بقلم إبراهيم البيومي غانم
لا نزال نفتقر إلى نظرية أصيلة ونابعة من إدراكنا الذاتي عن «المجال العام» بمعايير الاجتماع السياسي، وبمعطيات الحياة الواقعية في مجتمعات أمتنا الإسلامية. لقد ظهرت فكرة المجال العام وتطورت في الفكر الأوروبي منذ عصر الأنوار؛ أي قبل نحو ثلاثة قرون خلت؛ حيث أضحى «المجال العام» و«المجتمع المدني» وجهين لمجتمع واحد في تاريخ الحداثة الغربية بصفة عامة.
عدم تبلور نظرية عن «المجال العام» لدينا لا يعني أن الحياة في ظل الاجتماع الاسلامي لم يكن فيها ما يشبه أو يماثل مضمون هذا المجال.
ولكن عدم تبلور نظرية عن «المجال العام» لدينا لا يعني أن الحياة في ظل الاجتماع الاسلامي لم يكن فيها ما يشبه أو يماثل مضمون هذا المجال؛ إذ وجد «مجال عام» عرفته مجتمعات الأمة بصيغ متعددة، وقد اتسع حينـًا، وضاق حينًا آخر، ولا يزال بين مد، وجزر؛ وإن كانت لحظات اتساعه وانفتاحه أقصر من طول لحظات ضيقه وانغلاقه.
ولا يعني هذا أنه ليس أمامنا إلا التسليم بنظريات أجنبية سابقة التجهيز عن «المجال العام». فنحن نرفض هذه النزعة الاستسلامية، ونكره الذين يمتثلون لها وينسحقون أمامها، ويتعللون بأنه لا بديل عنها ولا مفر منها. ولكننا في الوقت عينه يجب أن نكون على وعي بتلك النظريات السائدة أيًا كان مصدرها؛ بما في ذلك النظرية الأكثر شهرة التي قدمها هابرماس، واعتبر فيها أن المجال العام هو فضاء للتفاعل، أو التواصل اللفظي، والتثاقف الفكري، من أجل بناء حد أدنى من الإجماع الوطني حول القضايا والإشكاليات المرتبطة بالولاء والمشاركة والتوافق السياسي في المجتمع الحديث.
إن أكثر بحوث هابرماس اكتمالًا في شأن «المجال العام» هو مؤلفه عن «التحول الهيكلي في المجال العام»، هذا إلى جانب القسم الثاني من كتابه عن «نظرية الفعل الاتصالي»؛ حيث ميز بين ما يدعونه «العالم الحياتي»، وبين «النظام». وهو تمييز يقترب إلى حد ما من التمييز بين«المجال الخاص» و«المجال العام». فطبقًا لهابرماس، يخضع «العقل» في العالم الحديث لجملة إملاءات تقوم بوظيفتها بحسب عقلانية الغاية والوسيلة. وهو يضرب بالسوق مثلاً نموذجياً على ما يذهب إليه، ويرى أنه يعكس فكرة النظام، وفيه يتجلى الجانب العام بوضوح. ولكن الأفعال البشرية، من جهة أخرى، تخضع لإملاء القيم والمثل التي يتم تمريرها عبر الاتصال البشري، ويتم تبنيها اجتماعيًا لتشكل نسيج «العالم الحياتي» بدوائره المتداخلة، والمتدرجة من الفردي، إلى الجمعيا( الفئوي)، إلى الجماعي العام. وهنا تتجلى فكرة العالم الحياتي بكل تعقيداتها.
ولا يقلل أحد من قيمة تلك الأفكار التي طرحها هابرماس، وخاصة أنها اكتسبت مشروعية علمية في دوائر واسعة داخل ألمانيا وخارجها، ولا تزال أفكاره في أغلبها تبرهن على قدرتها على التوسع الأكاديمي وكسب أتباع ونقاد جدد في آن واحد. ولعل مقاربته الأساسية تظل ذات أهمية كبيرة في جهود التنظير والتأصيل للمجال العام في مختلف الثقافات، ولكنها أيضًا تظل غير كافية وخاصة عندما ننتقل بالجهد البحثي من مستوى التنظير إلى مستوى التطبيق، ومن التجريد والعموميات إلى التفصيل والخصوصيات المحددة اجتماعيًا ومدينيًا، باعتبار أن «المدن» (ومفردها: مدينة) هي الإطار الأكثر احتياجًا لفكرة «المجال العام» بما هو ساحات معنوية ومادية تتجلى فيها فكرة «المجال التعاوني المشترك» بين الفرد والدولة، وبين أصحاب المصالح المشتركة.
فكرتنا الأساسية هنا أن «المجال العام» هو الوجه الآخر لنشوء «المدينة» في مختلف الخبرات الحضارية من الحضارة اليونانية إلى الحضارة الإسلامية.
وفكرتنا الأساسية هنا أن «المجال العام» هو الوجه الآخر لنشوء «المدينة» في مختلف الخبرات الحضارية بدءًا من الحضارة اليونانية القديمة، مروراً بالحضارة الإسلامية ، وصولاً إلى الحضارة الغربية الحديثة. ولكن لكل خبرة منها صبغة خاصة تميزها عن غيرها. وينطبق ذلك على السياسة والاجتماع في المدن الإغريقية واليونانية القديمة، وعلى المدن والمراكز الحضرية الأوروبية الوسيطة والحديثة، كما ينطبق على السياسة والاجتماع في المدن الفرعونية والبابلية والهندية والصينية القديمة، وعلى المدن والمراكز الحضرية العربية والإسلامية، والمشرقية عمومًا؛ الوسيطة والحديثة أيضًا.
ومن المنطقي أن يؤدي اختلاف «فلسفة العمران» المديني من حضارة إلى أخرى ، إلى اختلاف موقع المجال العام ومكوناته ووظائفه تبعًا لذلك. وهذا الافتراض تؤكده كثير من الدراسات المقارنة للتكوينات المدينية عبر التجارب الحضارية المختلفة، وإن كان البعض ـ وخاصة من الذين ينتمون إلى مدرسة الاستشراق ـ قد حاول طمس هوية المدينة «الإسلامية» بدعوي أنها لم تضف شيئًا إلى التنظيم المديني الذي عرفه الإغريق واليونانيون، إلى حد القول بأن المدينة الإسلامية لم تعرف مجالاً عامًا، ولم يكن لها اجتماع سياسي خاص بها.
ولدينا من الأدلة والبراهين التي تؤكد عكس ذلك الادعاء، وبخاصة من منظور تميز المجال العام في المدينة «الإسلامية» منذ نشأة نموذجها الأول ( المدينة المنورة) عنه في غيرها من التكوينات المدينية التي تنتمي إلى خبرات حضارية أخرى. أقول هذا رغم أن الأحوال الراهنة في كثير من «المدن» في مجتمعات الأمة الإسلامية قد فقدت الكثير من تلك المقومات الأصيلة التي أرساها الاجتماع السياسي الإسلامي. وقد آلت أغلب مدننا إلى وضع يمكن وصفها فيه بأنها مدن ذات هوية مشوهة، وذات اجتماع سياسي شديد الالتباس والتوحش عوضًا عن التميز و«التأنس» بحسب تعبيرات ابن خلدون.
وإذا كان التشوه، أو الاختلاط، بما يرافقه من حالات الالتباس والتوحش الذي آلت إليه «المدينة» الإسلامية الموروثة منذ مئات السنين قد حدث بفعل عوادي الزمن، وعوامل الإهمال، وتدني قدرات الإدارة العامة في ظل «الدولة العربية الحديثة» وعجزها عن سياسة شئون المدينة بكفاءة؛ فإن المدن الجديدة التي نشأت حديثًا في أغلب بلدان العالم الإسلامي؛ قد أصابها من التشوه والتوحش أكثر كثيرًا مما أصاب المدن القديمة، وخاصة فيما يتعلق بتآكل «المجال العام» إلى حد التلاشي: المادي والمعنوي.
وطبقًا للقانون العام الذي يحكم نشأة وتطور المدن في مختلف التجارب العمرانية، فإن المراحل الأولى من عمر المدينة غالبًا ما تتسم بدرجة عالية من الانضباط البنائي، والانتظام الوظيفي وفق الخطط الأساسية الموضوعة للتكوين المديني ومراعاة البنية الأساسية للمجال العام، ثم قد يحدث بعد مرور أحقاب زمنية طويلة نسبيًا أن يختل ذلك الانضباط، ويتحول الانتظام إلي العشوائية.
ولكن يبدو أن هذا «القانون العام» لا يعمل وفق تقادم الزمن في حالة المدن الجديدة التي ظهرت في بلادنا الإسلامية خلال النصف قرن الأخير على الأقل؛ إذ سرعان ما ظهرت في تلك المدن جوانب اختلال متعددة، وغزتها العشوائيات المنقولة من المدن القديمة، والمستحدثة، بل ونشأت أغلب هذه المدن «غريبة» في بيئتها؛ إذ لا تكاد تتميز بشخصية ذاتية مستقلة؛ فلا هي مدن «إسلامية»، ولا هي مدن «أوروبية»؛ لا هي مدن «زراعة وإنتاج» ولا هي مدن «تجارة ورواج» على ما كانت عليه تقسيمات المدن في الحضارة الإسلامية. والملفت للنظر أن مخططي هذه المدن الجديدة، يتنافسون مع الجهات المسئولة عن إدارتها في الشكوى من فقدانها لذاتية حضارية مستقلة، وينددون بسلبياتها وخطورتها على «الإنسان» الذي يعيش فيها، أو الذي يبحث عن مصدر رزقه في جنباتها.
ما نؤكد عليه هنا هو أن «المجال العام» بالمعايير القيمية والتاريخية للاجتماع السياسي في المدينة الإسلامية له بنيتان: الأولى معنوية تشتمل على مجموعة من القيم والمبادئ الأخلاقية والإنسانية التي تؤكد وجوب التشارك في «الكرامة، والحرية، والعدالة، والسلام» بين جميع قاطنيها؛ أيًا كانت مللهم، ومهما اختلفت أديانهم واعتقاداتهم. والثانية مادية تشتمل على مجموعة من المؤسسات والأطر المكانية التي تكون بمثابة ساحة لممارسة تلك القيم، وقد أظهرت التجربة التاريخية أن «نظام الوقف» كان قاعدة مادية صلبة قامت عليها عديد من تلك الأطر والمؤسسات والمرافق العامة. وفي ظل هذا «المجال العام» اكتسب «الإجماع»، واكتسب «الرأي العام» ملامحه الأساسية داخل تقاليد الاجتماع السياسي في تجربته الإسلامية. وقد تكون لنا عودة أخرى إلى هذا الموضوع.
(المصدر: إضاءات)