واقع العلم الشرعي وتحديات الثقافة الرقمية
بقلم خالد حاجي
جلي أن ما يدعونا اليوم إلى التفكير في مستقبل البحث في العلوم الإسلامية هو إحساس قوي بانسداد الأفق أمام المشتغلين بهذه العلوم. فمن ينظر مليا فيما تُنتجه مراكز البحث والمؤسسات الجامعية، المعنية بصياغة مناهج لتوليد معرفة إسلامية قادرة على تنمية المجتمع وتأهيل أفراده، لتمثل روح العصر تمثلا صحيحا يذكي روح الإبداع؛ سيجد نفسه أمام كم هائل من الأفكار والنظريات التي لا تُقدم في شيء أبدا، إن هي لم تُؤخر.
كما يُخيَّل له أن المعرفة الإسلامية قد بلغت المنتهى الذي صارت عنده مجرد ممضوغات يلوكها جيل بعد جيل، وهي أقرب إلى الوعظ الديني منها إلى معرفة علمية تُشدُّ إليها الرحال. وكذلك فإن وضع العلوم الأخرى ليس أفضل حالا من وضع العلوم الإسلامية. غير أن إخفاق العلوم المرتبطة بالدين في توليد المعنى قد يكون له من الأثر ما يفوق أثر إخفاق العلوم الأخرى.
ليس الغرض من تأكيد انسداد الأفق أمام العلوم الإسلامية هو التيئيس من إمكانية إصلاحها أو انبعاثها؛ غير أن للحديث عن هذا الإصلاح وجوها لا يستقيم بها، كأن يكون حديثا متعلقا بالزمن السياسي فحسب؛ إذ الأصل -في ظننا- أن إصلاح منظومة العلوم (إسلامية كانت أو غيرها) شأن متعلق بالزمن الثقافي والحضاري أكثر من تعلقه بالزمن السياسي. فمن الوهم اختزال هذا الإصلاح في برنامج سياسي أو خطة حزبية مثلا.
وتأسيسا على ذلك؛ يمكننا أن نؤسس لوعي استشرافي جديد يضع سؤال الإصلاح الموضع الصحيح. ويغلب الظن عندنا أن أزمة العلوم الإسلامية هي جزء لا يتجزأ من أزمة ثقافية وحضارية عامة، أزمة تجد التوصيف الأمثل لها فيما يصطلح عليه العلامة بن خلدون في مقدمته بـ”نقطة وقوف في تاريخ الأمم”.
ويلحق بهذه الدعوى أن الخروج من مآزق العلوم الإسلامية يقتضي الانزياح عن نقطة الوقوف في تاريخ المسلمين. ويحتاج المرؤ أن يكون على قدر كبير من هوان العقل حتى يعتقد أن الانزياح عن نقطة الوقوف هذه لا يكون إلا اعتمادا على مقومات التراث الأصيل، دون تفاعل مع مقومات الحديث الدخيل؛ فهيهات أن تطمع الأمة الإسلامية في الخروج من وضع التخبط الحضاري والمعرفي اعتمادا على تراثها فقط، بل لا مناص لها من التفاعل مع علوم العصر وفنونه إن هي شاءت ترميم ذاتها.
إن مثل من يطمع في تجديد العلوم الإسلامية من الداخل فقط، كمثل من يعتقد أن هذه العلوم صناعة عربية إسلامية صرفة، نشأت في منأى عن التأثيرات الخارجية. صحيح أن للوحي دورا مركزيا في تفتق الذهنية العلمية الإسلامية؛ فلا يخفى كيف ساهم القرآن الكريم في إخراج الثقافة العربية من طور البطولة الشعرية، التي لا يقترن معها القول بالفعل، إلى طور ثقافة أخلاقية يجتهد المسلم فيها ليكون فعولا قؤولا.
“كان للتفاعل مع الوحي دور كبير في إرساء دعائم ثقافة علمية جديدة تغيرت معها ملامح البطولة العقلية. غير أن التفاعل مع الوحي رافقه تفاعل لا يقل أهمية مع ثقافة العصر وعلومه؛ فقد أبان المسلمون عن استيعاب كامل لأدوات إنتاج المعرفة المتاحة في عصرهم. حتى إن أصول الفقه -وهو من أكثر العلوم خصوصية والتصاقا بالمسلمين- اصطبغ بصبغة الأورغانون الأرسطي، كما اتسم علم الكلام بميسم الجدل الفلسفي الذي انتهى إليهم”
فلم يعتب القرآن الكريم على الشعراء قولهم الشعر، ولكن عاتبهم لعدم إقران القول بالفعل: «والشعراءُ يتبعهم الغاوون، ألمْ تَرَ أنهم في كل وادٍ يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون». فبتوجيه من الوحي؛ خرج العقل الإسلامي من ثقافة شعرية بلغت أرقى مراتب الجَوَلان والهيام والضلال مع شعراء أمثال امرؤ القيس -الذي لُقِّب بـ”الملك الضليل”- نحو ثقافة تنشد الاستقرار على المستوى الحسي الحضاري، والنسقية على المستوى العقلي المعنوي.
إذن فقد كان للتفاعل مع الوحي دور كبير في إرساء دعائم ثقافة علمية جديدة تغيرت معها ملامح البطولة العقلية. غير أن التفاعل مع الوحي رافقه تفاعل لا يقل أهمية مع ثقافة العصر وعلومه؛ فقد أبان المسلمون عن استيعاب كامل لأدوات إنتاج المعرفة المتاحة في عصرهم.
حتى إن أصول الفقه -وهو من أكثر العلوم خصوصية والتصاقا بالمسلمين- اصطبغ بصبغة الأورغانون الأرسطي، كما اتسم علم الكلام بميسم الجدل الفلسفي الذي انتهى إليهم. وكيف يعقل تصور علم الكلام الإسلامي دون وجود المهماز الخارجي؛ ألم يتأسس هذا العلم أصلا للمنافحة عن الإسلام والدفاع عن العقيدة أمام خصومها!
وما كان للثقافة الإسلامية وللعلوم الإسلامية أن تنهض لولا تداخل مسارين اثنين: مسار الاستعراب ومسار الاستعجام؛ فقد شكل انفتاح الداخل على الخارج نقطة الارتكاز التي قامت عليها الحضارة الإسلامية في فترات عنفوانها. وكل المنجزات العلمية والأدبية والفقهية التي شهدها تاريخ المسلمين تقف شاهدا على أنهم أحسنوا الاستفادة من الرصيد المعرفي والثقافي الذي كان متوفرا في زمنهم، فتحقق لهم بفضل هذه الاستفادة ما لم يتحقق لغيرهم من منجزات عظيمة لا ينكرها إلا جاحد.
وخلاصة القول في هذا الباب أن المسلمين توسلوا بأحدث وسائل عصرهم لصناعة نهضتهم الثقافية والعلمية الأولى. وليس من المبالغة القول بأن المسلمين بلغوا الذروة في الاغتراف من ثقافة عصرهم العلمية، هذه الثقافة التي تأسست على التعريفات والحدود والقياس والقضايا، وغيرها من الأدوات التي تدخل فيما كان يُصطلح عليه بعلوم الآلة، وهي العلوم التي كان الأورغانون الأرسطي يمثل قطب رحاها.
ويقوم شاهدا على هذا القول جملة الكتابات التي تناولت هذا الأورغانون بالتحليل والتمحيص والتفكيك والنقد والنقض. فبالرغم من تعدد المواقف من المنطق الأرسطي؛ فإن الجدل العلمي الدائر حوله يظل شاهدا على تمكن المنظومة العلمية الإسلامية من هضمه وتوظيفه ونقده، وهذا ما يدل على انخراط المسلمين في ثقافة العصر الكلاسيكي العلمية ومنظومته المعرفية.
وليس من مجانبة الصواب في شيء القول بأن المنظومة العلمية الإسلامية أوصلت الحضارة الإنسانية لتقف عند مشارف مرحلة حضارية جديدة، مرحلة تشهد تراخي قبضة الأورغانون الأرسطي لفائدة أورغانون فرانسيس بيكون الجديد Novum Organum (الآلة الجديدة)، هذه الآلة التي أسست لذهنية علمية حديثة تقوم على شعار “الحسيات معابر إلى العقليات” بلغة أبي حيان التوحيدي.
في مرحلة التمفصل هذه بين المرحلة الكلاسيكية والمرحلة الحديثة؛ أخذت تظهر بوادر الانشطار بين العلوم الشرعية والعلوم غير الشرعية في الفضاء المعرفي الإسلامي، بعد أن كان هذا الفضاء يشهد التحاما منقطع النظير بين مختلف العلوم؛ حيث كان يعسر العثور على عالِم مسلم لا يجمع بين علوم الدين والدنيا.
ويؤشر هذا الانشطار على انزلاق دلالي خطير أصبحت معه العلوم غير الشرعية تدخل بالتدريج في خانة العلوم غير المشروعة، فانبعث الاهتمام بالأسئلة المتعلقة بجواز الاشتغال بالعلوم من عدمه، حتى وصل الأمر بمنظومة العلوم الإسلامية إلى درجة بلغ فيها التوجس من علوم الآخر (علوم المرحلة الحديثة) درجة عالية، فصرت تجد جهود الباحثين في العلوم الإسلامية تنصرف إما إلى دحض بعض العلوم من أساسها، كعلم النفس ومقارنة الأديان والفنون وغيرها من فلسفة وعلوم إنسانية على مختلف ألوانها؛ أو الاجتهاد من أجل تبْيِئَتِها وتأصيلها وتأثيلها.
عند التأمل؛ نجد أن العلوم الشرعية أصبحت مع مرور الزمن تستمد مشروعيتها من ثلاثة مصادر: أولها الوحي؛ وثانيها التراث، الذي هو نتيجة تفاعل المسلمين مع الوحي من جهة، ومع الثقافة الكلاسيكية من جهة أخرى؛ وثالثها المنظومة العلمية التي أفرزها التفاعل مع الثقافة الحديثة. فبينما يُعتبر الوحي والتراث من المصادر الأصيلة؛ تُعتبر المنظومة العلمية الحديثة مصدرا دخيلا يحتاج إلى تأصيل.
لكن وعلى خلاف كبير مع ما يُعتقد؛ فإن تأصيل العلوم الحديثة لا يكون تأصيلا في التراث فحسب، بل في ثقافة المرحلة الكلاسيكية كذلك. لذلك يُخيل إلينا -ونحن أمام الحديث عن التأصيل في الثقافة الشرعية- وكأننا أمام مهمة مستحيلة، باعتبار صعوبة العودة بثقافة العصر إلى ثقافة عصر سابق.
فلا يستقيم مثلا أن نطلب تأصيل العلوم التي قامت على نظرة ميكانيكية للحركة في منظومة ثقافية كان يسود فيها الاعتقاد بغائية الحركة؛ فهذا مطلب لن يتحقق إلا على حساب العلوم الجديدة. ولعل الأقرب إلى الصواب هو أن ثقافة العصر أقدر على استيعاب ثقافة الماضي، وليس العكس؛ وبالتالي يكون من باب أولى أن نطلب تأصيل القديم في الجديد، لا بمعنى أن يصير الثاني اللاحق للأول السابق أصلا وجذرا، ولكن بمعنى أن يمده بأسباب البقاء والانتعاش والانبعاث والتجدد.
لقد توسع الباحثون في زماننا في مفهوم التأصيل وجعلوا يبحثون له عن مرادفات أقوى، حتى استقر رأي بعضهم عند اقتراح مرادف “التأثيل” بدل التأصيل. غير أن هذه الاجتهادات لا تعين مخرجا من الجحر الذي انجحرت فيه عقول كثيرة مشتغلة بالعلوم الإسلامية. فسواء أكان الفعل تأصيلا أم كان تأثيلا؛ فإن النتيجة تظل واحدة، وهي إخراج العالم الإسلامي من التاريخ، والزج به في عوالم التجريد.
“العلوم الشرعية أصبحت مع مرور الزمن تستمد مشروعيتها من ثلاثة مصادر: أولها الوحي؛ وثانيها التراث، الذي هو نتيجة تفاعل المسلمين مع الوحي من جهة، ومع الثقافة الكلاسيكية من جهة أخرى؛ وثالثها المنظومة العلمية التي أفرزها التفاعل مع الثقافة الحديثة. فبينما يُعتبر الوحي والتراث من المصادر الأصيلة؛ تُعتبر المنظومة العلمية الحديثة مصدرا دخيلا يحتاج إلى تأصيل. لكن وعلى خلاف كبير مع ما يُعتقد؛ فإن تأصيل العلوم الحديثة لا يكون تأصيلا في التراث فحسب، بل في ثقافة المرحلة الكلاسيكية كذلك”
حين يجتهد المؤصِّلون في رد مفهوم حديث مثل الديمقراطية إلى مفهوم الشورى، فهم يسقطون في آفتين عظيمتين: آفة التقديس وآفة التجميد لمفاهيم لا يقدسها أصحابها المشتغلون بها ولا يجمدونها، بل يعتبرونها مفاهيم إجرائية من صنع الإنسان، مفاهيم تتقلب من طور إلى طور بفعل الممارسة. ألم يكن رئيس الوزراء البريطاني تشرشل يردد: “الديمقراطية إلى الجحيم”، معلنا استعداده للتخلي عنها إن هو وجد ما هو أفضل منها مثلا!
