مقالاتمقالات مختارة

الإيمان والإلحاد.. بين الموضوعية والذاتية

بقلم عادل كوننار

من المؤكد أن تناول موضوع يخص الإيمان والإلحاد سيجعلنا نتحسس كلماتنا كمن يمشي على أرض موحلة، وذلك نظرا للقدر الكبير من الحساسية التي يكتسيها هذا الموضوع، وهو وإن كان شأنا كونيا ما دام يخص الإنسان أينما كان، إلا أننا سننطلق فيه من خصوصيتنا العربية، فلا تخفى على أحد تلك اللازمة الشهيرة التي تقول بأن الشعوب العربية هي شعوب متدينة بطبعها، بيد أن هذا الأمر ليس صحيحا سوى من حيث الظاهر، في حين أن هذا التدين المحتفى به لا يعبر في الباطن عن ذلك العمق الإيماني، بمعنى أن الدين وبرغم حضوره القوي في الطقوس والشعائر واستدعائه الدائم في مختلف مناحي حياتنا إلا أننا نبقى بعيدين عن ملامسة روحه، ومن أبرز تداعيات هذا الوضع ظهور اتجاهات تفاعلية في السنين الأخيرة، منها ما يسائل مقاربتنا للدين ومنها ما يسائل الدين برمته، إلى درجة بزوغ موجة إلحادية في صفوف عدد من الشباب العربي تزامنت مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، التي شكلت بالنسبة لهؤلاء وسيلة للظهور إلى العلن وللتعبير عن الذات.
وفي خضم هذه المعطيات الجديدة، يحق لنا أن نتساءل فيما إذا كان هذا الاتجاه الإلحادي أو الإلحاد عموما مبنيا على توجه موضوعي؟ كما نتساءل في ذات السياق عما إذا كان أولئك الذين نشؤوا متدينين يرتكزون في إيمانهم على توجه موضوعي؟ أم يمكننا الحديث في الحالتين عن اختيار نفسي وعاطفي أحكم ترسيخ حقيقته على أساس ذاتي يسعى لإثبات أفكار مسبقة؛ أي لا لبناء حقيقة وإنما لفرض حقيقة بعينها، في ما يشبه ما قاله أحدهم بحكمة خفية “لقد حسمت قناعاتي ولملمت أوراقي، فلا تزعجني بحقائق مخالفة”.

من دون شك أن أصدق وصف يمكن أن يوصف به العصر الحديث هو أن يقال بأنه عصر العلم بامتياز، فالمكتسبات العلمية قد تقدمت بشكل مذهل في فك رموز العالم بما جعل الإنسان يمضي شوطا بعيدا في الفلسفة وفي فهم التاريخ الإنساني، مما جعل هذه الفتوحات العلمية الجديدة تبدع تلك النزعة الإنسانية التي تنظر إلى الإنسان كقيمة عليا، لكن وقبل أن يصل العلم إلى هذه المكانة والنتيجة، فقد كان عليه أن يخوض مبارزة شرسة مع الدين، في علاقة طبعها الكثير من التوتر والصراع.

وقد انطلقت شرارة هذا الصراع مع النهضة الأوروبية وبخاصة مع الثورة الكوبرنيكية التي بينت أن مركز الكون ليس كوكب الأرض، كما كان مزعوما بسند ديني، وإنما الشمس، فيما الأرض لا تعدو كونها كوكبا صغيرا ضمن منظومة تدور حول الشمس، هذا الاكتشاف العلمي المبهر لم يكن ليستقبله رجال الدين آنذاك بشكل يسير، في حقبة كان صرح الحياة السياسية والاجتماعية فيها مشيدا على التفسيرات الدينية للكون، وذاك ما يفسر التضييق الذي تعرض له العلماء في مناخ كان يطل فيه رجال الدين على رجال العلم من نافذة مرتفعة، متوعدينهم بخطاب قهري دوغمائي.

غير أن هذه السطوة اللاهوتية ولأنها لم تكن قادرة على إعطاء ما يكفي من الإجابات الوجودية، فإنها لم تفلح بالنهاية في إيقاف عجلة التطور العلمي الذي نال أخيرا فرصته في تقديم الأجوبة الحياتية المبحوث عنها، مستفيدا في ذلك من اكتساح حركة تنويرية شاملة أتت بعهد حداثي كان من أبرز سماته انقلاب الموازين بين الدين والعلم لصالح هذا الأخير، وذلك من خلال توجه جديد يسعى إلى فهم الكون والأسئلة الوجودية اعتمادا على منظار واحد؛ ألا وهو منظار العلم.

كل هذه التغيرات كان لا بد من أن تكون لها إرهاصات مباشرة على الإيمان الديني لدى الفرد، والذي تراوح مع غلبة العلم بين الاختزال إلى حرية شخصية مقصورة على مساحة فردية، وبين إغفال تام لهذا الجزء الروحي من الإنسان ومن تطلعه الغيبي إلى السماء، وهذا المعطى الثاني تحديدا هو ما جعل الاستغناء عن فكرة الحياة بعد الموت تدغدغ خيال الكثيرين في العصر الحديث، جاعلين هدفهم الأسمى هو تحقيق السعادة في الحياة الدنيا، فما دام الإنسان بالنسبة لهؤلاء غير قادر على التواصل مع الإله الخالق للحصول على أجوبة على التساؤلات التي تعصف به، فالأحرى به أن يستعيض عن هذا الإله بالعلم، ومن هنا يبرز التساؤل فيما إذا تمكن العلم من النجاح في هذه المهمة الموكلة إليه.

والواقع أن الجواب عن هذا السؤال يوصلنا إلى الفكرة الجوهرية لهذا المقال؛ وهي موضوعية الاعتقادات المرتبطة بالدين من عدمها، ذلك أن العلم لم يفلح بدوره في منح الإنسان ذلك المعنى المنشود لوجوده، ولا لبى لديه بشكل نهائي ذلك النزوع إلى بلوغ الكمال، وبالتالي فالملحد الذي بنى إلحاده على العلم لا يمكنه ادعاء معانقة الحقيقة، فلا يزال هنالك الكثير من الثغرات التي عجز العلم عن ملئها مكتفيا بإعطاء وعد بأنها ستتكشف أمامه في المستقبل، وهو في ذلك لا يختلف عن المتدينين القائلين بالقدرة الإلهية على الإجابة عن كل ما عجزوا عن تفسيره من القضايا الغيبية.

المواقف العقدية (إيمانا أو إلحادا) هي مواقف تدخل في دائرة المنطق العاطفي الذي يرتكز على مبادئ معنوية يتعذر قياسها وتقديرها

وهكذا، فمن غير الممكن اعتبار العلم وسيلة لإزاحة الدين، فكل ما سيكون ممكنا هو الاستعانة بآراء علمية في ترجيح كفة هذا الاتجاه أو ذاك، فالعلم ليس بالنهاية حكرا على الملحدين دون المتدينين، لكن دون أن يكون لأي طرف الحق في اعتبار كفته هي الأصح دون سواها، ففي الحالتين لا يستطيع لا الملحد ولا المؤمن تقديم برهنة علمية يقينية، تجعل موقفه رافعا للواء الحقيقة بشكل مطلق وثابت، فلا يتبقى لكليهما سوى الاعتماد على مخاض ذاتي يرتكز بالإضافة إلى المعطى العلمي العقلاني على معطيات أخرى سيكولوجية وسوسيولوجية.

من هنا نستخلص أن الآراء والمواقف العقدية (إيمانا أوإلحادا) هي مواقف تدخل في دائرة المنطق العاطفي الذي يرتكز على مبادئ معنوية يتعذر قياسها وتقديرها على وجه الدقة والصحة، على العكس من المنطق العلمي الذي يستند إلى مبادئ مادية مستنبطة من التجربة والاختبار، مما يجعل مجال اشتغال العلم بعيدا عن الإحاطة بالمسائل الروحية التي يدخل الاعتقاد في نطاقها، وبالتالي فسواء تعلق الأمر بالالتزام بعقيدة أو بتركها، فالكلمة الفصل تعود للمشاعر التي تقود الإنسان في تشكيل هذه الأفكار الذاتية، ولا حول للعقل إزاء هذه السُّنة القاهرة، فحتى عندما يتم الرجوع إلى العقل فلن يكون ذلك إلا لهدف تثبيت هذا الاختيار أو ذاك، أي إن العقل سيكون في آخر المطاف عبدا لميولات صاحبه.

بالنهاية إذن، ليس لأي كان ترف ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، فليس هنالك إيمان كامل كما أنه ليس هنالك إلحاد كامل، ما يوجد هو فقط منطقة وسطى بين الاثنين، هنا فقط تكمن الحقيقة، أما على الأطراف فلا يوجد شيء البتة، ولذلك كان القلق الوجودي وسيظل صفة لصيقة بالكائن البشري، وسيستمر هذا القلق في ملازمته للإنسان إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، ذلك أن الطبيعة البشرية محكومة دوما وأبدا باستشعار النقص والتطلع إلى الكمال.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى