبهم من العجم، أذكر منهم: سيبويه صاحب “الكتاب” وهو أول كتاب ينسِّق ويدوّن قواعد اللغة العربية، والفيروزآبادي صاحب كتاب “القاموس المحيط” وهو من أشهر معاجم اللغة العربية، وابن آجروم صاحب متن الآجرومية .. إلخ.
ولذلك يقول ابن خلدون في مقدمته : من الغريب أن حمَلة العلم في الملّة الإسلامِيَّة أكثرُهم العَجَم.
وإنّما ربُّوا في اللسان العربي فاكتسبوه بالمربى ومخالطة العرب وصيَّروها قوانين وفنا لمن بعدهم.
وكذا حمَلة الحديث الذين حفظوه عن أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة والمربى. وكان علماء أصول الفقه كلهم عجما كما يُعرف، وكذا حمَلة علم الكلام، وكذا أكثر المفسِّرين، ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم”.انتهى كلامه رحمه الله.
200 سنة تفصل بين البخاري وبين رسول الله
ثم يقول صاحب الفيديو أن البخاري بينه وبين الرسول محمد 200 سنة، وهي مدة طويلة مات خلالها كل الصحابة.
والسامع لهذا الكلام سيظن أن البخاري رحمه الله إنما يتقوَّلُ ويكذب عن رسول الله لاستحالة السَّماع عنه (صلى الله عليه وسلم) مباشرة للفاصل الزمني الذي بينهما، وهذا كلام غير صحيح أبدا، لأن رواية البخاري رحمه الله عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قائمة على الرواية بالأسانيد، فكلٌّ يأخذ عمن فوقه إلى منتهى السند الذي هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ثم تُخضع هذه الروايات لعملية النَّقد العِلمية، التي تتناول السَّند والمتن معا، ولذلك كان تعريف الحديث الصحيح : أنّه ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه-وهذا فيما يتعلق بالسّند-، من غير شذوذ ولا علة قادحة-وهذا في ما يتعلَّق بالمتن أيضا-، وكان رحمه الله يتحرَّى ولا يروي إلا عن الثّقات وقد قال كما جاء في ”هدي الساري” أنه سئل عن خبر حديث فقال: ”يا أبا فلان تراني أُدَلِّس؟ تركت أنا عشرة آلاف حديث لرجل فيه نظر”.
وهذه الدّعوى التي أثارها صاحب الفيديو دعوى واهي سبقه إليها العديد من المستشرقين والناقمين على السُّنة وأقصد مسألة : هل هناك كتابة للحديث قبل 200 هـ؟ وقد ألّف في الجواب عن هذا السؤال محمد مصطفى الأعظمي الذي توفي أواخر السنة الماضية رحمه الله، كتاب له سماه : ”دراسات في الحديث النبوي الشريف”، وهو رسالته لنيل الدكتوراه بجامعة ”السوربون” ألفه بالفرنسية وترجم بعد ذلك إلى العربية، وكان الجواب أن الكتابة الحديث كانت بالآلاف منذ القرن الأول أي في عهد الصحابة و إلى القرن الثاني، فلم يتأخر التدوين إلى عهد البخاري أبدا وإنما كان عمله رحمه الله جمع ما صح لديه من روايات، ونحن نحترم عمله ونُجِلّه ونعتبره أصح كتاب بعد كتاب الله سبحانه، ذلك أن السنة هي المصدر الثاني في التشريع عند المسلمين بعد القرآن وأن البخاري هو الكتاب الذي استوعب أكثر عدد للأحاديث الصحيحة.
أوزباكستان المهمشة
قال صاحب الفيديو: عاش البخاري بجمهورية أوزباكستان حاليا، وهي منطقة على الهامش أي بعيدة عن المراكز الدينية في هذه المرحلة (مكة، بغداد، والقاهرة). وهذا كذب على الرجل وعلى التاريخ، ذلك أن البخاري ولد ببخارى، وعرف بتنقله بين البلدان و الأمصار وهي آنذاك مركز علمي، وحاضرة من حواضر الإسلام، وكان أبوه ”إسماعيل” من علماء الحديث في عصره.
شروط واهية
يزعم صاحب الفيديو أن شروط البخاري في قبول الحديث هو صلاته ركعتين وبعدها اخضاع الحديث لشروط واهية وهي العدل و الصدق و عدم التدليس، وإن كان الجهل طافحا في كلامه هذا فنحن سنضرب صفحا عن تشويهه لشروط الحديث الصحيح التي ذكرتها آنفا، ولأكتفي هنا بذكر مثال من أمثلة ما قاله غير المسلمين حول منهج النقد عند علمائنا الأفذاذ ، يقول المؤرخ أسد جبرائيل رستم: وأوَّل من نظم نقد الروايات التاريخية، ووضع القواعد لذلك علماء الدين الإسلامي، فإنّهم اضطروا اضطرارا إلى الإعتناء بأقوال النبي، وأفعاله، لفهم القرآن وتوزيع العدل، فقالوا : إن هو إلا وحي يوحى، ما تلي منه فهو قرآن وما لم يتلى فهو سنة. فانبروا لجمع الأحاديث ودرسها وتدقيقها، فأتحفوا علم التاريخ بقواعد لا تزال في أسسها وجوهرها محترمة في الأوساط العلمية حتى يومنا هذا.