فعلى العكس من تشرشل؛ يقدس المؤصل للديمقراطية حيث يختار لها مرادفا قرآنيا هو: “الشورى”، ويجمدها بحيث يبحث ليجد لها مقابلا في التاريخ الإسلامي كاجتماع السقيفة مثلا. وهب أننا انتهينا إلى التأصيل النظري لهذا المفهوم، وأن مبدعه الأوروبي أو الغربي طرحه أرضا ليأخذ غيره من المفاهيم؛ فماذا عسى المؤصلون أن يفعلوا، سوى أن يشحذوا هممهم من جديد، فينهضوا لمغامرة تأصيلية جديدة. فبهذا تكون ضروب التأصيل هذه عقيمة، يدخل أصحابها في حكم من كان قدَره الركوض وراء مطلوب لا يدرك.
تدخل محاولات تأصيل الثقافة المعاصرة في الثقافة الكلاسيكية في إطار جملة الآليات التي تساهم في تأبيد تخلف الأمة الإسلامية. ومثلها محاولات إثبات الإعجاز العلمي للنصوص الدينية الإسلامية، من قرآن وسنة. فهذه المحاولات تدل على أن الاشتغال بالعلم والاهتمام بنتائجه المخبرية عند الباحثين في العلوم الإسلامية يحكمه هاجس دعوي. فالعلم لا يطلب لذاته، بل يطلب لتأدية أغراض دعوية.
وشتان بين من يشتغل بالعلم ومن يوظف نتائجه لأغراض دعوية؛ فالعلم لا يطلب في المنظومة الثقافية والمعرفية الإسلامية لذاته، بل هو مجرد أداة تؤدي وظائف أيديولوجية في مجتمعات جاهزيتها العلمية متخلفة أصلا. ولهذه الاعتبارات مجتمعة؛ لا يمكن الحديث عن إصلاح العلوم الإسلامية دون التفكير قبلها في كيفية الخروج من مضايق الحالة النفسية التي ولّدت أنماطا من الوعي الثقافي، ومن السلوكيات التي تصب في تعميق الهوة بين العقل وعقلية الابتكار (بمعنى التبكير والسبق للاكتشاف)، وتجعل المسلمين يبدون في صفة كائنات خارج التاريخ، تركض وراء تأصيل يسعى إلى تثبيت ما لا يحتمل التثبيت، وإعجاز علمي ما كانت لتراه لولا علوم العصر.
هذه نماذج تجلي لنا بعض أوجه العقم في الثقافة الإسلامية -وبالتالي في العلوم الإسلامية- شرعيةً كانت أو غير شرعية. وأمام هذا الوضع يفرض علينا سؤالٌ نفسَه: كم نحتاج من الوقت في عالمنا العربي والإسلامي لندرك أن علومنا الشرعية لم تعد تنتج المعنى، وأن السبب في ذلك هو الانقطاع المزدوج: بيننا وبين الوحي بوصفه المحرك الأساس لروح الإبداع في الثقافة الإسلامية، وبيننا وبين ثقافة العصر بوصفها المحركة لرحى المعيشة في زماننا.
ولعل ما يحول بيننا وبين روح الدين وروح العصر هو تمسكنا بما علق بتراثنا من عوالق الثقافة الكلاسيكية التي كفت عن إنتاج المعنى في سياق ثقافي حديث. ومما يزيد وضع الثقافة العربية والإسلامية تعقيدا أن ثقافة العصر صارت تشهد سرعة في وتيرة الأحداث يستعصي معها الوقوف عند المعنى.
يقول كينث وايث -في معرض تشخيصه لما يعتمل في هذه المرحلة الانتقالية من عمر الثقافة العالمية- ما يلي: “إن الرهان اليوم هو أن الشيء الذي هو قيد التشكل شيءٌ يتجاوز الأورغانون الأرسطي (الذي كان عنوان الحقبة الكلاسيكية)، كما يتجاوز أورغانون بيكون الجديد (الذي كان عنوان الحداثة)؛ فهو أورغانون اليوم وغدا: إنه الأورغانون الكوني-الشعري (Organum Cosmo-poeticum)”.
ويراد لهذا الأورغانون الجديد أن يكون عنوانا لما بعد الحداثة، ومن مواصفاته أنه يرد الاعتبار للغة في صياغة الحقيقة، ولا يكتفي بوضوح ديكارت الرياضي “La clarté mathématique”. ومع هذا الانفتاح على الإرث الشعري/اللغوي/البياني في مرحلة ما بعد الحداثة؛ تستعيد الثقافة الإسلامية -ومعها العلوم الإسلامية- دورَها كخزان للمعاني التي يستقوي بها العقل الحداثي، كي ينزاح عن النقطة التي تقف عندها الحداثة.
