بقلم أ. شريف عبد العزيز
من أبرز ما يعانيه العالم في وقتنا المعاصر هو الطغيان والظلم والجبروت، المتمثل بنماذج مكررة من الطغاة والمتجبرين، ممن يعيدون إلى الذاكرة بطغيانهم قصص فرعون وهامان وقارون والنمرود التي ذكرت في القرآن الكريم، ليؤكد الواقع المعاصر مرة بعد أخرى صلاحية القرآن للتطبيق في كل زمان ومكان، بل إصلاحه لكل زمان ومكان، فالتشابه والتطابق الكبير بين مسالك وتصرفات الطغاة التي ذكرت في القرآن الكريم، وبين تصرفات ومسارات الطغاة المعاصرين تنبئ عن توافق وتطابق منقطع النظير.
ومن العجيب: أنك ترى أكثر قصة تكررت في القرآن هي قصة إمام الطغاة: فرعون -لعنه الله-، فقصته تكررت في أكثر من مائة آية وفي عدة سورة، وبتفاصيل دقيقة، ورواية شاملة.
وذلك أن قصة فرعون بشخوصها وأبطالها الرئيسيين والثانويين تتكرر عبر العصور، بحيث لا يخلو زمان من فرعون وملائه ووزيره وجنوده وشعبه المقهور الذي استخف به فآمن به وصدقه واتبعه وأطاعوه حتى الهاوية.
لقد سار الطغاة على اختلاف الأزمنة والعصور على هذه المسارات والمسالك التي ذكرها القرآن الكريم عنهم خاصة في سور الشعراء والقصص وغافر، والتي تمثل أنموذجاً لسلوك وطريقة الطغاة في استعباد الناس وقمع تطلعاتهم، دون اختلاف أو تغيير إلا في الوسائل والأساليب التي تتطور وتتغير مع تبدل الزمان، وهذه المسالك والمسارات ملخصة في آيات القرآن، سأحاول تناولها بشيء من التفصيل، مع بيان أن إرادة الله -تعالى- وسنته هي الباقية والماضية في نهاية المطاف.
أولاً: الطغيان في القرآن الكريم:
الطغيان لغة بمعنى: مجاوزة الحد، قال ابن فارس في مقاييس اللغة: “الطاء والغين والحرف المعتل أصل صحيح منقاس، وهو مجاوزة الحد في العصيان”، وكلُّ شيء يجاوز الحد فقد طغى، مثلما طغى الماء على قوم نوح، قال سبحانه: (إنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) [الحاقة: 11].
ووردت كلمة: “طغى” ومشتقاتها في تسعة وثلاثين موضعاً من القرآن الكريم، وبصيَغ وتصريفات مختلفة: “طغى، يطغى، أطغى، تطغوا، طغوا، أطغيته، طغيان، طغوى، طاغية، طاغوت، طاغين، طاغون”.
وأما استعمالات القرآن لها، فهي على أربعة أوجه:
1- الطغيان بمعنى الضَّلالة؛ وذلك كما في قوله تعالى: (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [البقرة: 51].
2- الطغيان بمعنى العصيان؛ وذلك كما في قوله تعالى: (اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى) [طه: 24].
3- الطغيان بمعنى الارتفاع والتكثُّر؛ وذلك كما قوله تعالى: (إنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاء) [الحاقة: 11].
4- الطغيان بمعنى الظلم، وهو الأكثر شيوعاً في القرآن.
ثانياً: مسالك الطغاة:
لم تعد أفعال الطغاة مجرد حادثة عابرة، أو قصة حدثت في التاريخ وانتهت، بل إن أفعالهم ظاهرة يعاني منها الناس قديمًا وحديثاً، وسيبقى جاثمًا على صدور الخلق ما دام في الأرض حق وباطل، وهذه بعض المسالك التي يستخدمها الطغاة لتمرير طغيانهم، ذكرها الله -تعالى- في كتابه.
المسلك الأول: تشويه المعارضين من المصلحين بشتى السبل:
فالملاحظ على الطاغية قيامه بحملة تحريضية كاذبة واسعة النطاق ضد كل من يعارضه ويخالف إرادته ويراجعه في أحكامه، خاصة إذا كان المعارضون من المصلحين، فهذا فرعون وقومه اتهموا موسى -عليه السلام- بسعيه إلى الاستيلاء على الأرض والوطن، قال سبحانه: (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) [الأعراف: 109 – 110]، وقال: (قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى) [طه: 57]، فهم يصرحون بالنتيجة الهائلة التي تتقرر من إعلان تلك الحقيقة، إنها الخروج من الأرض إنها ذهاب السلطان، إنها إبطال شرعية الحكم، أو محاولة قلب نظام الحكم بالتعبير العصري الحديث.
كما أن الطاغية يسعى جاهدًا إلى اتهام كل مصلح بالتآمر على البلاد والعباد، قال سبحانه: (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 123] أي أن هذا الصنيع الذي صنعتموه أنتم وموسى وهارون بالتواطؤ والاتفاق ليس إلا مكرًا مكرتموه في المدينة بما أظهرتم من المعارضة والرغبة في الغلب عليه مع إسرار اتباعه بعد ادعاء ظهور حجته زاد في سورة طه: (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) [طه: 71]، فأجمعتم كيدكم لنا في هذه المدينة؛ لأجل أن تخرجوا منها أهلها المصريين بسحركم (وهو ما كان اتهم به موسى وحده) ويكون لكم فيها مع بني إسرائيل ما هو لنا الآن من الملك والكبرياء.
كما أن الطاغية يحرص غاية الحرص على إظهار المخالفين له بمظهر الحريصين على النفوذ والسلطة، قال سبحانه: (قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ) [يونس: 77 – 78].
وهذه الوسيلة التي استخدمها فرعون للتشكيك في دعوة موسى -عليه السلام- استخدمتها قريش لصرف الناس عن دعوة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال سبحانه: (وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) [ص: 6]، أي أن هذا القول الذي يقول محمد، ويدعونا إليه، من قول لا إله إلا الله، شيء يريده منا محمد يطلب به الاستعلاء علينا، وأن نكون له فيه أتباعاً ولسنا مجيبيه إلى ذلك.
المسلك الثاني: الإلزام الجماعي واحتكار الصواب:
وذلك بالزام الجماهير بآرائهم، واتهام كل من خالف بالفساد، ورغم تظاهر الطاغية حرصه على المشورة في بعض الأمور، ويستشير ملأه المقربين منه، لتمام معرفته أنهم لن يخالفوا له رأي، فهذا فرعون يستشير قومه في قتل موسى، وهو الذي أثخن في بني إسرائيل، قال الله تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر: 26].
ولم يتوقع فرعون أبدا أن أحدا سيعترض عليه في قتل موسى، فاعترض عليه أحد الحاضرين: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) [غافر: 28]، فلما سمع فرعون هذا الكلام أفصح عما في نفسه من غطرسة، ولسان حاله: من ليس معنا فهو عدونا، من خالفني فهو على باطل: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر: 29].
فإذا تأملنا هذه الكلمات التي قالها فرعون وجدناها تدل دلالة واضحة على الفكر الإقصائي الذي كان يحمله الطاغية فرعون: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى) فلا ينبغي أن يرى الناس إلا ما رآه، ولا يمكن لهم أن يفكروا إلا بتفكيره، ولا نظر إلا نظره، فهو على الصواب وغيره على الخطأ، وهو المبصر وهم العميان، ولا هداية إلا ما يراه هو، كلامه رشاد وكلام غيره غي، هو كل شيء وغيره لا شيء، يقول صاحب الظلال: “إنني لا أقول لكم إلا ما أراه صوابًا، وأعتقده نافًعا، وإنه لهو الصواب والرشد بلا شك ولا جدال! وهل يرى الطغاة إلا الرشد والخير والصواب؟ وهل يسمحون بأن يظن أحد أنهم قد يخطئون؟! وهل يجوز لأحد أن يرى إلى جوار رأيهم رأيًا؟ وإلا فلم كانوا طغاة ؟ فالطاغية يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدي، فيضع رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها من النطق بالحق والتعدي لمطالبته.
فالطاغية يعدم إرادة الناس، ويجهز عليها، ويدمر حرية الإنسان التي هي أهم جزء من كرامته. فهو يريد شعباً ساكناً يسوده الصمت الرهيب؛ لأنه يدري أن الأفواه لو نطقت فستفضح خبأه، وتكشف سره، وهنا الطامة الكبرى لذلك من خصائص الاستبداد السياسي في كل زمان ومكان كرهه الشديد لحرية النقد والتوجيه.
المسلك الثالث: الاستهزاء والسخرية من الصالحين:
فمن شيم الطغاة في القرآن الكريم: استهزاؤهم بالأنبياء والمرسلين، قد ذكر الله -تعالى- لنا ما كان عليه أهل الطغيان من استهزاء بالأنبياء المرسلين، قال تعالى: (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الزخرف: 6 – 7]، فعلى هذا النحو الذي تلقى به المكذبون أتباع الرسل ما جاءهم به رسلهم، يتلقى المكذبون المجرمون من أتباعك ما جئتهم به.
وقال جل في علاه: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ) [الزخرف: 46 – 47]، واستهزأ قوم نوح -عليه السلام- به: (وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ) [هود: 38]، واستهزأوا بشعيب -عليه السلام-: (قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود: 87].
وقد احتقر كفار قريش نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- واستبعدوا أن تكون الرسالة نزلت على رجل مثله واقترحوا أن تكون الرسالة: (عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف: 31].
والواقع أن السخرية والاستهزاء من أمضى أدوات النفوذ والتأثير على الآخرين، ذلك أنها من أشد الأمور إيلاماً لأصحاب المروءة، فتحجزهم عن كثير من المواقف تحاشياً أن يقعوا في مثار سخرية أو موضع استخفاف، ولذلك نبه الله الرسل والمصلحين على استغلال خصوم الدعوات الإلهية لهذه السلطة، فقال تعالى: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ) [الأنعام: 10]، وقال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الحجر: 10 – 11].
المسلك الرابع: إدعاء النبوغ والألمعية:
من طبيعة الطغاة أن ينسبوا النعم التي امتن الله بها عليهم إلى أسباب نبوغ وألمعية شخصية، فيزعموا أنهم حصلوا عليها بحذقهم وذكائهم، وورثوها كابرًا عن كابر، يقول تبارك وتعالى مخبرا عن قارون: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [القصص: 78]، قال المفسرون: “إنما أوتيت هذا المال استحقاقًا على علمي الذي طوع لي جمعه وتحصيله. فما لكم تملون عليّ طريقة خاصة في التصرف فيه، وتتحكمون في ملكيتي الخاصة، وأنا إنما حصلت هذا المال بجهدي الخاص، واستحققته بعلمي الخاص؟ إنها قولة المغرور المطموس الذي ينسى مصدر النعمة وحكمتها، ويفتنه المال ويعميه الثراء”.
فكم من طاغية يظن أن علمه وكده هما وحدهما سبب غناه. ومن ثم فهو غير مسؤول عما ينفق وما يمسك، غير محاسب على ما يفسد بالمال وما يصلح، غير حاسب لله حساباً، ولا ناظر إلى غضبه ورضاه!
ومن ثم جاءه التهديد قبل تمام الآية، ردا على قولته الفاجرة المغرورة: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [القصص: 78].
المسلك الخامس: قلب الحقائق:
من مسالك الطغاة: إلباس الحق بالباطل وقلب الحقائق الواضحة الجلية وضوح الشمس في رابعة النهار، فنرى الطغاة يحيلون الحق باطلًا والباطل حًقا، وإذا بالرسول المرسل ساحر، وإذا بالمجرم الظالم الطاغية إمام عادل، قال تعالى: (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) [يونس: 76]، وقال: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا) [الإسراء: 101] فكلمة الحق وتوحيد الله والدعوة إلى ترك الظلم والطغيان والإيذاء لا تصدر في عرف الطاغية إلا من مسحور لا يدري ما يقول! فما يستطيع الطغاة من أمثال فرعون أن يتصوروا هذه المعاني ولا أن يرفع أحد رأسه ليتحدث عنها وهو يملك قواه العقلية!
وقال سبحانه: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [النمل: 56] فجعلوا أفضل الحسنات بمنزلة أقبح السيئات.
وفرعون أراد أن يقتل موسى -عليه السلام- تحت مبرر الخوف على الدين والخوف من الفساد في الأرض، فقال لقومه: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَفُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر: 26]، وهي بعينها كلمة كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح؟ أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح في وجه الحق الجميل؟ أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادئ؟
إنه منطق واحد ومسلك واحد، يتكرر كلما التقى الحق والباطل، والإيمان والكفر، والصلاح والطغيان على توالي الزمان واختلاف المكان، والقصة قديمة مكررة تعرض بين الحين والحين.
المسلك السادس: الترغيب والترهيب:
الطاغية يملك المال والمنصب والجاه، فيغري الجماهير بالمال الوفير، قال تعالى: (وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [الأعراف: 113 – 114].
والطاغية يملك السلاح والقوة فيبطش بخصومه ويقمع معارضيه بكل قسوة وبلا أدنى رحمة، قسوة تطول الجميع حتى الأطفال والنساء: (قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) [الأعراف: 127]، وقال تعالى: (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)[الشعراء: 29].
فالطاغية لا يخشى شيئا كما يخشى يقظة الشعوب، وصحوة القلوب ولا يكره أحدًا كما يكره الداعين إلى الوعي واليقظة ولا ينقم على أحدكما ينقم على من يهزون الضمائر الغافية.
ومن ثم ترى فرعون يهيج على موسى ويثور، عند ما يمس بقوله هذا أوتار القلوب، فينهي الحوار معه بالتهديد الغليظ بالبطش الصريح، الذي يعتمد عليه الطغاة عند ما يسقط في أيديهم وتخذلهم البراهين.
ويلجأ الطغاة إلى التعذيب إن لم ينفع السجن والتهديد، قال سبحانه: (قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى) [طه: 71].
والخلاصة: أن الطاغية لا يتحرج من ارتكاب أشد الجرائم وحشية وأشنعها بربرية وأبعدها عن كل معاني الإنسانية وعن الخلق والشرف والضمير.
المسلك السابع: التفرقة بين الناس:
أي تقسيم المجتمعات والشعوب إلى طبقات متناحرة ومتفرقة، يميز بينهم في التعامل والعلاقات، قال تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا) [القصص: 2] أي فرقا وأصنافا كما قال ابن كثير في تفسيره، يشيعونه على ما يريد ويطيعونه، فلا يملك أحد منهم مخالفته، وقد صرف كل صنف فيما يريد من أمور دولته، وقد أغرى بينهم العداوة والبغضاء كي لا تتفق كلمتهم ولا يتفرغون للتفكير فيما يقلقه ويهز عرشه من تحته، فيظل هو مطلوبا من الجميع، ويكون الجميع له أطوع.
وهذا فعل كل طاغية يريد السيطرة والاستبداد والتحكم في كل زمان ومكان، يجعل الناس في دولته فرقا وطوائف يوالي بعضهم ويعادي الآخرين، ويوحي لحاشيته وأعوانه بأنه الحامي لهم والحافظ لحقوقهم ووجودهم، بينما الحقيقة أنه يفعل ذلك حفاظا على استمرار ملكه واستبداده، فإذا ما جد الجد وجاء وعد الله -تعالى- في زوال ملكه وانتهاء حكمه، ضحى بأتباعه وأعوانه بإلقائهم إلى التهلكة، بينما يلتفت هو إلى خاصة نفسه ومحاولة النجاة من الموت المحتم الذي ينتظره، وهذا ما حصل مع فرعون تماما.
وفي مقابل كل واحدة من مسالك الطغاة مسار إلهي يدحضه ويواجهه بإرادة الله -تعالى- التي لا ترد ولا تصد، في المن والإنعام على المستضعفين في الأرض وجعلهم أئمة وملوكا ووارثين لحكم الجبابرة والطغاة والمستبدين، والتمكين لهم في الأرض ما داموا صالحين فيها ومصلحين، فهل يعي الطغاة والمفسدون في الأرض هذه النتيجة الحتمية التي تنتظرهم؟! وهلا أيقن المؤمنون بموعود ربهم وسننه في خلقه التي لا تتبدل ولا تتحول؟! فاليقين أول خطوات التمكين.
(المصدر: ملتقى الخطباء)