بقلم سيف الهاجري
(إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين) بلفور
(قبل سبعين عاما اعترفت الولايات المتحدة أثناء حكم الرئيس هاري ترومان بدولة إسرائيل، ومنذ ذلك الوقت أقامت إسرائيل عاصمتها في مدينة القدس) ترامب
من خطاب بلفور عام 1917م إلى خطاب ترامب عام 2017م مر قرن على احتلال القدس الشريف ليعيد التاريخ نفسه بالنظام الدولي والإقليمي والعربي نفسه الذي تشكل بعد الحرب العالمية الأولى بعد سقوط الخلافة العثمانية الإسلامية، ومن عجائب الأقدار تشابه ما قامت به بريطانيا بالأمس وأمريكا اليوم من خطط وترتيبات دولية وإقليمية سبقت الخطابين.
ففي عام 1882م احتلت بريطانيا مصر ومنها انطلقت نحو العمل على إسقاط الخلافة العثمانية وإعادة تشكيل المنطقة العربية وبالفعل بدأت مرحلة سقوط الخلافة العثمانية مع انقلاب 1908م والذي أسقط الخليفة عبدالحميد الثاني الرافض لإقامة وطن يهودي في فلسطين، ومع قيام الحرب العالمية الأولى وبعد عجز الجيش البريطاني في تجاوز دفاعات الجيش العثماني في غزة فلسطين رتبت بريطانيا لمؤتمر الكويت 1915م والذي حضره أمراء الخليج وشيوخ القبائل العربية لدعم الشريف حسين الذي خرج على الخلافة العثمانية عام 1916م لتنهار بعد ذلك دفاعات الجيش العثماني في الشام والعراق والجزيرة العربية بعد هذا الاختراق الداخلي من قبل ما عرف بعد ذلك بالنظام العربي الرسمي، وفي ظل هذا الانهيار صدر وعد بلفور بعد التنسيق مع أمريكا (كتاب الجبروت والجبار – مادلين أولبرايت) قبل شهر من دخول الجنرال اللنبي القدس عام 1917م ليبدأ مع هذا السقوط مرحلة مئوية سيطرت فيها الحملة الصليبية الأخيرة على العالم العربي والإسلامي كما أسماها لويل توماس في مسرحيته التاريخية الشهيرة.
وبعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى ووفقا لمقررات مؤتمر فرساي عام 1918م تشكل نظام عالمي جديد على أنقاض الخلافة العثمانية وإمبراطورية الهابسبورج النمساوية والأمبراطورية الألمانية والقيصرية الروسية وظهرت عصبة الأمم بشعاراتها البراقة الداعية لحرية الشعوب واستقلالها وجعلتها تحت الوصاية الدولية لتهيئتها لحكم نفسها بنفسها ليعيد الاستعمار الدولي إنتاج نفسه من جديد باسم الشرعية الدولية كما هو الحال اليوم مع الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
وأما العالم العربي فقد عقد وزير المستعمرات تشرشل مؤتمر القاهرة عام 1921م (كامب ديفيد ذلك العصر) ووضع فيه أسس النظام العربي الذي حكم العالم العربي إلى يومنا هذا وفق منظومة سياسية وعسكرية وقضائية وإقتصادية وثقافية مرتبطة إرتباط عضوي بالدول الاستعمارية التي تدير النظام الدولي المتحكم بالمنطقة والعالم.
وجاء ترامب اليوم بعد مرور قرن كامل على هذه الأحداث التاريخية ليعلن بشكل نهائي أن القدس هي العاصمة التاريخية والمختارة للشعب اليهودي وبنفس عبارات بلفور من قبل، وهذا الإعلان من ترامب لم يأت كوعد إنتخابي فقط كما يدعي بل جاء ضمن سياق ترتيبات دولية وإقليمية لإعادة ترتيب المشهد العربي من جديد بعد قيام الثورة العربية.
ولفهم ما يجري اليوم من أحداث لنرجع قليلا إلى فترة السبعينات، وهي الفترة التي خرجت بريطانيا من الخليج والجزيرة العربية وحلت أمريكا محلها وبدأت مرحلة جديدة من النظام الدولي والمتأثر بالحرب الباردة لكن العالم العربي ظل محكوما بالمنظومة الدولية نفسها ولم يتغير شي كثير حتى بدأت المرحلة الأسوأ في تاريخ المنطقة وهي مرحلة كامب ديفيد عام 1978م ليعيد التاريخ نفسه إنطلاقا من القاهرة، لتبدأ أمريكا بإعادة ترتيب المشهد السياسي العربي بما يتوافق مع سياستها ومصالحها وانطلقت الترتيبات الأمريكية مع الحرب العراقية الإيرانية وحرب الكويت ومؤتمر مدريد وحصار العراق واحتلاله وحصار غزة وحربها وكانت هذه الترتيبات تطبخ خلف الكواليس ويهيأ لها الشارع العربي بهذه الحروب المدمرة لإيصاله إلى القبول بمشروع الشرق الأوسط الذي أطلقه شمعون بيريز في عام 1993م والذي طوره بوش الابن بعد احتلال العراق تحت اسم مشروع الشرق الأوسط الكبير من المغرب إلى أندونيسيا لإعادة تشكيل العالم العربي والإسلامي لتحقيق الحلم الأمريكي التاريخي والديني لجعل القرن (21) قرنا امريكيا لكن مصير هذا المشروع ارتبط بالمقاومة العراقية ومدى نجاحها (مقال تسريب أميركي لمشروع الشرق الأوسط الكبير – الاستاذ فهمي هويدي https://goo.gl/SRhr9k ) وهو ما أكدت أحداث المقاومة العراقية التي استطاعت وقف مشروع بوش على أسوار بغداد وإفشاله.
وجاءت إدارة أوباما لتبدأ العمل على تحقيق هذا المشروع الأمريكي للشرق الأوسط والذي يعتبر النظام العربي والتركي أهم الأسس لنجاحه فجاء خطاب أوباما في القاهرة وضع الأسس والمنطلق لهذا المشروع، وواجهت إدارة أوباما الفشل الذريع وانهارت مخططاتها للسلام والتطبيع كأرضية للقرن الأمريكي مع قيام الثورة العربية عام 2010م التي هزت النظام العربي وأسقطت رموزه (برنامج سنوات أوباما- قناة الجزيرة)، بالرغم من توظيف أمريكا لإيران ومشروعها الصفوي الطائفي كمخلب وتفاهمهما لمواجهة الثورة العربية في سوريا والعراق واليمن – بعد عجز الأنظمة العربية الوظيفية عن مواجهة الثورة – هذا التفاهم الذي توج بالاتفاق النووي الأمريكي الإيراني، وواجهت كذلك فشل الانقلاب في تركيا عام 2016م.
وفي عام 2017م ومع قدوم ترامب استلم ملف القرن الأمريكي ليتوج قرنا من الاحتلال بالإعلان عن القدس عاصمة لإسرائيل، لكن ترامب لم يقدم على هذا الإعلان إلا بعد ترتيبات دولية وإقليمية سبقته وأراد بهذه الترتيبات وتتويجها بهذا الإعلان تحقيق غايتين:
الأولى: إنهاء ثورة الربيع العربي وإعادة إنتاج النظام العربي من جديد.
الثانية: التطبيع والسلام مع إسرائيل وإعلان القرن الأمريكي تحت شعار MAKE AMERICA GREAT AGAIN
لنعيد أمريكا عظيمة مرة أخرى انطلاقا من صفقة القرن فكما قال نابليون بونبارت ففي الشرق تصنع الأمجاد.
بدأت هذه الترتيبات الأمريكية مع الدعوة لعقد قمة عربية إسلامية أمريكية في الرياض 2017م وصدر بيانها الرسمي بتشكيل تحالف عسكري لمواجهة الإرهاب كما يدعى وليعلن ترمب من تل أبيب بداية عصر جديد من التطبيع تمهيدا لصفقة القرن.
وبدأت الأدوات الوظيفية في التمهيد لهذه الصفقة فأعلن عن تسويات سياسية في كافة ساحات الثورة لإنهائها كما يتمنون وبدأت الخطوات العملية بحصار الدول الداعمة للربيع العربي كقطر وتركيا لتهيئة المشهد العربي للمرحلة الجديدة بعد إنهيار مرحلة كامب ديفيد وإنتهاء دورها، فجاءت الترتيبات الأمريكية للمشهد العربي بعد قمة الرياض على النحو التالي:
• حصار قطر وإنهاء دورها في دعم الربيع العربي.
• حصار المسجد الأقصى لتهيئة وضعه القانوني والشرعي للتسوية القادمة.
• استفتاء كردستان بالإنفصال عن العراق لعزل تركيا واشغالها بالملف الكردي.
• المصالحة الفلسطينية برعاية مصرية لتهيئة الساحة الفلسطينية.
• إعادة ترتيب المشهد السوري بقبول المعارضة السورية بالمرحلة الانتقالية بوجود الأسد والمحافظة على الجيش والأمن.
• إعادة ترتيب المشهد اليمني بعودة علي عبدالله صالح وحزبه للسلطة والمحافظة على الجيش والأمن.
• عقد القمة الخليجية في الكويت وتبنيها ودعمها للترتيبات الأمريكية للمشهد العربي وبحضور وزير الدفاع الأمريكي.
• الإعلان عن القدس عاصمة لإسرائيل.
هكذا أرادت أمريكا للمشهد في المنطقة أن يكون وفق هذه الترتيبات لكنها فشلت في تحقيق ما وضعت لأجله، ولعل أهمها هو مقتل علي عبدالله صالح والذي هز الثورة المضادة وأركانها وظهرت تداعياته على نتائج القمة الخليجية في الكويت ومستوى التمثيل المتواضع ومغادرة وزير الدفاع الأمريكي المبكرة ليأتي إعلان ترامب المشؤوم على المشروع الأمريكي وأهله وهو فاقد للأرضية اللازمة لإنجاحه وليكون إعلانا لبداية القرن الأمريكي ليصبح إعلانا رسميا لنهاية القرن الأمريكي.
إن إعلان ترامب هذا قد أدخل الأمة وثورتها وربيعها مرحلة جديدة مع دخول القدس والأقصى وفلسطين في الصراع مع قوى الاحتلال والاستبداد، وأدركت الأمة حقيقة هذا الصراع وطبيعته العقائدية والتي يأبى الغرب إلا أن يظهرها بين الحين والآخر ليؤكدها ترامب بشكل واضح وجلي بوصفه للقدس في خطابه (العاصمة المختارة للشعب اليهودي في العصور القديمة).
وهكذا ليس أمام الأمة اليوم إلا الرجوع للإسلام وأحكامه وطبع ثورتها به لمواجهة المشاريع التي تداعت عليها لتحاربها في أوطانها وتنهب ثرواتها وتقتل شعوبها تحت شعارات مختلفة من شعار محاربة الإرهاب إلى شعار إقامة الأمن والسلام.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾
الخميس 18 ربيع الأول 1439هـ 7 / 12 / 2017م
(المصدر: موقع سيف الهاجري “الأمين العام لحزب الأمة – الكويت”)