16 سنة لا تكفي لتنقيح 600 ألف حديث
يظن صاحب الفيديوا أن ظهور” الجامع الصحيح” كان طفرة فُجائية حتى أن البخاري لم يكن له من أمره أن ينام و يأكل ويشرب ويصلي و يطلب العلم و يسافر لتحصيله و يلتقي بشيوخه لأخذ الحديث، لأن 16 سنة ليست كافية حتى لتمحيص تلك الروايات البالغ عددها 600 ألف حديث، وهذا الفهم نتيجة عن كون قائل هذا الكلام لا علاقة له بعلم الحديث و مناهج النقد لدى العلماء، وقديما قالوا: من تكلّم في غير فنِّه أتى بالعجائب، ذلك أنه لا يعرف أن الحديث أقسام منه المرفوع وهو قول النبي (صلى الله عليه وسلم)، والموقوف وهو قول الصحابي، والمقطوع وهو قول التابعي، فكثرة الروايات تحمل على هذا الوجه من جهة، وبالتالي فالأحاديث الموقوفة والمقطوعة، لا تحتاج إلى كبير عناء كما يـتخيل صاحب الفيديو وذلك لاعتبار علو الإسناد وقلة رجاله، ومن جهة أخرى أن المحدثين يطلقون على كل طريق أتى منها الحديث اسم حديث، فمثلا لو أتى الحديث الواحد من 20 سند مختلف، لقلنا أنه لدينا 20 حديث…وهلم جرا.
يقول د.يوسف الكتاني رحمه الله في كتابه عبقرية البخاري: و”التاريخ الكبير” وهو في أسامي الرجال، ألفه الإمام في سنٍّ مبكرة، إذ لم يتجاوز عمره الثامنة عشرة، وهو عجب في شموله، وكثرة فوائده.انتهى، وهذا الكتاب-التاريخ الكبير- للإمام البخاري في علم الرجال، ألّفه قبل تأليفه ”لصحيحه الجامع” وقبل تمحيص تلك الأحاديث، ومن هنا يظهر أن 16 سنة دليل على التأني والتَّحري الذين التزمهما البخاري في كل تلك المدة الطويلة، فهي كافية وزيادة لمن رحل وجمع وتشرَّب مناهج النقد وعلم الرجال ثم جلس للتأليف في تلك المدة.
البخاري ليس موضع إجماع لدى علماء المسلمين
ثم يتحدث صاحب الفيديو عن أن البخاري لم يكن في يوم من الأيام موضع إجماع وقبول لدى العلماء وكذلك صحيحه الجامع، ثم قال أن الإمام الذهلي والإمام الرازي جرَّحوا الإمام البخاري، وهي أصلا مسألة لا علاقة لها بعلم الحديث والتصحيح و التضعيف، ومعلوم لدى الجميع أن الذهلي آذى البخاري رحمه الله، واتهمه بمسألة عقدية وهي ”خلق القرآن”، ومن هنا كان تجريح الرازي له، فلا علاقة للأمر بالرواية من الأصل.
ثم تحدث عن طعن الدارقطني في صحيح البخاري، وفي الحقيقة أن الدارقطني إنما انتقد على البخاري أنه خالف منهجه وشرطه في بعض الأحاديث التيي أوردها في صحيحه، وفي هذا إقرار منه على قوة منهج البخاري من ناحية الأحاديث الكثيرة التي وردت في صحيحه وهي في أعلى درجات الصحة، وعموما فإن الذين تحدثوا في البخاري وصحيحه، قليلون جدا حتى أنهم يعدُّن على رؤوس الأصابع كما سبق معنا، وليس كما يزعم صاحب الفيديو لما قال أن هنالك كتب كثيرة شككت في البخاري وصحيحه، ولا عجب فالكذب والتدليس أصبح من شيم الناقمين على السُّنة.
البخاري صاحب هذه الأحاديث:
وهذه الأحاديث التي قال عنها صاحب الفيديو أن البخاري صاحبها، إنما هي أحاديث رُويت في الكثير من كتب الحديث قبل البخاري،
حديث قتل المرتد: وهذا الحديث أرجح ما قيل فيه، أنه يـُحمل على باب ”السياسة الشرعية”، أي من جانب تصرفاته ص بالإمامة وليس بالنبوة، ولذلك خالف النبي (صلى الله عليه وسلم) هذا الحديث في تنازله عن قتل المرتدين في صلح الحديبية، ومن المعلوم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لا يتنازل عن حد من حدود الله.
حديث الماعز التي أكلت من القرآن: وهذا الحديث ليس في البخاري أصلا وهذا من كذب وتزوير هؤلاء كما أشرت إلى ذلك مرارا. وزيادة أكل الماعز أو غيرها غير ثابتة.
حديث أن الرسول حاول الإنتحار: وهذا من بلاغات الإمام الزهري وهو غير موصول، وهو ليس على شرط الإمام البخاري، لأن الذي المعتبر في الجامع الصحيح هي الأحاديث المسندة وليست الأحاديث المنقطعة، ولذلك سمى البخاري صحيحه : ”الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه”.
(المصدر: مركز يقين)