فمعلوم أن الشعور بانسداد الأفق الحضاري في السياق الأوروبي والغربي عموما؛ جعل كثيرا من الحكماء والشعراء والمفكرين (مثل مارتن هايدغر وخوسي أورتيغا إي غاسيت د. هـ. لورنس) ينشدون الجَوَلان الفكري بحثا عن مرتع جديد للفكر. وثمة أمثلة كثيرة -من كلامهم وكلام غيرهم- دالة على وجود إحساس قوي بضرورة مواصلة السير والنظر في الكون وفي التاريخ؛ فأما السير فوسيلة الإنسان لدفع مضايق المكان، وأما النظر فوسيلته لدفع مضايق النظرية.
تقول المستشرقة الألمانية آن ماري شيمل إن من يبحث عن معاني السير والجولان والسلوك؛ فلا بد أن تستوقفه الثقافة والعلوم الإسلامية بوصفها أحسن تعبير عن هذه المعاني. وتؤكد -في مقالة عميقة حول موضوع الطريق والسفر في الإسلام- أن كل ابتكارات المسلمين على مستوى المناهج تحيل على معاني السير والصيرورة، عوض الوقوف والتجمد.
فالمذهب مشتق من ذهب يذهب، والقصيدة من قصد يقصد، والنحو من نحا ينحو، والطريقة من الطريق، والشريعة من الشارع. إن انفتاح المنهج في العلوم الإسلامية على النهج -أي على السير والنظر- أكسب هذه العلوم قدرة على التفاعل الدائم مع الواقع المتغير والنوازل.
وفي نفس السياق؛ يذهب طوماس باور في كتابه عن الإسلام وثقافة الالتباس إلى القول بأن المسلمين لم يجدوا حرجا في التعامل مع الالتباس في تاريخهم الثقافي، بل كان هذا الالتباس عنوانا على علو كعبهم في ثقافة الاختلاف. ويعزو ما تشهده الثقافة الإسلامية اليوم من نزوع واضح نحو أحادية الرأي ومحاولات لفرض التأويل الصحيح إلى هيمنة الأنماط الحداثية في التفكير، وابتعاد المنظومة العلمية في البلاد الإسلامية عن مصادرها الأصلية.
فسواء كُنا أمام مثل آن ماري شيمل أو مثل طوماس باور؛ فنحن أمام أمثلة تجلي لنا تشوُّفًا من داخل الثقافة الغربية الحديثة إلى رد الاعتبار للثقافة الإسلامية في تلمُّس سبل الخروج من مآزق الحداثة. ولكن إذا كان الكثير من الباحثين والمهتمين بشؤون الإسلام يصمّون أسماعهم عن الدعوة للانفتاح والاستفادة من الثقافة الإسلامية؛ فإن كثيرا من المسلمين يرحبون بمثل هذه الدعوات، ويرون فيها بصيص أمل لانبعاث العلم والمعرفة في العالم الإسلامي، غير أن كثيرا من الباحثين يغفلون أن عملية الانبعاث المقصودة هنا لن تكون إلا على شرط الحداثة، وليس على شرط ذهنية أو عقلية ما قبل حداثية.
“فنحن أمام أمثلة تجلي لنا تشوُّفًا من داخل الثقافة الغربية الحديثة إلى رد الاعتبار للثقافة الإسلامية في تلمُّس سبل الخروج من مآزق الحداثة. ولكن إذا كان الكثير من الباحثين والمهتمين بشؤون الإسلام يصمّون أسماعهم عن الدعوة للانفتاح والاستفادة من الثقافة الإسلامية؛ فإن كثيرا من المسلمين يرحبون بمثل هذه الدعوات، ويرون فيها بصيص أمل لانبعاث العلم والمعرفة في العالم الإسلامي، غير أن كثيرا من الباحثين يغفلون أن عملية الانبعاث المقصودة هنا لن تكون إلا على شرط الحداثة، “
إذ المطلوب ليس هو هيمنة الثقافة الإسلامية على الثقافة الحديثة، بل تبيئة الثقافة الإسلامية داخل الثقافة الحديثة، وتمكينها من التعبير عن ذاتها من خلال المصادر التي صنعت مجدها وقوتها، حتى تكون قيمة مضافة في سياق البحث عن المخرج من مآزق الحضارة الحديثة.
يأتي في طليعة العلوم المعبرة عن خصوصية المنظومة العلمية الإسلامية علم الفقه، هذه الصناعة التي ظل يتوسل بها المسلمون لإنتاج المعنى في حياتهم وضمان تماسك مجتمعاتهم. وتواجه هذه الصناعة -في واقعنا المعاصر- تحديات جمة؛ إذ أصبح المشتغلون بها مطالَبين بالإجابة لا عن أسئلة المسلمين في وضع الأغلبية، أو عن أسئلة المسلمين في وضع الأقلية فحسب، بل وكذلك عن أسئلة العالمين، في سياق منفتح يطبعه التعدد الديني والتنوع الثقافي.
بعد أن ندب الفقهاء أنفسهم للإفتاء في قضايا الجاليات المسلمة خارج حدود العالم الإسلامي، وهم يطلقون على ما يقدمونه من فتاوى وآراء عنوان “فقه الأقليات” تارة، و”فقه المواطنة” أو “فقه المهجر” تارة أخرى؛ تبدت لهم أوجه القصور في صناعاتهم، وانكشفت لهم مساحة اللامفكّر فيه.
ولعل أهم قضية من القضايا التي تواجه الفقه الإسلامي عموما، وفقه الأقليات على وجه الخصوص، هي قضية الحرية. فمعلوم أن الأقليات المسلمة تتمتع بكامل حقوقها في العبادة والاعتقاد في السياق الأوروبي مثلا، وأن الدساتير الأوروبية تتكفل بضمان هذه الحقوق وتُدخلها في مضمار الحرية بمعناها الواسع: الحرية في المعتقد، حرية المعتقد، والتحرر من المعتقد.
فلا يسع الفقيه المسلم أن يأخذ بهذه الحرية في سياق يكون فيه المسلمون أقلية، ويتنكر لها في حال صاروا في وضع الأغلبية؛ وإلا لخُيّل إلى الآخرين أن المنظومة الفقهية الإسلامية لا تساير تطور القيم، ولا تملك من الأدوات ما يؤهلها لتدبير مجتمع متعدد الديانات والثقافات.
كما أن الفقه الإسلامي خرج من مرحلته الكلاسيكية الأولى باتجاه مرحلة الفقه المقاصدي؛ فصارت الجامعات ومراكز البحث تلهج بذكر فتوحات هذا الفقه، ومدى مواءمته لمقتضيات السياقات المختلفة حيث يوجد المسلمون، خصوصا سياقات الاضطرار. لكن عند التحقيق -خصوصا عندما يتم عرض مخرجات هذا الفقه على الآخرين- فإنهم لا يجدون فيها ما يحتاج إلى شروح طويلة ولغة صناعية معقدة، بل هي عندهم أقرب إلى مخرجات الحس العام المشترك.
فالقول بأن مبدأ حفظ الحياة يحتم على المسلم شرب الخمر في حال لم يجد ماء، يدخل عندهم في إملاءات غريزة البقاء؛ فضلا عن أن الإنسان في وضع الاضطرار لا يقف ليستفتي منظومة فقهية، بل يفر إلى حيث خلاصه. فشرب الخمر في وضع الاضطرار حالة من الحالات التي يسبق فيها الفعل التعقل، أي يكون فيها العمل أسبق من المسوغ الفقهي. وبهذا الاعتبار تجد أن الثقافة الكونية -إذ توسع أمام الفقه المقاصدي ساحة الحس المشترك- تستحث العقل المسلم للخروج إلى منظومة علمية جديدة، يتم الحديث فيها عما يمكن أن نصطلح عليه بـ”الإنسان المقاصدي”.
إن الحديث عن الإنسان المقاصدي -عوض الفقه المقاصدي- له دلالات كبيرة؛ فقد ينصرف معناه إلى الحديث عن إمكانية خروج الثقافة الإسلامية من الدين، تماما كما خرجت الثقافة الغربية عموما منه. كما قد ينصرف إلى حديث آخر عن الخروج من المنظومة الفقهية باتجاه منظومة فلسفية إسلامية؛ وأخيرا قد ينصرف معناه إلى حديث ثالث عن قدرة العلوم الإسلامية على الارتقاء بالفرد إلى درجة يصبح عندها قادرا على التمييز والتسديد والتقريب، دون توسط البلاغة المعتمدة في الخطاب الفقهي.
