د. البشير عصام المراكشي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
في الوقت الذي نسمع فيه هنا وهناك أن حاكما من حكام المسلمين، ينفق أموالا طائلة على شهواته الشخصية ولموافقة هوى الكِبر والخيلاء، والحال أن الملايين من المسلمين يتضورون جوعا أو يفترشون العراء أو يكابدون آلام الفقر، فإن أول ما يخطر ببالنا هو: كيف وصل هؤلاء الحكام إلى هذه الدرجة من الاستهانة بأموال المسلمين؟ ولم لا تقوم الأمة بدورها في الرقابة المالية على حكامها؟
من البدهي الذي كاد أن يُنسى: أن هذه الأموال التي تَصرفها طائفةٌ مخصوصة من الناس في ما لا يرضي الله تعالى، على وفق أهوائهم ونزواتهم، ليست ملكا لهم، وإنما هي أموال المسلمين، اقتُطعت منهم ظلما وبغيا!
إن من المقطوع به أن الرقابة المالية على أصحاب السلطة السياسية، لمنعهم من التصرف التبذيري أو الاستئثاري به، من أهم مداخل الإصلاح التي فرطت الأمة فيها منذ زمن، ولم يعد بالإمكان الاستمرار في التفريط فيها. وذلك لأن ضغط الثقافة العلمانية الغربية المهيمنة اليوم، يفرض على الناس الكلام في الموضوع، وإعادة النظر في كثير من المسلمات فيه.
والمؤسف أن الكثيرين حين يرون هذا التسلط من الحكام على أموال المسلمين، يفزعون إلى صور العدالة المالية عند الغربيين.
ونحن لا نشك أن حال الغربيين اليوم في هذا المجال أفضل بكثير من حالنا .. ولكن لا نشك أيضا أن الأفضل من الاثنين معا، هو التصور الإسلامي السامي في هذا الموضوع؛ وهو التصور الذي طمسه اجتماع تصرفات الحكام الظلمة، مع تسويغات “أحبار السوء” الجهلة، المستندين في ضلالهم إلى قواعد إجمالية متعلقة بما يندرج تحت عنوانَي الفتنة والطاعة، مع تناسي قواعد السياسة الشرعية الأخرى، والتي سيأتي بيان بعضها في هذا المقال.
تنبيه لا بد منه
حين تمر أمام أعين المسلمين صورُ هذا التبذير والاستهانة بالمال العام، تخطر ببال الكثيرين سيرةُ الخلفاء الراشدين في حفظهم لأموال الأمة، وزهدهم فيها.
ولكن المشكلة التي تحتاج إلى بيان وتوضيح: أن هذه السيرة تخطر كما تخطر الحكايات التي يتناقلها الوعاظ والقصاص، صعبةً مثالية لا ارتباط لها بواقع الناس اليوم، فوق كونها مناقضة لهدي السنة النبوية في التوسط والاعتدال (مثل قصص العُبّاد الذي يصلّون الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة، أو يبكون من خشية الله حتى تتلف أعينهم، أو نحو ذلك)!
ولذلك، نحتاج أن نوضح أن منهج الخلفاء الراشدين في مجال تدبير المال العام، ليس محالا في ذاته، ولا مخالفا للسنة البيضاء – كاجتهادات هؤلاء المغالين من العُباد والزهاد – بل هو منهج إسلامي واقعي، طُبّق فعلا على أرض الواقع، وأُمر المسلمون – في كل عصر – بالاقتداء به (كما في حديث: “اقتدوا باللذَين من بعدي”، وحديث: “فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ”).
إن فِعل الخلفاء الراشدين الأربعة (ومعهم عمر بن عبد العزيز الذي أُلحق بهم في سيرته بإجماع العلماء، وإن لم يكن منهم)، ليس كتصرفات من جاء بعدهم؛ فإن هؤلاء لا يمتنع أن يسلكوا طرقا في الدين تخالف المنهج الإسلامي الصحيح، وإن كانوا معذورين باجتهادهم. أما أولئك الراشدون المهديون، ففيهم تمثلَ هذا المنهج الإسلامي، إذ شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم على الحق، وجعلهم قدوة للمسلمين.
وإذا ثبت وجوب الاقتداء بهم، فلا يمكن أن نقتدي بهم في الطهارة والصلاة، فإذا جاء ذكر سيرتهم في السياسة الشرعية، قلنا – كما يزعم بعضهم -: ذاك جيل رباني مخصوص، وظروف متميزة، ونحن جيل آخر، له ظروفه الخاصة به؟
فما معنى أن يكون الإسلام صالحا لكل زمان ومكان، إذا نحن حصرنا هذه الصلاحية في العبادات الفردية؟ أليست هذه خطوة أولى نحو العلمانية، كما وقع للنصرانية منذ أصولها الأولى حين جعلت ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فتفرّد قيصر – ومن تبعه من الملوك – بسياسة الدنيا على أصول أهل الدنيا، وتُركت سياسة أرواح الناس وقلوبهم للكنيسة؟
نعم .. لست أنازع في أن جيل الصحابة جيل فريد لا سبيل إلى تكراره، ولكن الاقتداء بهم فوق كونه واجبا شرعيا، هو أمر محمود في الواقع أيضا. وذلك أن سيرة الصحابة هي المرجعية التي ينبغي أن تُنصَب على أنها الغاية العليا التي نسعى إلى الاقتراب منها ما أمكن. فعلينا أن نقرر أن هذه الغاية هي دين الله الذي نعمل على تطبيقه، ولو لم نستطع اليوم أن نطبقه بحذافيره. فإن بقاء الغاية واضحة جلية – بقطع النظر عن القدرة الراهنة على تنزيلها في الواقع -، هو ما يوضح الطريق، ويحمي من الانحراف.
سيرة الخلفاء الراشدين في الموضوع
فلننظر إلى بعض المأثور عن الخلفاء الراشدين في هذا الباب.
روى ابن سعد في الطبقات بسند صحيح عن عطاء بن السائب قال: (لما استُخلف أبو بكر رضي الله عنه أصبح غاديًا إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتّجر بها، فلقيه عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السوق. قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالا له: انطلق حتى نفرض لك شيئًا فانطلق معهما، ففرضوا له كل يوم شطر شاة وكسوة في الرأس والبطن).
فالرواية صريحة في أن أبا بكر رضي الله عنه لم يرضَ أن يأخذ من بيت مال المسلمين شيئا، حتى أذِن له الصحابة بذلك، وأنهم هم الذين فرضوا له ما يكفيه. وفي رواية أخرى أنه احتاج إلى أن يفاوضهم كي يزيدوه من العطاء: “لما استخلف أبو بكر جعلوا له ألفين، قال: زيدوني فإن لي عيالا، وقد شغلتموني عن التجارة، فزادوه خمسمائة”.
وهذا صريح غاية الصراحة، في أن الأمة – ممثلة هنا في الصحابة الذين هم أهل الحل والعقد، ومجمع الشورى – هي التي تقرر ما يكون للحاكم من نصيب في بيت المال، وليس له أن يستأثر بشيء من ذلك دون رضاها الواضح.
ولما حضرته الوفاة – رضي الله عنه – أمر برد الزائد عنده من المال إلى بيت مال المسلمين، إيذانا منه بأن المال الذي فرضته الأمة له ليس ملكا له. فقارِن هذا بمن يورّث أموال المسلمين لأبنائه وأحفاده، دون أن تطرف له عين، ولا لمن يسوغون له ذلك!
وقد سار عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أيضا على الطريق نفسه، فلم يأخذ من المال إلا ما فرض المسلمون له. فقد أخرج ابن سعد أنه مكث زمانًا لا يأكل من المال حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة، فأرسل إلى أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فاستشارهم في ذلك فقال: (قد شغلت نفسي في هذا الأمر فما يصلح لي فيه؟ فقال عثمان بن عفان: كل وأطعِم، قال: وقال ذلك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. وقال عمر لعلي: ما تقول أنت في ذلك؟ قال: غداء وعشاء، فأخذ عمر بذلك).
وكان يقول فيما رواه أحمد وأبو داود: (والله ما أحدٌ أحق بهذا المال من أحد، والله ما من المسلمين أحد إلا وله في هذا المال نصيب ..).
وقد سار عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – على الدرب نفسه، فبدأ بعد توليه الخلافة برد أموال أسرته إلى بيت المال، ثم أجبر بني أمية على ردّ الأموال التي أخذوها بغير وجه حق إلى بيت مال المسلمين، وسماها “أموال المظالم”.
وقد قيل له وهو على فراش الموت: تركت ولدك ولا مال لهم؟
فقال: (ما كنت أعطيهم شيئا ليس لهم، وما كنت لآخذ منهم حقا لهم ..).
وهكذا سنّ الخلفاء الراشدون للأمة طريق الرقابة المالية على حكامها، فاستنبط الفقهاء من ذلك الأصول والقواعد اللازمة لضبط هذا الباب.
ملخص حكم الشرع في الموضوع
في قوله تعالى: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) تقرير أصل قرآني عظيم في مجال تداول الأموال بين أفراد الأمة، ومنع استئثار الأقوياء وأصحاب السلطة بها. وما ورد في الشرع من الأدلة على تحريم الظلم والاحتكار والغش والربا وأكل أموال الناس بالباطل والاعتداء على مال اليتيم والنساء وغير ذلك، يصب جميعه في اتجاه حسن قسمة الأموال بين المسلمين، على جهة العدل والمعروف.
وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن المال مال الله، ولا يملك منه – عليه الصلاة والسلام – لنفسه إلا ما شرعه الله له. ففي الصحيح: (ما أعطيكم ولا أمنعكم، إنما أنا قاسم أضع حيث أُمرت).
ومما ورد عن علي رضي الله عنه أنه قال: مرّت على رسول الله صلى الله عليه وسلم إبل الصدقة فأخذ وبرة من ظهر بعير فقال: (ما أنا بأحق بهذه الوبرة من رجل من المسلمين).
فإذا كان الحبيب المعصوم – صلى الله عليه وسلم – لا يملك من أموال المسلمين إلا ما فرض الله له، فكيف يحلّ لمن دونه أن يأخذها غصبا، وتسكت عن ذلك الأمة، بعلمائها وعامتها؟
وقد خطر شيء من هذا ببال معاوية رضي الله عنه، لكنه وجد من المسلمين في ذلك الزمن الفاضل من بين له حرمة ذلك الفعل. فعن ضمام بن إسماعيل المعافري عن أبي ( قبيل ) قال: خطبنا معاوية في يوم جمعة، فقال: “إنما المال مالنا والفيء فيئنا، من شئنا أعطينا ومن شئنا منعنا”؛ فلم يرد عليه أحد. فلما كانت الجمعة الثانية قال مثل مقالته، فلم يرد عليه أحد. فلما كانت الجمعة الثالثة قال مثل مقالته، فقام إليه رجل ممن يشهد المسجد فقال: “كلا بل المال مالنا والفيء فيئنا، من حال بينه وبيننا حاكمناه بأسيافنا، فلما صلى أمر بالرجل فأدخل عليه، فأجلسه معه على السرير، ثم أذن للناس فدخلوا عليه، ثم قال: “أيها الناس إني تكلمت في أول جمعة، فلم يرد علي أحد، وفي الثانية، فلم يرد علي أحد، فلما كانت الثالثة أحياني هذا، أحياهُ الله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “سيأتي قوم يتكلمون فلا يرد عليهم يتقاحمون في النار تقاحم القردة”، فخشيت أن يجعلني الله منهم، فلما رد هذا علي أحياني أحياه الله، و رجوت أن لا يجعلني الله منهم”.
فرقابة الأمة على أموال المسلمين، وإنكارها على من يأخذ منها بغير حق، هو المنهج الإسلامي الصحيح لدرء الفساد المالي، والاغتناء غير المشروع، وذلك بقرون عديدة قبل أن تؤصل لذلك الديمقراطيات الحديثة.
وقد أجمع العلماء على أن المال الموجود في بيت مال المسلمين حق للأمة، لا يحلّ للحاكم أن يأخذ منه إلا بقدر حاجته، ولا يجوز له التصرف فيه إلا وفق ما حكم به الشرع. وتفصيل مصارف بيت المال موجود في كتب الفقه والسياسة الشرعية بما لا مزيد عليه. فلن يجد الظالم في التراث الفقهي مستندا يعتمد عليه لتجويز عبثه بأموال المسلمين، ومصالحهم المادية.
وإلى لقاء مقبل في موضوع آخر من موضوعات العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الإسلام.
(المصدر: مجلة كلمة حق)