مقالاتمقالات مختارة

دعاة التنوير .. وإعادة التدوير

بقلم عبدالله الشتوي

مع انتشار الفوضى العلمية والخوض في الشرائع والعقائد من غير وازع، ارتفعت أصوات دعاة التنوير بين المسلمين بصفتهم يقدمون نظرة جديدة للإسلام تتجاوز ما يعتبرونه من الفقهاء تحجرا وجمودا، ومع كثرة هؤلاء فإنه لا يكاد يجمع بينهم منهج ناظم يرجعون إليه غير دعوى التحرر وإعمال العقل… أو بالأحرى الجرأة على شرائع الاسلام نقضا وهدما…
ثم إن تأمل هذه الدعاوى يجعلك ترى بينها أخلاطا من أفكار قديمة وأخرى حديثة كلها مستنسخة عن مذاهب غريبة عن أهل السنة، لتجد التنويري يستعين بأخلاط من أفكار الشيعة والمعتزلة وآراء المستشرقين والمذاهب المعاصرة كالماركسية والليبرالية…
ومما تحسن الاشارة إليه أن التراتبية في اعتماد هذه الافكار في التنوير تخضع لأولويات القوة والهيمنة، فالكلمة العليا للمذاهب المعاصرة وإنما تتم الاستعانة ببعض الفرق الاسلامية ليسهل تسويق المذاهب الغربية في البيئة الاسلامية. فالاتكاء على آراء المعتزلة لا يقصد به نصرة مذهبهم أصالة، بل هو طريقة للالتفاف على الخضوع والتسليم للشريعة بدعوى إعمال العقل، ومن ثم يمكن تجاوز الوحي لتحل محله المذاهب الغربية… وتمجيد بعض الآراء الشيعية ليس لسواد عيون آل البيت كما يروّجون بل هو طريقة لجعل رؤية المسلمين لكثير من وقائع التاريخ أكثر ضبابية ومن ثم يسهل التشكيك في كل شيء…
وهكذا سترى أن هذا الانحياز لآراء بعض الفرق الاسلامية ليس إلا سبيلا ”لأسلمة الفكر الوافد” وتجنب المواجهة المباشرة مع ثوابت المسلمين… وتأمل هذا الكلام للدكتور عابد الجابري : ”لا الوضعية الثقافية والبنية الفكرية العامة المهيمنة ولا درجة النضوج لدى المثقفين أنفسهم يسمح بهذا النوع من الفولتيرية للنقد اللاهوتي ولا السياسة تسمح وبطبيعة الحال فإن الانسان يجب أن يعيش داخل واقعه لا خارجه حتى يستطيع تغييره”، ثم يقرر الطريق المناسب للوصول إلى هذا التغيير المنشود بقوله: ” نستطيع بشكل أو بآخر استغلال الحوار الذي دار في تاريخنا الثقافي بين المتكلمين بعضهم مع بعض ونوظف هذا الحوار، لنا حرمات يجب أن نحترمها حتى تتطور الأمور”.

وفي هذا المقال وما يتبعه نتناول بعض المعتقدات والأفكار التي تم تدويرها في معامل ”التنوير المزعوم” لتقدم للمسلمين على أنها تجديد لهذا الدين وخروج به من دائرة الجمود والتقليد…

1- تدوير المذاهب القديمة (التشيُّع والاعتزال):

سعى دعاة التنوير الجدد للرفع من مكانة العقل (عقولهم) لتجاوز النصوص الشرعية وإسقاطها، وكما احتفل المعتزلة القدامى بالفلسفة والمنطق اليوناني واستخفوا بفقه السلف المستند إلى الكتاب والسنة، تلقف المعاصرون الفلسفات الغربية الوافدة وحاولوا ملاءمتها مع الاسلام، فوجدوا في فكر الاعتزال متكئا للتعامل مع نصوص الوحي بطريقة الفيلسوف الملحد ”سبينوزا”، لكن بعمامة إسلامية.
فحين يقول الفيلسوف سبينوزا: ”لسنا ملزمين بالإيمان بالأنبياء إلا فيما يتعلق بغاية الوحي وجوهره”، يلتقط هؤلاء الدعاة هذه العقيدة الفلسفية الغربية ويسبغون عليها لباس العقل باعتماد آليات المعتزلة في رد النصوص الشرعية، ومن ذلك أنهم يردون الأحاديث الصحيحة بحجج عقلية واهية، أو يصفونها بأنها أخبار آحاد لا ترقى للقطع مع أنهم يتعلقون بأوهى المرويات حينما يرون فيها ما يؤيد آراءهم، فلا يصح من السنة إلا ما وافق النظرة الغربية للحياة فيكون التصديق بالوحي مرتبطا عند هؤلاء فقط بكونه يسير في ركب عقولهم أو أهوائهم… أو لنقل بطريقة أخرى أنهم يستعملون الوحي لإضفاء القداسة على آرائهم المستوردة!
هذا الاتكاء على مذهب الاعتزال يفسِّر استماتة كثير من التنويريين في الدفاع عن آراء لا أثر لها أصلا في واقع الناس الذين يدَّعون النهوض بهم، فقد نتفهم سبب إصرار هؤلاء على الاعتراض على بعض الشرائع كالحدود والجهاد بسبب ما تسببه لهم من إحراج أمام أسياد الفكر في العالم اليوم، لكن ما الذي سيستفيده التنويري من إنكار ”عذاب القبر” مثلا؟ أليست المسألة غيبية من أصلها؟ وكيف يمكن أن يقف اعتقاد مثل هذا في طريق النهوض المزعوم… وما الفرق بين عذاب القبر ويوم الحساب الذي يقرُّ به غالبيتهم على مضض؟!
وقل مثل هذا في إنكارهم نزول المسيح عليه السلام وغيرها من الغيبيات…
ونجد هذا التأثر بالمذاهب القديمة واستثمارها في نقض الاسلام في تعاملهم مع الصحابة رضوان الله عليهم، فموقف المعتزلة وتنقصهم من الصحابة معلوم، أما الشيعة فذاك أصل مذهبهم ! ولهذا لا تجد من يحتج لموقفه من الصحابة إلا كان عالة على كتب القوم وما تفرع عنها…
ولنأخذ نموذجا يسيرا وهو كتاب المصري محمود أبو رية الذي احتفل به كثير من العصرانيين وصار مرجعا لهم في انتقاص أبي هريرة رضي الله عنه وقدّم له وأثنى عليه الدكتور طه حسين، على أن أبا رية في كثير من كلامه كان ينقل آراء المعمّم الشيعي عبدالحسين شرف الدين العاملي خصوصا في ترجمة أبي هريرة لكنه فاقه بسلاطة اللسان وبذاءة القول، ثم زاد على ذلك مصادر مثل كتاب ”الحضارة الاسلامية” لكريمر وكتاب ”السيادة العربية” لفولتن، وكتاب تاريخ الشعوب الاسلامية لكارل بروكلمان، والعقيدة والشريعة في الاسلام لجولد زيهر، وتاريخ التمدن الاسلامي لجورجي زيدان، وغيرها من كتب النصارى والمستشرقين التي يقرّ أبو رية باعتمادها كمراجع.

2- تدوير المذاهب المعاصرة (أسلمة الماركسية):

أدى السقوط المدوّي الذي عرفه التيار الماركسي نهاية القرن الماضي إلى التحاق أفواج من الكُتَّاب والصحفيين والمؤلفين بحركة نقد التراث الاسلامي لتبدأ حملة من ”أسلمة الماركسية” أو “مركسة الاسلام” في محاولة لإبقاء الفكر الماركسي على قيد الحياة ومحاولة جعله متناغما مع التاريخ الاسلامي.
وهكذا نجد في كتابات كثير من هؤلاء غلبة النزعة الماركسية المادية، بل يكفي مجرد الاطلاع على عناوين بعض الكتب لمعرفة مدى طغيان هذه النزعة مثل: ”قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية” لخليل عبد الكريم، وكتاب ”الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية” لسيد القمني.
اعتمد هذا التيار على تفسير ظهور الاسلام في الجزيرة العربية على تأويلات مادية، فصوّروا ظهور الدعوة الاسلامية على أنها حتمية تاريخية وضرورة اقتصادية كان فيها إنشاء ”الدولة العربية” هو الغاية وحزب بني هاشم هو من تزعم هذا الحراك السياسي لإيجاد وحدة سياسية بين مختلف القبائل العربية، أما مسألة النبوة فقد كانت فكرة أخذت من اليهود مفادها أن الدولة ينشئها الأنبياء مثل مملكة داوود عليه السلام، ولم تكن فكرة توحيد الآلهة سوى طريق لتوحيد القبائل العربية سياسيا!!
وكي تستقيم هذه النظرة المادية للتاريخ كان لا بد من إطلاق العنان للخيال الماركسي في فهم التاريخ ولو اقتضى الأمر اختلاق أحداث وهمية، كما فعل سيد القمني حين ادعى أن مسألة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كانت أمرا مدبرا في بني هاشم من طرف الجد عبد المطلب، بل وصل به الخيال إلى أن ادعى أن أصل الخطة كان من ملك اليمن سيف بن ذي يزن الذي زاره عبد المطلب لتهنئته باستقلال أرض اليمن تحت سلطته، فكان بينهما لقاء سرّي حدد له في تفاصيل الخطة، لم يحضُره غيرهما، -طبعا بالإضافة إلى سيد القمني-.
وهكذا يسترسل العقل الماركسي في محاولة حشر الإسلام في قالب مادي محض، وإن اقتضى الأمر التعسف على حقائق التاريخ بما في ذل التحريف والتزوير…
والإشكال أساسا ليس في نقض هذا التصور الماركسي لأن مجرد قراءته تكفي لإسقاطه لكثرة ما فيه من التكلُّف والتعسُّف والكذب الصراح… لكنه يعطي فكرة أكثر عمقا للشعارات المرفوعة اليوم من قبيل ”المتاجرة بالدين” من طرف رجاله، فمثل هذا الشعار -وإن كان فيه جانب من الصحة- فهو في عمقه يخفي عقيدة فلسفية تقضي بأن الدين ليس إلا وسيلة لتحقيق مكاسب مادية، فما يقال عن ”رجال الدين” اليوم ينطبق حسب هؤلاء على أصل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخيرا، فإن تيار التنوير سواء اعتمد على مذاهب التراث أو على المذاهب المعاصرة فهو ليس إلا وسيلة لإيجاد موطئ قدم للفكر الغربي في المجتمعات المسلمة بعد الفشل في علمنتها وعولمتها باعتماد الآليات الغربية.

(المصدر: مركز يقين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى