بقلم حاتم أبو زيد
“الفقهاء قد أطلقوا القول بانعقاد إمامة المتغلِّب للضرورة، والذي لا يتأمَّل كلامهم يُنكره لظنِّه أن مرادهم أنه إمامٌ على الحقيقة، وإنما أرادوا جواز أخذ الولاية منهم لتنفيذ الأحكام المتعلقة بالمصالح العامة، لاضطرار المسلمين إلى ذلك”. بهذه الكلمات أنصف ابن الوزير اليماني علماء أهل السنة، بعد أن تخرص عليهم الروافض واتهموهم بمساندة المستبدين ودعم الطغاة. إلا أن الأسوأ؛ جاء من منتسبين للسلفية قالوا بقول الروافض في حق أهل السنة؛ وادعوا أن مذهبهم الانتصار للاستبداد والرضا بحكم الخوارج الفاسقين اللصوص الذي يقهرون الأمة. فابتدعوا مذهباً يخالف فطرة الله التي فطر الناس عليها، وألبسوا الباطل ثوب الحق، وغرروا بالناس وشوهوا الدين، ونسبوا لفقهاء الشريعة وعلماء الإسلام تلك البدع من القول نتيجة سوء فهم تارة، وخبث طوية تارة أخرى. ونحن ننقل هنا من أقوال الأئمة ما يبين فساد أولئك المنسوبين للسلف. الإمام مالك ـ إمام أهل السنة في عصره ـ لم يرى للمتغلب حق البيعة لأنها تمت كرها. إذ قال: من بويع لهم على الخوف لا بيعة لهم. أحكام القرآن لابن العربي (4/154). وروى الطبري عن سعيد بن عبد الحميد بن جعفر قال: أخبرني غير واحد أن مالك بن أنس استفتي في الخروج مع محمد، وقيل له: إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر، فقال: إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته. وسعيد بن عبد الحميد ثقة، وأبيه عبد الحميد بن جعفر كان من الذين خرجوا مع محمد بن الحنفية. وقوله حدثني غير واحد يدل على شهرة هذا الأمر عن الإمام مالك. ويؤكده ضربه بالسياط لتحديثه بأثر ابن عباس: “ليس على مستكره طلاق”. ومعنى هذا أن سقوط بيعة الإكراه وولاية التغلب كان أمرا مشهورا عنه. وروى البيهقي بإسناده عن حرملة قال سمعت الشافعي يقول : كان على المدينة الهاشمي فأرسل إلى مالك، فقال: أنت الذي تفتي في الإكراه وإبطال البيعة؟ فضربه مُجَرِّداً ثيابه حتى أصاب كتفه خلع. وكان من بأسه ـ رحمه الله ـ أنه حين حمل على بعير وقيل له ناد على نفسك تشهيرا به، نادى: ألا من عرفني فقد عرفني، أنا مالك بن أنس، أقول: طلاق المكره ليس بشيء، فقال جعفر: أدركوه أنزلوه. تاريخ الإسلام للذهبي (4/ 729). وروى ابن القاسم، عن مالك قال: إذا خرج على الإمام العدل خارج وجب الدفع عنه، مثل عمر بن عبد العزيز، فأما غيره فدعه ينتقم الله من ظالم بمثله ثم ينتقم من كليهما. وقال ابن العربي: لا تقاتل إلا مع إمام عادل يقدمه أهل الحق لأنفسهم).أحكام القرآن (4/153). وعمر بن عبد العزيز أتى عبر الشورى، بعد أن خلع نفسه من الأمر، فبايعه الناس طواعية. ذكره ابن كثير، ورواه الآجرى في أخبار أبي حفص. والمالكية في كتب الفروع لا يعدون الخروج على الفاسق خروجا، بخلاف العدل، ويحكون قول مالك هذا استدلالا، أو شرح له. ولم يكن هذا موقف مالك وحده؛ فربيعة بن أبي عبد الرحمن، المشهور بربيعة الرأي، صاحب الفتيا في المدينة وشيخ الإمام مالك، حين أراد الخروج للعراق؛ قال لمالك: إن سمعت أني حدثتهم شيئا أو أفتيتهم فلا تعدني شيئا. ولما أمر له أبو العباس السفاح بجائزة أبى أن يقبلها. وكان للمحدث عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي فقيه أهل الشام موقف مشابه. وأما أبو حازم سلمة بن دينار فوصف أمر بني أمية بأنه اغتصاب للسلطة، فقال لسليمان بن عبد الملك: إن آبائك اغتصبوا هذا الأمر من الناس أخذوه عنوة بالسيف من غير شوري ولا اختيار، وقد قتلوا من أجله خلقاً كثيراً وبعد حين رحلوا فلو تدري مصيرهم عند الله. “وأما أبو حنيفة ـ رحمه اللَّه ـ كان يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن علىّ رضوان اللَّه عليهما، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة، كالدوانيقى وأشباهه. وقالت له امرأة: أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابني عبد اللَّه بن الحسن حتى قتل. فقال: ليتني مكان ابنك. وكان يقول في المنصور وأشياعه: لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عدّ آجره لما فعلت”. الكشاف للزمخشري (1/ 184). والشافعية كذلك يعتبرون إمارة المتغلب معصية لا يجوز عقدها شرعا؛ يقول الجويني في غياث الأمم: “ولا يجوز عقد الإمامة لفاسق، وإن كانت ثورته لحاجة ثم زالت وحالت، فاستمسك بعدته محاولا حمل أهل الحل والعقد على بيعته، فهذا أيضا من المطاولة والمصاولة، وحمل أهل الاختيار على العقد له بحكم الاضطرار، وهذا ظلم وغشم يقتضي التفسيق. فإذا تصورت الحالة بهذه الصورة، لم يجز أن يبايع”.ثم قال (ص328): هذا في استيلاء من هو صالح لمنصب الإمامة.أهـ. فما بالك إن لم يكن صالحا معاد لكتاب الله؟ وقال ابن حجر الهيتمي: “المتغلب فاسق معاقب لا يستحق أن يبشر ولا يؤمر بالإحسان فيما تغلب عليه. بل إنما يستحق الزجر والمقت والإعلام بقبيح أفعاله وفساد أحواله”. الصواعق المحرقة. ولهم تفصيل في المسألة؛ ففرقوا بين التغلب حال فراغ السلطة حين فقد الإمام وعدم وجود مؤسسات تقوم بإدارة عملية الاختيار والبيعة وبين التغلب على إمام قائم؛ ففي الحالة الأولى: إن كان التغلب في حالة فراغ السلطة، يعتبرونه إمام الضرورة، ولكنهم لا يثبتون له حقوق إذ لو تغلب عليه متغلب، يجعلون الثاني بمثابة إمام الضرورة أيضا، وهكذا، ولا يرون القتال معهم بعكس صاحب البيعة. يقول النووي : “إذا مات الإمام، فتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة، وقهر الناس بشوكته وجنوده، انعقدت خلافته لينتظم شمل المسلمين… وإن كان عاصيا بفعله”.روضة الطالبين (10/46). ويقول: “إذا ثبتت الإمامة بالقهر والغلبة، فجاء آخر، فقهره، انعزل الأول، وصار القاهر الثاني إماما”. وهذا يشبه قول المالكية: لا تقاتل إلا مع إمام عدل يقدمه أهل الحق لأنفسهم، وأما غيره فدعه ينتقم الله من ظالم بمثله ثم ينتقم من كليهما. الحالة الثانية: التغلب في غير حالة فراغ السلطة أي على حاكم قائم، فإن كان القائم متغلبا، فقد مر أمره، وإن كان التغلب على صاحب بيعة أتى بالرضا والشورى، فلا يعقدون للمتغلب أمر، بل هو لديهم لص سطا على الأمة الواجب دفعه ما أمكن. قال النووي: “لا يجوز خلع الإمام بلا سبب، فلو خلعوه لم ينخلغ”. روضة الطالبين (10/48).وكتب الشافعية تكاد تكرر هذا الكلام بحروفه. جاء في مغني المحتاج (5/ 423): “استيلاء شخص متغلب على الإمامة جامع الشروط المعتبرة في الإمامة على الملك بقهر وغلبة بعد موت الإمام لينتظم شمل المسلمين. أما الاستيلاء على الحي فإن كان الحي متغلبا انعقدت إمامة المتغلب عليه، وإن كان إماما ببيعة أو عهد لم تنعقد إمامة المتغلب عليه”. وفي البيان في مذهب الإمام الشافعي (12/14): فإن كان هناك إمام، فقهره رجل – يصلح للإمامة – بالسيف وغلبه.. قال المسعودي [في ” الإبانة “] : فإن كانت إمامة الأول ثبتت باستخلاف إمام قبله، أو بعقد أهل الحل والعقد.. لم ينعزل الأول، وإن ثبتت إمامة الأول بغلبة السيف.. انعزل الأول؛ وثبتت إمامة الثاني؛ لأن إمامة الأول ثبتت بالغلبة، وقد زالت غلبته. وقال ابن المنذر: “إذا صحت الخلافة للإمام، وبايعه الجميع، فخرج عليه رجل ممن بايعه طائعاً غير مكره، ليقاتله، فعلى الناس معونة إمامهم وقتل من خرج عليه، للأخبار التي ثبتت عن رسول الله ﷺ” الإشراف على مذاهب العلماء (8/237) فالمتأمل لأقوالهم يراهم قضوا بعصيان المتغلب، وترك نصرته لو خرج عليه أحد يريد إزالة سلطانه، عكس صاحب البيعة فلا ينعزل عندهم، وأوجبوا القتال معه ونصرته على الخارج عليه. فهو إمام شرعي فأثبتوا له الحقوق التي أقرتها نصوص الشريعة، من السمع والطاعة، والنصرة، والصبر عليه، واشتراط إذنه في قتال الطلب. خلاف المتغلب لم يثبتوا له أي من تلك الحقوق لأنه عاص بحكم الشرع ليس بإمام، وإن كان له السلطان بحكم الواقع. بل في أبلغ صور الوثوب على السلطة والتمكن لم يقولوا ببيعة المتغلب والرضا به، وإنما أوجبوا إقامة آخر من أهل العدل على وجه الرضا والشورى. ففي أسنى المطالب (4/111): “لا ينعزل إمام أسره كفار أو بغاة لهم إمام … فإن وقع اليأس من خلاصه يستنيب عن نفسه إن قدر على الاستنابة ثم يستناب عنه إن عجز عنها”. وقال الماوردي: “إذا أسر الإمام مشركين؛ أو بغاة المسلمين نصبوا لأنفسهم إماما دخلوا في بيعته وانقادوا لطاعته، ولم يرج خلاصه، فعلى أهل الاختيار في دار العدل أن يعقدوا الإمامة لمن ارتضوا لها”. الأحكام السلطانية (ص 47)، وحكاه النووي عنه في روضة الطالبين (10/49)، وبنحوه قال الخطيب الشربيني في مغنى المحتاج (5/426)، وجاء مثله في تحفة المحتاج في شرح المنهاج وحواشي الشرواني والعبادي (9/ 79). وقال أبو يعلى الفراء الحنبلي في الأحكام السلطانية (ص 22-23) مثل ما قال الماوردي. وحكى ابن عبد الهادي الحنبلي في إيضاح طرق الاستقامة في بيان أحكام الولاية والإمامة (1/78) كلام أبي يعلى ولم يتعقبه. وقال الإمام أحمد: الإمام الذي يجمع المسلمون عليه، كلهم يقول: هذا إمام، فهذا معناه. رواه أبو بكر بن الخلال في السنة (1/ 80) أنه سئل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات وليس في عنقه بيعة مات مِيتة جاهلية» (رواه مسلم)، ما معناه؟ فذكره. ومراده بـ (كلهم) أغلبهم أو الجمهور، كما بينه أبو يعلى الفراء في الأحكام السلطانية. وما جاء عنه من رواية عبدوس بن مالك العطار أن: من غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً. فإنما مراده إذا رضيه المسلمون، ففي العقيدة من رواية أبي بكر الخلال (ص: 124) قال: الإمامة لا تجوز إلا …إن شهد له بذلك أهل الحل والعقد من علماء المسلمين وثقاتهم، أو أخذ هو بذلك لنفسه ثم رضيه المسلمون جاز له ذلك. وقال القاضي أبو يعلى الفراء: يحمل ما قاله في رواية عبدوس، على أنه إذا كان هناك عارض يمنع …وهو أن تكون النفوس قد سكنت إليهم وكلمتهم عليه أجمعت، وفي العدول عنهم يكثر الهرج.أهـ وبهذا رجع الأمر لرضا الأمة، ولم يترك لكل متطاول صاحب صولة أن يثب على الأمر.
(المصدر: طريق الإسلام)