مقالاتمقالات مختارة

العلاقة بين السلطة الاستبدادية والجماعات الدينية

بقلم اسماعيل عمار

يوصف الدين بالسلبية عندما يتخذ معتنقوه خط الانحدار نحو التقوقع والانهزام في مواجهة تحديات الواقع ومشاكله المعقدة طريقا لهم. فالدين ثابت بذاته، متحرك بفعل الآخر؛ مما يجعل المسافة الفاصلة بين الدين والمتدين متماهية أو تساوي الصفر، فلا دين من دون متدين.
المشكلة ليست في الدين إنما في المُتدين أو المعتنق على الرغم من أنّ هذا الجواب يكون دائما للتملص من فتح الباب أمام التفحيص الدقيق لآراء، وفتاوى باتت اليوم من قطعيات الدين، ولايمكن المساس بها وذلك بتجاهل الإشكاليات والتحديات التي تبرزها وتجذرها هذه الفتاوى في واقعنا المعاش، فلا تؤدي إلى تفتيت المجتمع وتحويله إلى كيانات متصارعة مذهبيا، بل تضع العصا دائما في عجلة الإصلاح الديني، وتغلق باب الاجتهاد بإطلاق أحكام مجمّلة؛ تؤدي إلى التكفير والزّندقة للمجتهد، لا إلى نقد الفكرة أو الفتوى المجتهدة.
ولا يمكن أن ننسى أو نجهل دور السلطات الاستبدادية والقوى الاستعمارية في الاستفادة من هذه الفتاوى التكفيرية ونشرها في البيئات الفقيرة والجاهلة؛ لاحتضانها وإنتاج جماعات جهادية عمياء يسهل توجيهها وجعلها أداة تُستخدم لتفرقة وتحجيم المجموعات الاجتماعية، وإنتاج جيوش دعوية ترى في نفسها الحقيقة المطلقة.
فإذا أردنا تحميل المسؤولية للمتدين أو لممارس التعاليم الدينية دون الدين -والمقصود بالدين في هذا الطرح تلك الفتاوى المسقطة على واقعنا دون الأخذ بعين الاعتبار زمانية ومكانية واجتماعية هذه الفتاوى- لن نساهم بحل المشكلة التي حلّت بنا، ولكن فقط نؤجلها وندفع بها إلى الأمام دون أن ندرك أنّ تبرئة طرف على حساب الآخر يعني الانجرار أكثر نحو مستنقعات الدماء وتكديس جثث الموتى. لا ينبغي أبدا أن نهرب من طرح الأسئلة الموجعة حتى وإن كانت متعلقة بالمعتقد؛ ما دمنا ندرك تماما أن الفواجع، والجثث المكدسة، وقوافل المشردين، ومحاربة تطلعات الشعوب في نيل حريتها وكرامتها من أنياب الاستبداد والتسلّط، قد تمت تحت تفسيرات وشروح لنصوص دينية ترافق كل عمل إجرامي.
أو على الأقل هذا ما يتم إرفاقه مع فيديوهات المنابر الإعلامية لهذه الجماعات الدينية، أو تملأ به نشراتها الدعوية التي دائما ما ترفض الواقع وتنفي وجود الآخر، فالدين -كما يُقدَّم من خلال فتاوى مجتزأة- يعطي ملجأ لهذه الجماعات، ويحصّنها من النّقد، ويوفّر المادة اللازمة لإقناع كلّ أولئك المنهزمين من الواقع وصعوبة تحدياته بالحنين إلى الماضي البعيد؛ أي إنّ هؤلاء المريدين جاهزون مسبقا للاندماج والتفاعل مع هذه المواد والفتاوى.
فالدين كما عرفه دوركهايم “هو تسام للجماعة من أجل إعادة إنتاجها باعتبارها حالة من الوحدة”، هذا التعريف يكون صحيحا ومطابقا لحركية الإسلام المتصاعدة في صدر الإسلام حتى مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفّان -رضي الله عنه-، حيث كشفت الهويات العصبية والقبلية عن ذاتها بالتجاء القتلة إلى قبائلهم هربا من القصاص والمحاسبة؛ فأدّت بطبيعة الحال إلى إضعاف الرابطة الدينية التي وحدت أشتات العرب لتبعثهم أمّة واحدة أخضعت العالم القديم.
أعتقد أن الإشكالية كانت بتمويه المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية بغطاء ديني، فالدين ليس هو الإشكال، بل المتدين جعل المشكلة هي الدين. باستطراد تاريخي للدول الإسلامية حتى سقوط الدولة العثمانية نجد عددا من الحروب والصراعات على السلطة كانت حروبا دينية؛ أدت لنشوء دول مذهبية وطائفية، أو دول من ذات الطائفة الواحدة ولكن بتفسيرات وشروح للنصوص الدينية بحسب الحالة التي تستوجب البقاء في السّلطة.
فالعلاقة الثلاثية بين الدين والمتدين والسلطة لعبت دورا مهما في نشوب حروب وصراعات مفجعة ومطردة، ولازالت هذه الثلاثية تحكم شرقنا الأوسطي، وتفتته إلى كيانات طائفية دموية، فالحركات الشمولية الإيدلوجية لا ترى أي حق لصوت فكري في رأي أي جماعة أو حزب أو مفكر آخر لا ينتمي لهذه الإيدلوجية؛ مما يسهل استخدام هذه الحركات كأداة توجَّه بحسب الحالة التي تستوجبها المرحلة التاريخية، وطالما تعتبر هذه الحركات أن الحقيقة المطلقة في حوزتها هي قد ترفض التعاون مع أي طرف، وقد تقبل التعاون مع أي طرف، فالأمر سيان، مما لا يثير الدهشة عندما ترى جماعات إسلامية تتقاتل فيما بينها لأسباب لا تستوجب إثارة نزاع مسلح أو حتى احتكاك، بينما تجدها تجمد القتال في جبهات النظام الذي أثخن في جرائمه لحد تجاوز كل البشاعة.
(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى