“الدِّيةُ المربعةُ” بين الفقه الإسلامي والعرف العشائري
بقلم الشيخ أ. د. حسام الدين عفاتة
يقول السائل:على إثر جريمة قتلٍ مروعةٍ قرر العرفُ العشائري أن دية القتيل مربعةٌ،لأن الجاني قتل المغدور ومثَّلَ بجثته،وتسمى تلك الفعلة في العرف العشائري “الدليخة”وهي موجبةٌ لأربع دياتٍ،ويُعبر عنها بأربع رايات،فما الحكم الشرعي في تربيع الدية،أفيدونا؟
الجواب:
أولاً:ما يعرف بالقضاء العشائري أو العرف العشائري هو في الحقيقة قضاءٌ بالعرف،وهو كما يقول المهتمون به:[مجموعةٌ من القوانين والأعراف المتداولة والمتعارف عليها،والتي تحوي خلاصة تجارب السنين،وما مرَّ به المجتمع البدوي من أمورٍ ومشاكل،تكرَّر حدوثها حتى وجد الناس لها حلولاً رضوا عنها،وصاروا يتعاملون بها حتى ثبتت وأصبحت دستوراً يتعامل به الناس ويسيرون وفق نظامه وتعاليمه.وهذا القانون قابلٌ للتعديل والإضافة،ليتماشى مع كلّ عصر وفق بيئته وظروفه] شبكة الانترنت.
ولا شك أن للعرف العشائري جوانب إيجابية في المجتمع،حيث يلجأ الناسُ لرجال العشائر في الحوادث،وخاصةً حوادث القتل،وللعرف العشائري دورٌ واضحٌ في تهدئة النفوس عند حصول حوادث القتل بأخذ ما يُعرف بالعطوة،ولكن هنالك أموراً كثيرة في الأعراف العشائرية مخالفة لشرع الله عز وجل يحرمُ الحكم بها.ومن ذلك تربيع الدية،حيث إن العرف العشائري يقرر أربعَ دياتٍ في عدة حالاتٍ منها:
قتل النائم،قتل الغدر والغيلة، ويسمونه “الساهي اللاهي”،القتل مع التمثيل في الجثة،دية شيخ القبيلة،قتل المرأة عمداً،القتل المنكور -إذا أنكر القاتلُ القتلَ وأخفاه مدةً ثم ثبت القتلُ بعد ذلك-،قتل الدليخة،وهي أن يقتل الجاني ضيفة أو صاحبه وينكره،ولها أربع ديات أو أربع رقاب.ودية القتل في وجه الكفلاء مربعة،وقد يصل حق تقطيع الوجه إلى دية مربعة وغير ذلك.
ثانياً:لا شك أن حرمة دم المسلم من أعظم الحرمات عند الله سبحانه وتعالى،وقتل النفس المعصومة عمداً من أكبر الكبائر، وقد وردت النصوص الكثيرة من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم التي تدل على ذلك منها:
قوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا}سورة الإسراء الآية 33.
وقوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}سورة النساء الآية 93.
وقال تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}سـورة الـفـرقان الآيتان 68-69.
وثبت في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:(ذَكَرَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الكَبَائِرَ،أوْ سُئِلَ عَنِ الكَبَائِرِ فَقالَ:الشِّرْكُ باللَّهِ،وقَتْلُ النَّفْسِ،وعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ،فَقالَ:ألَا أُنَبِّئُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟قالَ:قَوْلُ الزُّورِ،أوْ قالَ:شَهَادَةُ الزُّورِ.قالَ شُعْبَةُ:وأَكْثَرُ ظَنِّي أنَّه قالَ: شَهَادَةُ الزُّورِ)رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( جتنِبوا السَّبعَ الموبقاتِ قيلَ:يا رسولَ اللهِ!وما هنَّ؟ قال:الشِّركُ باللهِ،والسِّحرُ،وقتلُ النَّفسِ الَّتي حرَّمَ اللهُ إلَّا بالحقِّ،وأكلُ مالِ اليَتيمِ،وأكلُ الرِّبا،والتَّوَلِّي يومَ الزَّحفِ،وقَذفُ المُحصَناتِ الغافِلاتِ المؤمِناتِ) رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ في فُسْحَةٍ مِن دِينِهِ،ما لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)رواه البخاري. ونقل الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الشيخ ابن العربي قوله:الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول] فتح الباري 12/233-234.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث:الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة)رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره…كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله) رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دماً يقول يا رب هذا قتلني حتى يدنيه من العرش) رواه الترمذي،وقال هذا حديث حسن وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/40.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم) رواه الترمذي وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/56.
وفي رواية أخرى عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأْهَلَ أَرْضِهِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَدْخَلَهُمُ اللهُ النَّارَ)وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/629.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول:(ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأن نظن به إلا خيراً)رواه ابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/630. وغير ذلك من النصوص.
ثالثاً:اتفق أهل العلم على وجوب القصاص في حقِّ القاتل عمداً لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}سورة البقرة الآية 178.
وجمهور الفقهاء يرون جواز قبول الدية بعد إسقاط حق أولياء القتيل في القصاص،وهذا قول الحنابلة وبعض الشافعية،وهو رواية عن الإمام مالك،وبه قال أهل الظاهر وروي عن جماعة من فقهاء التابعين كسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين وعطاء ومجاهد،وهذا أرجح أقوال الفقهاء في المسألة.
ويدل عليه قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة البقرة، الآية 178.
وروى الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}قال:فالعفو أن يقبل الدية في العمد]صحيح البخاري مع الفتح 8/221.
ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا يُودَى وَإِمَّا يُقَادُ) رواه البخاري ومسلم.
رابعاً:الأصل المقرر عند الفقهاء وهو الذي دلت عليه الأدلة من القرآن الكريم ومن السنة النبوية،أن دية القتيل واحدةٌ ولا تتعدد،ويدل على ذلك قوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}سورة النساء الآية 92 .
وعن أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ:أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ بِكِتَابٍ فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ، وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقُرِئَتْ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ وفيه:(…وَإِنَّ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ فَهُوَ قَوَدٌ إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ،وَإِنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ،وَفِي الْأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ، وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ،وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ،وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ،وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ،وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الْإِبِلِ،وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِنَ الْأَصَابِعِ مِنَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ،وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ،وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ،وَإِنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ)رواه النسائي ومالك في الموطأ والدارمي وغيرهم.وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني:[صححه الحاكم وابن حبان والبيهقي ونقل عن أحمد بن حنبل أنه قال:أرجو أن يكون صحيحاً،وقد صحح الحديث بالكتاب المذكور جماعةٌ من الأئمة لا من حيث الإسناد؛بل من حيث الشهرة،فقال الشافعي في رسالته:لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.وقال ابن عبد البر:هذا كتابٌ مشهورٌ عند أهل السير،معروفٌ ما فيه عند أهل العلم معرفةً يُستغنى بشهرتها عن الإسناد؛لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة] التلخيص الحبير 4/17-18 بتصرف.وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل.
وعن أبي شريح الكعبي رضي الله عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:(فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَهُ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ) رواه البخاري ومسلم.والعقل هو الدية.
وَعنْ أبي شُرَيْحٍ الكَعْبِيِّ رضي الله عنه أيضاً أنَّ النَّبِيَّ صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم قالَ:(ثمَّ إنَّكُم يا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ قَتَلْتُم هذا الرَّجُلَ مِنْ هُذَيْلٍ،وإنِّي عَاقِلُه فََمَنْ قُتِلَ له قَتِيلٌ بَعْدَ اليَوْمِ فأَهْلُه بَيْنَ خِيرَتَيْنِ؛إمَّا أنْ يَقْتُلُوا أوْ يَأْخُذُوا العَقْلَ)رواه التِّرْمِذِي وقال:حديث حسن صحيح،ورواه أبو دَاود وأحمدُ والبَيْهَقِيُّ،وصححه العلامة الألْبَانِي في إرواء الغَلِيل 7/ 276.
وعَنْ عَمْرو بنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيه عَنْ جَدِّه أنَّ رسُولَ الله صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم قالَ:(مَنْ قَتَلَ مُتَعَمِّدًا دَفَعَ إلَى أَوْلِيَاءِ المَقْتُولِ فَإِنْ شَاؤوا قَتَلُوا وإِنْ شَاؤوا أَخَذُوا الدِّيَةَ وَهِيَ ثَلاثُونَ حِقَّةً، وَثَلاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً – أي حامل- ومَا صَالَحُوا عَلَيْه فَهُوَ لَهُم) رواه التِّرْمِذِي وابنُ ماجَة والبَيْهَقِيُّ وأحمد،وقال التِّرْمِذِي:(حديث حَسن غريب).وحسنه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/54.
والشاهد في هذه الأحاديث أنه صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم جعلَ ديةً واحدةً للنفس كما في قوله:(وَإِنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ).
