مقالاتمقالات مختارة

تفكيك الثورة الموازية

بقلم عبد الغني مزوز

من المهم جدا أن ندرك أن اعتراض ثورات الشعوب وحرف مسارها لا يتم فقط عبر ثورات مضادة تلجأ إلى أساليب القمع والارهاب أو انقلابات عسكرية تطيح بمن بوأتهم الثورة سدة الحكم والسلطة، هذه الأساليب وإن ظلت سارية إلى عهد قريب ومستخدمة على نطاق واسع في أكثر من زمان ومكان إلا أن هناك نمطا آخر من مواجهة الثورات وتفكيك بناها وإعادة توجيه مساراتها لتنتهي عند النقطة التي بدأت منها؛ نظام مستبد عديم الشرعية ومناعة كافية للصمود في وجه أي ثورات ارتدادية قد تحصل في قادم السنوات، فالثورة إما أن تسقط نظاما مستبدا أو تمد في عمره.

هذا النمط من التصدي للثورات والكيد لها تم توظيفه في أكثر من ثورة وانتفاضة شعبية، لكنه أوضح ما يكون في الثورة السورية بسنواتها الست، حيث يمكن رصد ملامحه بارزة لكل متابع وملاحظ، جوهر هذا النمط يتمثل في صناعة مكونات ثورية تشارك في فعاليات الثورة (سياسيا وعسكريا) وترفع شعاراتها وتنادي بما ينادي به غيرها من الكيانات الثورية الأصيلة لكن ولائها وتبعيتها إما للنظام نفسه أو لجهات خارجية تعتبر عصب الثورات المضادة إدارة وتمويلا. فالخطر في هذه الحالة لا يأتي من معسكر النظام بقدر ما هو قابع في عقر دار الثورة. فالنظام الدولي وهو مشغول بإعادة تأهيل النظام الأسدي وترميم ما تداعى من شرعيته؛ مشغول في الوقت نفسه بتأمين معارضة له يصنعها صناعة أو ينتقيها من معسكر الثورة حسب معاييره وشروطه، وهذه من بين الأمور المهمة التي انتبه لها مبكرا الإمام حازم صلاح أبو إسماعيل.

داخل معسكر الثورة السورية بشقيها العسكري والسياسي تنشط عدة فصائل وكيانات مرتبطة عضويا وولاء إما بالنظام الأسدي أو بدول في الشرق والغرب تسعى لتأبيد النظام الطائفي وترى في سقوطه انتصارا للإرهاب الجهادي. فعلى الصعيد العسكري هناك فصائل مسلحة صنعتها المخابرات الأمريكية والبنتاغون وتمت صياغة برامجها ” الثورية” داخل أروقة هاتين المؤسستين، وهذا ليس من الرجم بالغيب بل هذا مما اطلع عليه الجميع واعترفت به هذه الفصائل حتى درج وصفها في الأوساط الثورية بفصائل البنتاغون، وهناك فصائل أخرى يقودها شيوخ من التيار المدخلي وتتلقى دعما سخيا من بعض دول الإقليم، ومعلوم أنه ما من ثورة تقوم إلا ويصطف المداخلة تلقائيا في الجانب المضاد لها إخلاصا منهم لعقيدتهم “السلفية النقية”، وموقفهم من الثورة الليبية والمصرية واليمنية مسجل ولا داعي لاستدعائه، وكتائب ” التوحيد” و” السلفية” مازالت تنفذ مجازرها إلى جانب أمير الحرب خليفة حفتر ضد مسلمي ليبيا إلى حد الساعة. كما أن هناك فصائل تتبع لما يسمى بغرف العمليات المشتركة (الموك مثلا) وهي غرف يديرها ضباط مخابرات أجانب وتتحكم في شؤون الفصائل المنضوية تحت مظلتها، وغالبا ما تبقى هذه الفصائل خامدة، تكدس الأسلحة في مخازنها وتصرف المرتبات لعناصرها في انتظار اللحظة المناسبة للتحرك، واللحظة المناسبة بالنسبة لهم هي عندما يسقط النظام ويصيب الإرهاق قوى الثورة فتندفع هي بكامل طاقتها وعنفوانها لتكون حينئد رقما صعبا وصوتا مسموعا.

