بقلم نزار ميلاد (كاتب ومفكر ليبي)
الشريعة هي المرتكز الأساسي في الخطاب الإسلامي، فكثيرًا ما يتحدث الإسلاميون عن الشريعة، لكن الظروف التي أدت لذلك أو البيئة التي تم فيها إقصاء الشريعة كانت دائمًا قضية مهملة خاصة أن الظروف السياسية قد تحولت والأطر الفكرية قد تبدلت، ومسألة الشريعة هي جزء من فشل عام داخل الأمة وتبدل هيكلي في مؤسساتها في العلاقات التاريخية بين الدين والدولة، فإذا نظرنا للعلاقة بين الدين والدولة وفق نموذج يحدد العلاقة بوضوح، أو حاولنا تفهم التغير الهيكلي للمؤسسات العثمانية يمكننا أن نضع الشريعة وفق هذا الإطار العام وليس كمتغير مستقل تتأثر به المتغيرات الأخرى كافة.
الشريعة جزء من عقيدة وتصور شامل للحياة والأخلاق والقيم وليست منبتة عن الفعل التاريخي والحالة الكونية التي تتنقل فيها البشرية والحضارة من طور إلى طور، إذا أهمل كل ذلك صارت الشريعة وكأنما هي قضية فقهية ويختلط فيها النص بالرأي، ويُنادى بالشريعة بغض النظر عن سوابقها ولواحقها، وبالطبع سيركب الأمر كل جاهل بعواقب الأمور ومآلاتها.
ويمكننا بسهولة معرفة كيف تحول مصطلح الشريعة من مصطلح عام تدخل فيه كل المعاني الحضارية للبحث عن نموذج هادي للدولة والمجتمع يناسب ثقافة المجتمع وتاريخه، إلى مصطلح عقدي يتعلق بحق الدولة في التشريع كنقيض للألوهية عندما ساد نموذج سيد قطب في الستينيات.
الدستور الذي ينظم تلك العلاقات هو ما يحدد وظائف الدولة، و هذا بعكس الدولة الإسلامية التي كان القضاء فيها مستقلًا وبشكل كبير، فالقانون واستخراج الأحكام كان نشاطًا مدنيًا بامتياز
كانت الدولة في المعسكر الشرقي تسعى لفرض رؤية واحدة على المجتمع للوصول لمعدلات نمو وقدرات عسكرية تمكنها من الانتصار في الحرب الباردة، أما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وصعود مفاهيم التنمية والمؤسساتية، قد تبدو الشريعة بالمعنى القانوني الضيق بمنأى عن هذا الخلاف، وأن مسألة التشريع المرتبطة بالصيغ القانونية وليس التشريعات المرتبطة بالمصالح والمفاسد هي مسائل لا علاقة للبرلمانات بها، بل إن نظرية السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية (نظرية الفصل بين السلطات) بدأت تسقط من عرشها، ولعلها سقطت بعد 3 قرون من الهيمنة!
القيم الغربية التي انطلقت منها المؤسسات الحاكمة والنظرية الدستورية هي العدالة والمساواة والحرية وتقديس الملكية، هي قيم ليست مطلقة بل إن هناك خلافًا بشأن فلسفة هذه القيم، والأهم من ذلك في الجانب العملي هو قيام مؤسسات حاكمة قادرة على ضبط هذه القيم العليا للمجتمع.
هذه المؤسسات هي مؤسسات تملك السلطة الحاكمة في البلد، ورغم وجود نظريات عن اليمين واليسار لمعرفة حدود السلطات الحاكمة مع المجتمع بما لا يتعارض مع هذه القيم، فإن النظرية الدستورية هي النظرية التي أمكن تطبيقها، وفي إطار النظرية الدستورية تبدو نظرية الفصل بين السلطات كنموذج حاكم لكثير من النظريات التي تبعت الثورات التي حدثت في القرن الـ16 و17 و18.
هذا يعني أن الدستور الذي ينظم تلك العلاقات هو ما يحدد وظائف الدولة، وهذا بعكس الدولة الإسلامية التي كان القضاء فيها مستقلًا وبشكل كبير، فالقانون واستخراج الأحكام كان نشاطًا مدنيًا بامتياز، وكان الفقهاء والقضاة أقرب إلى حيز المجتمع منهم للسلطة الحاكمة على النحو الذي بينه ابن خلدون في مقدمته، لكن لا ينبغي الأخذ بهذا التعميم فهناك بعض الدول في التاريخ الإسلامي عرفت صعودًا لطبقة الفقهاء والقضاة، بل إن تلك الطبقة امتلكت سلطة سياسية قد خافها حتى الأمراء أنفسهم، ولا يمكن اعتبار ذلك من قبيل التأثير على المجتمع بل كان ذلك توجهًا رسميًا من السلطة السياسية لصالح القضاة، والحالة النماذجية لذلك هي دولة المرابطين.
الأدلة التي يمكن أن نستند إليها في أن وظيفة الحكم بين المتنازعين هي مسألة قضائية وقد مرت بمراحل تاريخية لم يكن لها ارتباط بالدولة والأمراء يمكن أن نختصرها في:
– الكريم في معظم الآيات التي يُستدل بها بشأن قضية الحاكمية يأتي سياقها في الحديث عن نزاع أو قضية من القضايا التي يعبر عنها القرآن بالفساد في الأرض في سورة النساء، الحديث عن التنازع بصيغة الفعل المضارع (تنَازعْتُمْ في شَيء) ومن ثم يبدأ السياق في الحديث عن الحكم بما أنزل الله، في سورة المائدة السياق كان أظهر في الحديث عن أول جريمة قتل، وعن قطاع الطرق والسراق ثم بدأ السياق في المقارنة بأهل الكتاب وكيف أنهم لم يحكموا بما أنزل الله، وفي سورة (ص) نجد قصة سيدنا داوود وهو يحكم بين المتخاصمين وعقبت الآيات (إنَّا جَعَلْناكَ خليفةً في الأرْضِ فاحْكُم بين النَّاس بالحق).
القانون لا ينبغي النظر إليه محصورًا في إطار قضائي بل هو مما يشكل ثقافة الأمة
ولعل سيدنا داوود هو أول نبي يتحصل على الحكم والحكمة والإمارة والخلافة في آن واحد للظروف التي ذكرتها سورة البقرة في قصة طالوت وجالوت، فالحكم يختلف عن الخلافة أو الإمارة، قد يستدل البعض بسورة يوسف بأن سيدنا يوسف تحدث عن الحكم بما أنزل الله (إن الحكم إلا لله) وهذا لا يناقض ماقلناه، بل إن المعنى ظاهر في أن يكون القضاء غير مسألة الملك حتى يمكن أن يكون الحكم بالعدل دون أن يتأثر بأهواء الملوك، فإذا ما حاولت الدولة احتكار التشريع وتغيير القوانين – خاصة تلك التي تعتمد على صياغة قانونية وليست قرارًا سياسيًا – يكون الأمر صحيحًا أي أن الذي يجب أن يحارب هو شمولية الدولة وقد انتهى هذا الأمر وأصبحت النظرية السياسية أكثر وعيًا بذلك مما اقتضى تغيير النموذج وهذا ما نتحدث عنه.
– الفقهاء عرضوا مسألة مهمة وهي وجود حاكم غير مسلم (كافر) وعين قاضيًا مسلمًا، فهل يقبل بالقضاء وتنفذ أحكامه؟ والشافعية والحنفية على الجواز، مما يعني التفريق بين المؤسستين وهذا عين الحكمة أن يكون للمجتمع حق البقاء والاستمرار حتى في حال التناقض التام مع الدولة وثقافة الملوك في الأرض، وهذا ما فُهم به قول أبو حنيفة جواز تولي الذمي القضاء على الذميين حيث قال الإمام الماوردي (وقال أبو حنيفة يجوز تقليده – أي تقليد الذمي – القضاء بين أهل دينه، هذا وإن كان عرف الولاة بتقليده جاريًا، فهو تقليد زعامة ورياسة وليس تقليد حكم وقضاء…)
– القانون لا ينبغى النظر إليه محصورًا في إطار قضائي بل هو مما يشكل ثقافة الأمة، فهو كما شبهه المستشار طارق البشري بالفن المعماري الذي يشكل ذائقة الناس، لذا لا نقول التشريع الفرنسي بل التشريع اللاتيني ولا نقول التشريع الألماني بل التشريع الجرماني ولا نقول التشريع الإنجليزي بل التشريع الأنجلو ساكسوني، وهكذا.
ذلك أن العنصر السياسي أكثر فاعلية في تكوين الدول منه في تكوين الثقافات، وأن حركية العنصر السياسي أسرع نسبيًا من حركية التشكيل الثقافي العام، وكما أن الفلاسفة اختلفوا في العنصر الفوقي والتحتي المكون للمجتمعات وفقًا للنموذج الذي يختاره الفيلسوف لفهم التكوين المجتمعي، فكذا ينبغي أن نفسح لعقولنا مجالًا للنظر لمسألة التشريع مغايرة لمخلفات القرن العشرين!
النظرية الديمقراطية لم تعد معطى ثابتًا، بل مصطلح يشكل نموذجًا لمجموعة من القيم من ضمنها حكم القانون دون أن يكون ذلك القانون محددًا في نصوص بعينها أو ثقافة محددة ما لم تتعارض تلك القوانين صراحة مع حقوق الإنسان الذي صار مؤشرًا من مؤشرات الديمقراطية
يمكننا أن نفهم من ذلك أن وظيفة التشريع خضعت هي الأخرى لشكل الدولة وصارت أمرًا من الممكن أن يتغير وفق طبيعة النظام السياسي، لكن التشريع كان ثابتًا وفق منظومة قيمية كانت هي الدستور الذي يرجع إليه المجتمع والسلطات الحاكمة على النحو الذي بينه الإمام الجويني في كتابه الغياثي، فتلك الأعراف والقيم التشريعية هي التي سيلجأ إليها المجتمع في حالات التحولات العنيفة التي شهدها التاريخ من خلال وجود العلماء أو في حال غيابهم كمؤشر على نهاية الدولة يلجأ المجتمع للقيم الحاكمة ويجعلها هي الحاكم.
الإشكالية تكمن في تصوير النظرية الدستورية كمعطى مجرد من التاريخ فيصبح النقاش بشأن قواعد يظن البعض أنها مجردة وما هي كذلك، فالبرلمان كما أيقن هؤلاء وظيفته تشريعية ومن ثم يصبح الهدف أن يكون الدستور فوق القوانين ويصبح الصراع بشأن النص الدستوري الذي يحدد مصدر التشريع، وهناك إقرار ضمني بوظيفة البرلمان التشريعية رغم أن تلك الوظيفة ليست مطلقة وربما خضعت لمراجعات جذرية حتى في تلك الوظيفة، وكما قيل إنها صارت (مسمى تاريخيًا) لا يمكن أن نجد له أثرًا في البرلمانات الحديثة.
بإمكاننا تصور أن النظرية الديمقراطية لم تعد معطى ثابتًا، بل مصطلح يشكل نموذجًا لمجموعة من القيم من ضمنها حكم القانون، دون أن يكون ذلك القانون محددًا في نصوص بعينها أو ثقافة محددة، ما لم تتعارض تلك القوانين صراحة مع حقوق الإنسان الذي صار مؤشرًا من مؤشرات الديمقراطية.
وإذا كانت الديمقراطية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي لم تعد تعني حكم الشعب بحال من الأحوال، بل هي المشاركة السياسية وحق اختيار الحاكم ومجموعة من المؤشرات التي تشكل في مجملها لفظة محببة لدى قلوب الناس وهي الديمقراطية، فإن مسألة التشريع القانوني في النزاعات والخصومات صارت مسألة قانونية يمكن أن تحل عبر مؤسسة قضائية فاعلة قادرة على الحكم بالعدل بين الناس، ولم تعد البرلمانات السلطة التشريعية بالمعني الذي صوره بعض الإسلاميين، في المقال القادم نبين بعض الدراسات التي تثبت هذه الفكرة.
(المصدر: نون بوست)