مقالاتمقالات مختارة

التعقبات العلمية .. دلالاتها – آفاقها – آثارها

بقلم د. علي حافظ السيد سليمان

الحمد لله الذي جعل العلوم والمعارف مِنَحًا منه وفضلًا، وجعل عبادَه يتفاوتون فيها منزلةً وقَدْرًا، وصلاةً وسلامًا على النبيِّ المجتبَى، والشفيع المرتجَى، وعلى آله الطاهرين، وصحابته حماة الدين، ومَن تَبِعَهم بإحسان إلى يومِ يقوم الناسُ لربِّ العالمين، وبعد:

فهاك مسطورًا عن ثقافة النقد في مسيرة الأُمَّة (التعقُّبات العلمية) يطوف حول دلالاتها، وآفاقها، وآثارها:

أولًا: دلالاتها اللغوية:

التعقبات جمع تعقيب، وهي من “عَقِبَ” الذي يدلُّ في اللغة على معانٍ عدَّةٍ؛ منها:

1- آخِر الشيء؛ قال الجوهري[2]: عاقبة كلِّ شيء: آخِرُه، وقولهم: ليست لفلانٍ عاقبةٌ؛ أي: وَلَد[3]

2- التناوب والتتابُع:

والعُقْبَةُ: النوبة؛ تقول: تمَّت عُقبتُك، وهما يتعاقبان كالليل والنهار، وعاقَبْتُ الرجل في الرِّحلة، إذا ركبتَ أنت مرَّةً، وركب هو مرَّة[4]؛ من ذلك قوله تعالى: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الرعد: 11].

3- النقض والرَّد:

قال الرازي[5]: يُقَال: (عَقَّب) الحاكِم على حُكْمِ مَن قَبلَه؛ إذا حَكَمَ بعد حُكْمِه بغيره، ومنه قوله تعالى: ﴿ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ﴾ [الرعد: 41]؛ أيْ: لا أحَدَ يتَعَقَّب حُكْمَه بنقضٍ ولا تغيير[6].

♦♦♦♦

من خلال ما تقدَّم وغيره، يمكنني أنْ أقول:

إنَّ السياق العلميَّ لمصطلح “تعقبات” لا ينفك عن معناها اللغويِّ، فهي بذلك تعني:

تتبُّع عالِم متأخِّرٍ لعالِم متقدِّمٍ بالتعليق على ما كَتَبَه تصويبًا، أو تخطئةً، أو تذييلًا، أو تذنيبًا، أو تهذيبًا…

وإنْ كان الشائع في استعمالها، والغالب في استخدامها: أنها تُطلق على نقد ما كتبه الغير.

ثانيًا: آفاق التعقبات:

هذا، والتعقبات آفاقها رحبة، تستوعب جملةً من المصطلحات والألفاظ، من ذلك:

1- الاستدراك، وهو: رفع توهُّمٍ توَلَّدَ مِن كلام سابق، رفعًا شبيهًا بالاستثناء[7].

ويستعمله المُحْدَثون في: أن يتتبَّع إمام مِن الأئمة إمامًا آخر في أحاديثَ فاتَتْه ولم يذكرها في كتابه وهي على شرطه، أخرَجَ عن رواتها في كتابه، أو عن مثلهم، فيحصي المستدرِك – بكسر الراء – هذه الأحاديثَ المتروكة ويذكرها في كتابٍ يسمَّى: “المستدرَك” – بفتح الراء – غالبًا أو ما في هذا المعنى، كما فعل الحاكم النيسابوري (404هـ) في كتابه: “المستَدْرَك على الصحيحين”[8].

2- الاستخراج:

أن يأتي مصنِّفٌ إلى كتابٍ مِن كُتُب الحديث فيخرِّج أحاديثَه بأسانيدَ لنفسه مِن غير طريقِ صاحب الكتاب؛ فيجتمع معه في شيخه أو مَن فوقه، وشرطه ألا يصل إلى شيخٍ أبعدَ حتى يفقد سندًا يوصله إلى الأقرب، إلا لعُذرٍ مِن علوٍّ، أو زيادة مهمَّة.

والمصنِّف هو “المستخرِج – بكسر الراء -“، وكتابه “المستخرَج – بفتح الراء”؛ كما فعل أبو نعيم الأصبهاني (ت430هـ)[9] في كتابيه: “المستخرَج على البخاري”، و”المستخرَج على مسلم”[10].

3- النقد:

وهو: فنُّ تمييز جيد الكلام من رديئه، وصحيحه مِن فاسده، وهو خلاف النقض الذي يعني الإبطال والهدم[11].

والانتقاد من باب الافتعال، وهو عند المحدِّثين التعليل، والمنتقَد هو الحديث الذي فيه علة[12].

كما فعل شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني (ت 728هـ) في كتابه: “نقد مراتب الإجماع لابن حزم الظاهري”.

4- التذنيب:

وهو: جعل شيء عقيب شيء؛ لمناسبة بينهما، مِن غير احتياج مِن أحد الطرفين[13].

كما فعل الإمام عبدالكريم بن محمد الرافعي (ت623هـ) في كتابه: “التذنيب في الفروع على الوجيز في فقه الشافعي للغزالي”.

5- التذييل:

التذييل: لَحْقُ الكتاب؛ أي: ما يُلحق بالكتاب في خاتمته، وفي علم المعاني: تعقيب جملة بأخرى تشتمل على معناها تأكيدًا لها، والذيل: آخِر كلِّ شيء[14].

كما فعل الشيخ العَلَم عبدالسلام التاجوري في كتابه: “تذييل المعيار”، وهو مِن الكُتُب الجليلة النافعة، حذا فيه المؤلِّف حذو الونشريسي في كتابه: “المعيار”؛ حيث ضمَّ فتاوى علماء البلد، وغيرهم من العلماء المالكية، رُتِّب الكتاب ترتيبًا فقهيًّا من الطهارة إلى الوصايا.

ثالثًا: آثار التعقبات:

بناء على ما سبق مِن دلائل التعقبات وآفاقها، يمكنني أنْ أقول: إنَّ التعقبات العلمية أبْقَتْ آثارًا، وأَثْرَت أفكارًا في مسيرة الأُمَّة العلمية والفكريَّة، من ذلك:

1-الموروث العلمي للتعقُّبات من مصنَّفات ومؤلَّفات:

كما في كتب: “المستدرَكات”، و”المستخرَجات”، وكتب: “النقد”، و”التهذيب”، و”التذييل” و”التذنيب”، وغير ذلك.

2- تعزيز وتحفيز مَلَكَة النقد لدى المنشغلين بالعلم والمطالعين للفكر: إنَّ السابر لأغوار التعقبات، السابح في بحارها، المحلِّق في آفاقها، المطالع لموروثها العلميِّ الكبير – يجد نفسَه بلا تردُّد متأثِّرًا بها، مدندنًا لها؛ مكتسبًا لثقافتها…

وأي فائدة تعود على العلم وأهله أكبرُ من تلك الفائدة التي تغرس ثقافة التعقيب، وتنمِّي مَلَكَة النقد لدى المبتدئين وغيرهم؟ يقول الطاهر بن عاشور[15]: ولقد رأَيْت النَّاس حول كلام الأقدمين أحدَ رجلَيْنِ: رجل معتكف فيما شادَهُ الأقدمون، وآخَر آخِذ بمعوله فِي هدم ما مضَت عليه القرون، وفي تلك الحالتَيْنِ ضرٌّ كثير، وهنالك حَالَة أُخْرَى ينجبر بها الجَناح الكسير، وهي أن نعمد إلى ما شَادَهُ الأقدمون فنهذِّبه ونزيده، وحاشا أن ننقضه أو نبيده، علمًا بأن غمصَ فضلهم كُفرانٌ للنعمة، وجحد مزايا سلفها ليس من حميد خصال الأمَّة[16].

وختامًا أقول: إنَّ التعقيب والنقد هو السبيلُ الأمثل والطريق الأنجع للمتأخِّرين في التعامل مع ما شَادَهُ الأقدمون بعيدًا عن رتابة التقليد، وخطيئة التبديد.

هذا ما يسَّر الله إيراده، وقدَّر شرحه وإعداده.

وصلِّ اللهم على نبيِّنا محمد وآله وصحبه وسلم.


[1] أ. د. علي حافظ السيد سليمانأستاذ الحديث وعلومه المساعد – كلية أصول الدين – جامعة الأزهر بأسيوط، وحاليًّا أستاذ مشارك بقسم الدراسات الإسلامية – كلية التربية – جامعة المجمعة بالمملكة العربية السعودية.

[2] الجوهري: أبو نصر إسماعيل بن حمَّاد التركي اللغوي، أحد أئمة اللسان، أَكْثَر التَّرْحال، ثم سكن نيسابور ومات بها سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة؛ شذرات الذهب في أخبار مَن ذَهَب؛ لابن العماد الحنبلي (4/ 497).

[3] الصحاح (1/ 184) مادة “عقب”.

[4] الصحاح (1/ 185) مادة “عقب”.

[5] الرازي: هو الإمام فخر الدِّين الرَّازي العلَّامة أبو عبدالله، محمد بن عمر بن حسين القرشي الطبرستاني الأصل، الشافعي المفسِّر المتكلِّم، صاحب التصانيف المشهورة، مات سنة ست وستمائة؛ شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب (7/ 40).

[6] مختار الصحاح (ص213) مادة “عقب”.

[7] التعريفات؛ للجرجاني (21).

[8] الوسيط في علوم ومصطلح الحديث؛ لمحمد أبي شهبة (ص 239).

[9] أبو نعيم الأصبهاني: أحمد بن عبدالله بن أحمد الحافظ، صنَّف التصانيف الكبار المشهورة في الأقطار، منها كتاب “حلية الأولياء”، مات سنة ثلاثين وأربعمائة؛ شذرات الذهب (5/ 149).

[10] تدريب الراوي؛ للسيوطي (1/ 117) بتصرُّف.

[11] المعجم الوسيط (2/ 944) بتصرف.

[12] موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم؛ لمحمد بن علي التهانوي (1/ 274).

[13] التعريفات (ص55).

[14] المعجم الوسيط (1/ 318)، ومعجم اللغة العربية المعاصرة (1/ 832)، وموسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم (1/ 405).

[15] الطاهر بن عاشور: هو محمد الطاهر بن عاشور: رئيس المفتين المالكيين بتونس، وشيخ جامع الزيتونة وفروعه بتونس؛ مولده ووفاته ودراسته بها، له مصنفات مطبوعة، من أشهرها (مقاصد الشريعة الإسلامية)، و(أصول النظام الاجتماعي في الإسلام)، و(التحرير والتنوير) في تفسير القرآن، مات سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وألف؛ الأعلام (6/ 174).

[16] التحرير والتنوير (1/ 737).

(المصدر: شبكة الألوكة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى