بقلم أحمد مولانا
اكتسبت أجهزة الأمن السياسي المصري خبرات متراكمة عبر تاريخها الطويل الذي يمتد إلى ما يزيد عن قرن من الزمان، وتحديدا إلى عام 1910 الذي شهد تأسيس أول جهاز أمن سياسي في مصر على يد الاحتلال البريطاني. وتُعد قضية “التتويب الجماعي للمعتقلين السياسيين” من أبرز القضايا التي تصدر فيها الأمن المصري منصة الريادة في العالم العربي.
يُعد رئيس المخابرات العامة المصرية السابق “صلاح نصر” من أول وأبرز من تناولوا باللغة العربية الأسس النظرية لكيفية إحداث تغييرات عقائدية لدى المعتقلين السياسيين، وذلك في كتابه “الحرب النفسية- معركة الكلمة والمعتقد” الصادر عام 1966. ولم يقتصر دور “نصر” على التناول العلمي لهذا الموضوع، إنما حاز قصب السبق في تطبيقه عمليا على عناصر جماعة الإخوان المسلمين، وبالأخص في قضية تنظيم 1965 والمشهورة باسم قضية تنظيم “سيد قطب”. وقد حققت هذه التجربة نتائج إيجابية في أوساط العديد من كوادر الجماعة، بينما فشلت في تطويع معظم الرموز وقيادات الصف الأول.
أما تجربة التتويب الأبرز فهي التي حدثت للجماعة الإسلامية خلال عهد “مبارك” تحت إشراف مسؤول التطرف الديني بجهاز مباحث أمن الدولة اللواء “أحمد رأفت”. وهى التجربة التي حققت نجاحا بالغا بالأخص بين صفوف غالبية القادة التاريخيين للجماعة، وحظيت باهتمام عالمي واسع عقب أحداث سبتمبر، بل وعمدت بعض دول المحيط الإقليمي إلى استنساخها وتطبيقها على المعتقلين الإسلاميين لديها. وقد حرصت وزارة الداخلية المصرية على توثيق دروس تلك التجربة في دراسة نشرتها عام 2012 بعنوان “مكافحة الإرهاب والتطرف وأسلوب المراجعة الفكرية” من إعداد الرائد “محمد حمزة”.
تناول “صلاح نصر” في الجزء الثاني من كتابه المذكور التطور التاريخي لعمليات إعادة التشكيل الأيديولوجي للأفراد والتي تشتهر بعدة أسماء مثل “غسيل المخ” و”إصلاح الفكر”. وتعرض بالتفصيل لدور العالم الروسي “بافلوف” الذي توصل من خلال تجاربه إلى إمكانية تغيير الطبيعة الذاتية للإنسان من خلال تغيير البيئة التي يعيش فيها، مما يتيح جعله يكره من كان يحبهم سابقا ويحب من كان يبغضهم. ورغم إشارة “نصر” إلى أن الأساليب المتبعة في تقويم الفكر تتغير تبعا لتغير الظروف، إلا أنه أكد على أن الأصول الأساسية تظل واحدة في كل الحالات، وتهدف إلى السيطرة على الظروف المحيطة بالحياة الاجتماعية والجسمانية للفرد. وذكر أن مرحلة تقويم السجناء تستغرق فترة تتراوح من 6 شهور إلى 4 سنوات أو أكثر. كما تناول بعض التقنيات المستخدمة في تطبيق ذلك من قبيل:
١- عزل الشخص عن الحياة العامة: عبر ترك السجين في زنزانته لمدة طويلة دون السماح بتسرب أي أخبار إليه عن أسرته أو العالم الخارجي، مما يشعره بالوحدة والقلق والتوتر، ويساهم في تحطيمه معنويا ويدخله في أجواء اكتئاب ويأس.
٢- الضغط الجسماني: باستخدام أساليب مثل التجويع عبر إعطاء السجين كمية محدودة من الطعام تبقيه على قيد الحياة، وحرمانه من النوم مما يقضي على صفاء ذهنه ويصل به إلى الانهيار وتشوش الملكات العقلية، ويساهم في دفعه إلى التخلي عن معتقداته وقيمه.
٣- التهديدات وأعمال العنف: سواء بشكل مباشر عبر ضرب السجين وتعذيبه، أو بشكل غير مباشر من خلال سماعه لصراخ رفاقه خلال التحقيق معهم أو رؤيته لهم في حالة يرثى لها أثناء جلسات التحقيق.
٤- الإذلال والضغوط: عبر اتباع نُظم سجن تتطلب الخضوع التام سواء في أسلوب تناول الطعام والنوم والاغتسال، أو كخفض الرأس وإبقاء الأعين موجهة إلى الأرض أثناء التحدث إلى الحراس.
٥- الدروس الجماعية: عبر تدريس المناهج الجديدة في ندوات تُعقد بالسجون، يعترف خلالها الأفراد بانحراف أفكارهم السابقة، وينقُدون تجربتهم الماضية، ويبرهنون على قناعتهم بالفكر الجديد.
إثر اشتعال الصراع بين الجماعة الإسلامية ونظام مبارك، توسعت الأجهزة الأمنية في اعتقال عناصر الجماعة والمتعاطفين معهم، ليبلغ عدد المعتقلين منهم قرابة 20 ألف شخص، فضلا عن مقتل أكثر من 430 عنصرا وإعدام 88 آخرين، بالإضافة إلى موت المئات في المعتقلات نتيجة التعذيب والإهمال الطبي.
في السجون، مورست ضد المعتقلين تقنيات الإنهاك والتطويع، إذ تعرضوا دوريا للجلد والصعق بالكهرباء، والبقاء شبه عراة في الزنازين، فضلا عن ندرة الطعام والشراب، فغذاء اليوم الكامل للسجين لم يكن يكفيه لوجبة واحدة. كما أنه ممنوع من الدواء، ومحروم من الشمس والهواء، ومجبر على البقاء في زنزانته طوال اليوم، مما ساعد على تفشّي الأمراض الصدرية والجلدية، مع تعمد قطع المياه عنه لفترات طويلة. ولم يكتف جهاز الأمن بهذه الانتهاكات؛ فمنع المعتقلين في أغلب السجون من رؤية أهاليهم لأعوام طويلة، كما تعرضت العائلات للإرهاق؛ إثر سجن أبنائها، وقطع مرتبات الموظفين منهم، مما ساهم في زيادة حالات الطلاق.
هذه الممارسات قالت وزارة الداخلية في الدراسة سالفة الذكر أنها هدفت إلى “السيطرة على أنشطة واتصالات قادة الجماعة داخل السجون، وإخضاعهم لآليات متنوعة تستهدف بمجموعها تخليهم عن منظومتهم المتشددة وعودتهم لصفوف المجتمع”.
كما أسهبت الدراسة في شرح ما أطلقت عليه “محور تصحيح المفاهيم المتشددة”، والذي تضمن إحياء فكرة المراجعة لدى قادة الجماعة داخل السجون، وبالأخص في القضايا التي أثارت جدلا فقهيا كبيرا مثل الحاكمية، الحسبة، الجهاد، المواطنة.. وتزويد القادة المؤسسين للجماعة بأمهات الكتب الفقهية والمعاصرة، مما ساعدهم على إصدار كتب تعبر عن تعديلهم لمنظومتهم الفكرية، وتفعيل مضامين تلك المؤلفات لدى بقية عناصر الجماعة من خلال السماح لقادتها بزيارة السجون المختلفة لشرح توجهاتهم الجديدة عبر خطة زمنية متدرجة امتدت لأكثر من عامين، ثم توزيع كميات ضخمة من تلك الإصدارات الجديدة داخل السجون وخارجها، بل وخارج مصر وبالأخص في اليمن والسعودية، ثم السعي لاحقا لتوسيع دائرة انتشار كتب المراجعات من خلال إنشاء موقع إلكتروني للجماعة على شبكة الإنترنت بالعربية، يفند عبره قادتها منظومة العنف والتطرف بأسلوب ديني معتدل يستند على أسس شرعية، فضلا عن مد المواجهة لتشمل مخاطبة أبناء الجاليات الإسلامية الناطقة باللغة الإنجليزية عبر إنشاء واجهة للموقع بالإنجليزية. وفي النهاية تم الإفراج عن المعتقلين بشكل تدريجي بعد التأكد من ثبوت تحولهم للعمل السلمي وانعدام أية خطورة محتملة لهم في المستقبل.
المتتبع لأحوال السجون المصرية في عهد السيسي من بعد الانقلاب العسكري حتى اليوم، يجد تكرارا لسياسات القمع الساعية لإرغام السجناء السياسيين على الاستسلام. ولكن المحصلة حتى الآن لا توحي بنجاح هذه السياسة لعدة أسباب منها:
– تجارب التتويب السابقة حدثت في ظل استقرار منظومة الحكم وحيازتها للشرعية في حس معظم المواطنين، مما أدى لشعور المعتقلين باليأس من إمكانية التغيير والرضى بأي مكتسبات ولو تمثلت في مجرد تحجيم الانتهاكات، ووقف تنفيذ أحكام الإعدام، والخروج من السجون مقابل تغيير الأفكار والتوجهات.
– وُجدت شخصيات محنكة في العهود السابقة على رأس منظومة الحكم تجيد استخدام سياسة العصا والجزرة. بينما حاليا يقر السيسي نفسه بأنه شخص غير سياسي، وليس لديه سوى القمع وفقط.
– الانسداد السياسي والفشل الاقتصادي غير المسبوق للنظام العسكري الحاكم وفقدانه للشرعية في حس قطاعات متزايدة من الشعب، بالتوازي مع وجود حالة من التفكك والتخبط في سياسات النظامين الإقليمي والدولي.
هذه العوامل المادية السابقة لم تترك فرصة لعاقل أن يأمل في جني أي مكتسبات من الاستسلام، كما أنها رغم قتامة المشهد تترك بصيصا من الأمل بأن الصراع لم ينته بعد، وأن هناك فرصا ما زالت سانحة للتغيير. أما المعايير الإيمانية والمتمثلة في البعد العقدي والثبات على الحق واليقين بهلاك الظالمين فهي معايير أساسية، ولكن يتفاوت الناس في تحقيقها والقدرة على الالتزام بها.
(المصدر: مدونات الجزيرة)