إن ما يحصل الآن من انزياح عن الخطاب الفقهي المقاصدي -بعد الانزياح الأول عن الخطاب الفقهي التقليدي- إنما يحصل بفعل تأثير الثقافة الرقمية الجديدة في الثقافة الإسلامية؛ لقد أنهت الثقافة الرقمية عصر النظريات وأدخلت بذلك الإنسان في عصر المعلومات.
ومع هذا الوضع الجديد؛ تراجعت نسقية الخطاب الفقهي أمام أحكام جاهزة تتدفق بانسيابية كبيرة، الشيء الذي وَرَّث المتلقي لهذه الأحكام جهلا كبيرا بحيثيات الصناعة الفقهية وارتباطها بالسياق والمقاصد، وجَرّأَه على أن يتحول إلى واعظ رقمي، لا يتحرج في أن يتلقف المعلومة الدينية أنى كان مصدرها ليعيد نشهرها خارج إطارها الزمني والمكاني؛ بحسب ميولته الفكرية ومستواه العقلي.
ومع جرأة الوعاظ الرقميين على بث المعلومة الدينية؛ تتقلص فرص الثقافة الإسلامية في الظفر بالإجماع حول مبادئ فقهية ثابثة، ويلحق بهذا التقلص انحسار دور المنظومة الفقهية في تحديد مواصفات العلوم المشروعة. ومع هذا الوضع؛ تصبح الثقافة الإسلامية مرشحة أكثر فأكثر لأن تشهد تباعدا بين علوم الدين والعلوم الأخرى، أو بين العلوم الإسلامية وعلوم العصر، ويصبح الوصل بين هذه العلوم أو الفصل قضية منهج، وأمرا موكولا إلى الاجتهاد العقلي، لا ينضبط بسلطة الإجماع كما كان الحال قبل الثقافة الرقمية.
هل تستطيع الثقافة الرقمية أن تحرر العلوم الإسلامية من عوالق تراث الحقبة الكلاسيكية، لتربطها بالنص الديني ربطا يفيد في تحريك روح الاكتشاف والإبداع من جديد؟ قد يكون لهذه الثقافة دور في فكّ الارتباط بين الثقافة الإسلامية -وبالتالي العلوم الإسلامية- من جهة، وتراث الحقبة الكلاسيكية من جهة أخرى.
لا شك في أن ما تتيحه الثقافة الرقمية من انفتاح على العالم سيوسع آفاق الإدراك العقلي، ويقوي الحس المشترك، ويجعل كثيرا من المسلمين ينْأون عن التماهي مع كثير من الأسئلة والأجوبة والأحكام التي تنحدر إليهم من الماضي. فلعله يعسر اليوم -في ظل الاحتكاك بالآخرين وتقاسم الفضاء العمومي معهم- التفكير في طرح السؤال: “هل تصح أو تجوز أو تقبل صلاة الكافر؟” مثلا، فضلا عن قبول التفصيل في جواب المذاهب الأربعة على هذه القضية.
فكثير من الأسئلة التراثية أصبحت عاجزة عن أن تساهم في إنتاج المعنى في حياة المسلمين اليوم، وقد يكون للثقافة الرقمية دور في إبراز أوجه هذا العجز. غير أن تفكيك منظومة السؤال في الفضاء المعرفي الإسلامي، وإن ساهم في توليد أسئلة جديدة ذات علاقة بالواقع؛ فإنه لن يسعف بالضرورة في إعادة ربط الاتصال بالوحي كمصدر من أهم مصادر القوة في تاريخ المسلمين. ذلك أن تماهي الوحي بالتراث -في كثير من الأذهان- يجعل من الابتعاد عن أحدهما ابتعادا عن الآخر.
“هل تستطيع الثقافة الرقمية أن تحرر العلوم الإسلامية من عوالق تراث الحقبة الكلاسيكية، لتربطها بالنص الديني ربطا يفيد في تحريك روح الاكتشاف والإبداع من جديد؟ قد يكون لهذه الثقافة دور في فكّ الارتباط بين الثقافة الإسلامية -وبالتالي العلوم الإسلامية- من جهة، وتراث الحقبة الكلاسيكية من جهة أخرى. إذ لا شك في أن ما تتيحه الثقافة الرقمية من انفتاح على العالم سيوسع آفاق الإدراك العقلي، ويقوي الحس المشترك”
لقد ساهمت الثقافة الرقمية في بروز ظاهرة الدعاة والعلماء الجدد الذين أصبحوا يتمتعون بقدر وافر من النجومية؛ ليس لارتباط زادهم المعرفي أو العلمي بمنظومة فقهية راسخة، بل لكونهم متقنين لفنون التواصل، حتى صرنا نشهد زمنا صار الناس فيه يأخذون مبادئ دينهم عن فكاهيين، يتحلقون حولهم بالمآت ويتابعون تسجيلاتهم بالملايين، بل الأدهى والأمر أن صدر الجامعات صار يتسع لاحتضان محاضراتهم، وهذا لعمري قمة انتصار الشعبوية في مضمار العلوم الإسلامية.
إن هذه الظواهر تؤشر على أن الثقافة الرقمية تخرج بالعلوم الإسلامية من مضمار النُّخب التقليدية المتفقهة في الدين، إلى مضمار النجومية والتواصل. لم تسلم الثقافة الإسلامية والعلوم الإسلامية من سطوة الثقافة الرقمية التي أخرجت الحقيقة من مضمار المعرفة إلى مجال التواصل، بحيث أصبحت الحقيقة تقاس بما تحدثه من طنين Buzz.
ولا يظننّ أحد أن الجامعات والمعاهد وشُعَب الدراسات والعلوم الإسلامية في منأى عن تأثيرات هذه الثقافة، بل هي أكثر عرضة من غيرها لسلبياتها. فليس من حاجة تعدل حاجة المنظومة العلمية الإسلامية اليوم إلى تحديد مواطن الفصل بين الدعوي والعلمي. فالعلمي -على خلاف الدعوي- يقتضي الامتثال لحس العصر النقدي. والحال أن ثقافة العصر الرقمية صارت تمد الفكر الدعوي بما يحتاجه من شواهد وصور تزكي مذهب الداعية في الاعتقاد والتصور.
ولا ننس أن من خصائص الفضاء الرقمي الجديد أنه يبيح للإنسان أن يكون منتجا/مستهلكا في الوقت نفسه؛ فالفضاء الرقمي يُرجع إليك صدى أفكارك، لأنه عالم أو مجتمع من صنعك واختيارك. وعليه فبإمكاننا القول بأن الثقافة الرقمية لن تُسعِف الثقافة الإسلامية أو العلوم الإسلامية في الخروج من مضايقها، بل أقصى ما تقوم به هو أنها تتيح لهذه الثقافة وهذه العلوم أن تستهلك ما تنتجه.
خلاصة: وفي الختام؛ نذكر بأهم ما ورد في حديثنا عن واقع العلم الشرعي وتحديات الثقافة الرقمية من أفكار، نحسب من الضروري الوقوف عندها والعناية بها.
فلعله من الضروري تأكيد أن العلوم الشرعية هي نتيجة تفاعل مزدوج: مع الوحي من جهة، ومع علوم العصر من جهة أخرى. وينبني على هذا أنها علم إنساني، يسري عليها ما يسري على العلوم الأخرى من نقد وتقويم وتتميم. فمن الخطأ محاولة تأصيل المعارف والتصورات والمفاهيم الجديدة التي يصادفها المسلمون -في حياتهم أو جراء احتكاكهم بسياقات جديدة- في تراثهم، لأن هذا التراث ليس خاليا من مؤثرات العصور العلمية والثقافية التي أنتجته؛ فبالتالي علينا التفكير في سبل انبعاث العلوم الإسلامية من داخل علوم العصر وثقافته.
لما بلغت المنظومة الفقهية الكلاسيكية منتهاها؛ ظهرت إلى الوجود منظومة فقهية جديدة سُمِّيت بالفقه المقاصدي، غير أن هذه المنظومة الجديدة بلغت بدورها المنتهى الذي لم تعد عنده قادرة على إنتاج المعنى في سياق عالمي منفتح ومتعدد، فصارت الثقافة الإسلامية والعلوم الإسلامية تتطلع إلى “إنسان مقاصدي”، إنسان قادر على التفاعل مع الوحي، مع روح الدين، ومع روح العصر.
إلا أن هذا الإنسان لن يولَد إلا من رحم الثقافة الرقمية، وهي الثقافة التي أصبحت تسطّح الوعي بفعل صبيب الصور الذي لا ينقطع، وتغلب التواصل على المضمون المعرفي والمحتوى العلمي. فليس يخشى على العلوم الإسلامية أكثر من أن تدخل في مرحلة استهلاك ما تنتجه من معارف بالية لا تمت بصلة إلى واقع المسلمين وما يتشوفون إليه من تنمية وتطور. لكن الثقافة الرقمية -على علّاتها- قد توفِّر وسائل لا حصر لها لتمكين العلوم الإسلامية من التجدد، شرط أن تُستوعَب الاستيعاب الصحيح، وأن توظَّف التوظيف الصحيح.
(المصدر: الجزيرة)