وعليه لا يجوز شرعاً فرضُ أربع دياتٍ لقتيلٍ واحدٍ بغض النظر عن حالة المقتول كالنائم أو المغدور أو غير ذلك.
ولا يجوز أن يشترط أولياء الدم أكثر من دية شرعية؛لأن دية القتل العمد مقدرةٌ شرعاً.
وقول العرف العشائري بأن دية شيخ القبيلة مربعةٌ،من أبطل الباطل،فشيخ القبيلة كغيره من الناس،والأصل المقرر شرعاً أن نفوس المسلمين متكافأة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(المؤمنون تتكافأ دماؤهم)رواه أبو داود والنسائي والحاكم،وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع.
وقال قتادة:بلغنا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(من زاد أو ازداد بعيراً-يعني في إبل الديات وفرائضها- فمن أمر الجاهلية) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره مرسلاً.
خامساً:قال جمهور الفقهاء يجوز لأولياء القتيل أن يصلحوا على أكثر من الدية،وهو الراجح من قولي العلماء في المسألة،وهذه الحالة تكون في الصلح عند العفو عن القصاص فقط،قال الشيخ ابن قدامة
المقدسي:[إن من له القصاص له أن يصالح عنه بأكثر من الدية وبقدرها وأقل منها،لا أعلم فيه خلافاً] المغني 8/363.
وما يأخذه أولياءُ القتيل أكثر من الدية الواحدة إنما هو في مقابل إسقاطِ حقهم في القصاص.
ويدل على الجواز حديث عائشة رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ مُصَدِّقًا -وهو من يجمع أموال الزكاة- فَلَاجَّهُ رَجُلٌ فِي صَدَقَتِهِ فَضَرَبَهُ أَبُو جَهْمٍ فَشَجَّهُ،فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا:الْقَوَدَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَكُمْ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ يَرْضَوْا قَالَ : لَكُمْ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ يَرْضَوْا قَالَ:فَلَكُمْ كَذَا وَكَذَا فَرَضَوْا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِنِّي خَاطِبٌ عَلَى النَّاسِ،وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ قَالُوا:نَعَمْ،فَخَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:إِنَّ هَؤُلَاءِ اللَّيْثِيِّينَ أَتَوْنِي يُرِيدُونَ الْقَوَدَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِمْ كَذَا وَكَذَا فَرَضُوا أَرَضِيتُمْ؟قَالُوا:لا،فَهَمَّ الْمُهَاجِرُونَ بِهِمْ فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُفُّوا فَكَفُّوا،ثُمَّ دَعَاهُمْ فَزَادَهُمْ،وَقَالَ:أَرَضِيتُمْ؟قَالُوا:نَعَمْ)رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وصححه العلامة الألباني كما في صحيح سنن النسائي 3/990.
قال صاحب عون المعبود:[وفي هذا الحديث من الفقه…جواز إرضاء المشجوج بأكثر من الدية في الدية إذا طلب المشجوج القصاص] 12/172.
ومما يدل على جواز الصلح على أكثر من الدية ما ورد في حديث عن عمرو بن شعيب السابق (ومَا صَالَحُوا عَلَيْه فَهُوَ لَهُم) فهذا الحديث يدل على جواز الصلح في الدماء بأكثر من الدية كما قال الشوكاني في نيل الأوطار 5/292.
وقال الشيخ محمد الشنقيطي:[وإن حصل صلحٌ فيجوز أن يُصالح على أكثر من الدية،وفي هذا قصة هدبة المعروفة أنه قتل رجلاً وكان الرجل المقتول أولياؤه يتامى قاصرون منهم ابن المقتول،فانتظر حتى بلغ الابنُ،ووقعت الحادثة في زمان معاوية رضي الله عنه فحبس فشفع سعيد بن العاص،والحسن والحسين رضي الله عنهم شفعوا من أجل أن يُسامح ولي المقتول وبذلوا لابن القتيل سبعَ دياتٍ حتى يسامح وامتنع إلا القتل فقتل به.والشاهد في كون الصحابة بذلوا أكثر من الدية،فاجتمع طبعاً دليل السُّنة ودليل الأثر عن الصحابة،وعلى هذا جمهور العلماء رحمهم الله على أنه يجوز في الصلح عن الديات بأكثر من الدية]شرح زاد المستقنع 7/355،وقد ذكر الحادثة الشيخ ابن قدامة المقدسي في المغني 8/363.
سادساً:من المخالفات الصريحة للشرع الشريف في العرف العشائري إلزامُ عاقلة القاتل بتحمل دية القتل العمد،وهذا مخالفٌ لما هو مقررٌ عند الفقهاء بالاتفاق،بل نقل الشيخُ ابن قدامة المقدسي الإجماعَ على ذلك حيث قال:[أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل لا تحملها العاقلة،وهذا قضية الأصل،وهو أن بدل المتلَف يجب على المُتلِف،وأرشُ الجناية على الجاني،قال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يَجْنِي جَانٍ إِلا عَلَى نَفْسِهِ).وقال لبعض أصحابه حين رأى معه ولده:(ابنكُ هذا؟قال:نعم.قال:أما إنَّهُ لا يَجني عليكَ ولا تَجني عليهِ)،ولأن موجب الجناية أثرُ فعل الجاني،فيجب أن يختص بضررها،كما يختص بنفعها،فإنه لو كسب كان كسبه له دون غيره.وقد ثبت حكم ذلك في سائر الجنايات والأكساب،وإنما خولف هذا الأصل في القتل المعذور فيه،لكثرة الواجب،وعجز الجاني في الغالب عن تحمله،مع وجوب الكفارة عليه،وقيام عذره،تخفيفاً عنه،ورفقاً به،والعامد لا عذر له،فلا يستحق التخفيف،ولا يوجد فيه المعنى المقتضي للمواساة في الخطأ]المغني 9/488.
وورد في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي ما يلي:[أولاً:تعريف العاقلة:هي الجهة التي تتحمل دفع الدية عن الجاني في غير القتل العمد دون أن يكون لها حق الرجوع على الجاني بما أدته.وهي العصبة في أصل تشريعها، وأهل ديوانه الذين بينهم النصرة والتضامن.
ثانياً:ما لا تتحمله العاقلة:العاقلة لا تتحمل ما وجب من الديات عمداً ولا صلحـاً ولا اعترافـاً.]
ولكن إذا تبرعت العاقلةُ بتحمل الدية أو جزءٍ منها فلا مانع شرعاً،بل هذا من عمل الخيرات وقد قال تعالى:{وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ}سورة البقرة الآية 215،وقال تعالى:{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}سورة الزلزلة الآية7،وقال النبي صلّى الله عليه وسلم:(الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ،مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ،وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ،وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه مسلم.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم:(مَثلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد،إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحمى) رواه مسلم.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:(المؤمنُ للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضَاً) رواه مسلم.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:(واللهُ في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) رواه مسلم.
وخلاصة الأمر:
أن العرف العشائري هو في الحقيقة قضاءٌ بالعرف.
وأن للعرف العشائري جوانب إيجابية في المجتمع،وخاصةً في حوادث القتل.
وأن للعرف العشائري دورٌ واضحٌ في تهدئة النفوس عند حصول حوادث القتل بأخذ ما يُعرف بالعطوة.
وأن أموراً كثيرةً في العرف العشائري مخالفةٌ لشرع الله عز وجل يحرمُ الحكمُ بها.
وأن أهل العلم متفقون على وجوب القصاص في حقِّ القاتل عمداً.
وأن الأصل المقرر عند الفقهاء وهو الذي دلت عليه الأدلة من القرآن الكريم ومن السنة النبوية،أن دية القتيل واحدةٌ ولا تتعدد.
وأنه لا يجوز شرعاً فرضُ أربع دياتٍ لقتيلٍ واحدٍ بغض النظر عن حالة المقتول كالنائم أو المغدور.
ولا يجوز شرعاً أن يشترط أولياءُ الدم أكثرَ من دية شرعية؛لأن دية القتل العمد مقدرةٌ شرعاً.
وأن قول العرف العشائري بأن دية شيخ القبيلة مربعةٌ،من أبطل الباطل،فشيخ القبيلة كغيره من الناس،والأصل المقرر شرعاً أن نفوس المسلمين متكافأة.
وأنه يجوز لأولياء القتيل أن يصلحوا على أكثر من الدية،وهذه الحالة تكون في الصلح عند العفو عن القصاص فقط.
وأن ما يأخذه أولياءُ القتيل أكثر من الدية الواحدة إنما هو في مقابل إسقاطِ حقهم في القصاص.
وأن من المخالفات الصريحة للشرع الشريف في العرف العشائري إلزامُ عاقلة القاتل بتحمل دية القتل العمد،وهذا مخالفٌ لما هو مقررٌ عند الفقهاء بالاتفاق.
وأنه إذا تبرعت العاقلةُ بتحمل الدية أو جزءٍ منها فلا مانع شرعاً،ولكن من دون إلزام.
والله الهادي إلى سواء السبيل
(المصدر: شبكة يسألونك الإسلامية)