هذا على الصعيد العسكري أما على الصعيد السياسي فثمة طيف واسع من التيارات والأشخاص والمنصات ينسب نفسه للثورة والمعارضة ويسعى لأن يكون ممثلا في هيئات التفاوض ومؤسساته. فهناك ما يسمى بمنصة القاهرة التي صنعت على عين المخابرات المصرية، وأخرى تتخذ من العاصمة الروسية موسكو مقرا لها وتمارس نضالها السياسي من هناك، بل توجد معارضة تسمى ” منصة حميميم ” لأن رؤوسها كثيرا ما يترددون على قاعدة حميميم العسكرية الروسية، ولك أن تتخيل ما وسعك الخيال معارضة تستوطن قاعدة عسكرية تابعة لحامي النظام الذي تزعم معارضته!! ومكمن الخطورة في كل هذا أن بعض الفصائل العسكرية التي لم يسعفها الوعي والفهم العميق لخطط النظام الدولي في إعادة إنتاج النظام الطائفي انخرطت في مسار سياسي مناقض لمبادئ وأهداف الثورة فوجدت نفسها اليوم مرغمة على الاعتراف بالمنصات المذكورة كمكونات سياسية معارضة وتتقاسم معها القرار السياسي ” المعارض” ضمن هيكل تنظيمي واحد، وإلا سحب عنها الدعم ووصمت بالإرهاب.
إذن فهناك ثورة أصيلة بأفكارها ومبادئها وحركتها ومكوناتها وهناك ثورة موازية صنعت لتواكب الثورة الأصيلة وتسير بحدائها فإن حسم الصراع لصالح الثورة المضادة، فستنال حصتها من السلطة والنفوذ والامتيازات باعتبارها رافدا من روافد الثورة المضادة، وإن انتصرت الثورة كانت جزء منها إلى أن تنقلب عليها فتعيد استدعاء النظام السابق أو تؤسس شبيها له على انقاضه. منصة القاهرة وموسكو وحميميم وفصائل المدخلية والبنتاغون.. كلها مكونات طارئة على الثورة تشكل في مجموعها خطا ثوريا موازيا للخط الثوري الأصيل الذي يسعى لتحرير الأمة من الاستبداد والتبعية ويعيد الاعتبار لهويتها وحضارتها.

ثمة عدة وسائل وطرق لفرز المكونات الثورية الأصيلة عن الموازية أو المزيفة لكن يمكن اعتماد أهم معيار للفرز والتصنيف، ونتحدث هنا عن المكونات التي نجحت في تمويه نفسها في بيئة الثورة وليس عن تلك التي تجاهر بولاءاتها وارتباطاتها، هذا المعيار هو مدى حضور مطلب الاستقلال والتحرر في حركتها وبرنامجها الثوري. إن أصل أزمة الأمة ومنبثها يكمن في وقوعها تحت وطأة الوصاية الخارجية وفقدانها لمبدأ السيادة والاستقلال، ومعظم ما يعتري جسد الأمة من علل ونكبات مجرد أعراض وتجليات لهذه الأزمة وبالتالي فإن أي حركة أو كيان يزعم لمشاركة في تصحيح أوضاع الأمة لكنه يصدر في قراراته وأفعاله عن إرادة أجنبية تتبع قوى الجبر والوصاية الدولية هو في حقيقته كيان يبتغي –أدرك ذلك أم لم يدركه- تعميق الأزمة وتأبيدها، وإعطاء الفرصة لهذه القوى من أجل الالتفاف على ثورات الأمة وإعطابها من الداخل.

في الثورة السورية –كما غيرها- عدد من الجماعات والفصائل تأسست بموجب برامج التدريب والدعم الأمريكية، بعضها يحمل أسماء تحيل على شخصيات تاريخية إسلامية ويرفع شعارات ثورية وإسلامية، لكنها أبعد ما تكون عن روح الثورة وأهدافها وتطلعاتها، إنها ثورة موازية ومشروع ثورة مضادة لم يحن أوان تحركها بعد. ولذا يجب الوعي بضرورة صيانة الثورة والتعامل مع الكيانات المشبوهة داخلها بحزم وذكاء. يجب رصد مكامن وبؤر الثورة الموازية في النسيج الثوري والعمل على محاصرتها وتفكيكها ومنع استشرائها. وهذه المهمة تستدعي العمل على مستويات عدة؛ الأول: على صعيد نشر الوعي الثوري الصحيح، والتعريف بحقيقة قوى الجبر والوصاية الدولية ودورها في النكبات التي حلت بالأمة، من رعايتها للمستبدين واستنزافها لثروات الأمة ومواردها، واحتلالها بلدانا وأقطارها إسلامية عدة، وأن التعاون معها يعتبر تواطئا مع خصوم الأمة ومساهمة فعالة في العدوان عليها. وينبغي تأصيل ذلك شرعيا وعقديا.

ثانيا: محاصرة مكونات الثورة الموازية وتجريدها من الشرعية، وبيان حقيقتها للناس، وإبعادها عن دوائر صناعة القرار الثوري، ومنعها من المشاركة في فعاليات الثورة وغرف عملياتها، ووضعها تحت المراقبة.

ثالثا: العمل على تفكيك هذه المكونات في مراحلها الجنينية وعدم تركها تمتد وتتوغل داخل مفاصل الثورة، ويجب على قوى الثورة الأصيلة أن تتحد وتتكاتف فيما بينها لعزل هذه المكونات وإظهارها كنشاز يتحرك خارج الإجماع الثوري. ومن تم التعامل معها بما يحد من فعاليتها أو ينهي وجودها بالمرة.

من المهمات التي تضطلع بهذا هذه الكيانات الوظيفية داخل معسكر الثورة هي المشاركة في مقترحات الحل المشبوهة التي يتقدم بها خصوم الثورة ومنحها المصداقية والوجاهة لإظهار القوى الثورية المقاطعة لها كقوى متطرفة لا تريد الحل السياسي للقضية[ قدري جميل رئيس منصة موسكو اعترف بأنه فرض استراتيجيته على 140 عضوا “معارضا” ممن حضروا مؤتمر “الرياض2” انظر: الواقعية السياسية حجة المعارضة للإنخراط في المسار الروسي، ملف القدس العربي الأسبوعي العدد: 9025]. انظر مثلا إلى محطات التفاوض المختلفة التي تخللت مسار الثورة السورية، كل الفصائل والشخصيات المشاركة فيها مرتبطة عضويا وولاء بجهات إقليمية ودولية. وعندما ننظر إلى مشاريع التوحد والاندماج التي طرحتها بعض الفصائل من أجل تصحيح أوضاع الثورة نجد أن الجماعات الرافضة لها هي نفسها المحسوبة على الجهات الدولية والإقليمية.

من بين الأخطاء التي ارتكبها الرئيس محمد مرسي أنه لم يتعامل بحزم مع مكونات الثورة الموازية (حزب النور؛ البرادعي؛ فلول القوميين والاشتراكيين..) بل سعى للتقرب منها أكثر من مرة مقابل تهميشه قوى الثورة الأصيلة (حازمون؛ شباب الثورة؛ الإسلاميون الثوريون..) فكانت النتيجة تلك المأساة التي مازال العالم يتابع تفاصيها حتى الآن.

إذن، على القوى الثورية أن تتحلى بالوعي واليقظة، وتراقب عن كتب مكونات الثورة الموازية، وتعمل على عزلها وتفكيكها، صيانة للثورة ومكتسباتها وقطعا للطريق أمام مشاريع حفترية يُراد استنساخها في سوريا وغير سوريا، تنتهي بإعادة انتاج الحقب العربية السوداء بتفاصيلها وقصصها المريرة.

(المصدر: مجلة كلمة حق)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى