بقلم الشيخ حامد العطار
لم ينص الدستور التونسي المكتوب سنة 2014م على أن الإسلام مصدر رئيس للتشريع، بل لم يذكر الإسلام واحدًا من مصادر التشريع أصلًا حتى لو كان مصدرًا ثانويا.
واكتفى الدستور بانتساب الدولة إلى الإسلام، فجاء في الفصل الأول من الباب الأول : ” تونس دولة حرة مستقلة، ذلت سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها”.
الشعب هو صاحب السيادة في الدستور التونسي
وجاء في الفصل الثالث من الباب ذاته : ” الشعب هو صاحب السيادة، ومصدر السلطات، يمارسها بواسطة ممثليه المنتخبين أو عبر الاستفتاء”
ودار جدل طويل إبان وضع هذا الدستور، لماذا لم تناضل حركة النهضة، صاحبة التوجه الإسلامي لجعل الإسلام المصدر الرئيس أو حتى الثانوي للتشريع، واختارت الحركة أن تنأى بنفسها عن ذلك الجدل، الذي تجلى أكثر ما يكون على الساحة المصرية إبان وضع دستورها قبل أحداث 30/يوليو/2017
ورأت حركة النهضة أن حراسة الضمير الجمعي لمبادئ الإسلام أقوى من ضمانة الدستور، مراهنة بذلك على التدين الشعبي، ونائية بنفسها عن جدال ليس في مصلحة الديمقراطية والحرية، كما هو شأنها الدائم في التعامل مع هذا الملف.
السبسي والمواريث والزواج
منذ شهر مضى، نادى السبسي الرئيس التونسي في خطاب له بمناسبة العيد الوطني للمرأة على ضرورة إجراء مراجعات قانونية من شأنها أن تساوي بين الرجل والمرأة في الميراث وأن يسمح لها بالزواج من غير المسلم.
ديوان الإفتاء التونسي يوافق
لم تمض ساعات حتى أصدر ديوان الإفتاء فى تونس، بيانًا ساند فيه مقترحات رئيس الجمهورية الباجى قايد السبسى، التى طرحها فى كلمته بمناسبة العيد الوطنى للمرأة التونسية، ودعا فيها للمساواة بين الرجل والمرأة فى الميراث والسماح للتونسيات بالزواج من أجانب غير مسلمين.
وقال ديوان الإفتاء، إن مقترحات “السبسى” تدعم مكانة المرأة وتضمن وتفعل مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة فى الحقوق والواجبات، التى نادى بها الدين الإسلامى فى قوله تعالى “ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف”، فضلا عن المواثيق الدولية التى صادقت عليها الدولة التونسية التى تعمل على إزالة الفوارق فى الحقوق بين الجنسين.
ثم لم يمر سوى شهر حتى أفادت تقارير إعلامية بأن تونس ألغت حظرا كان يمنع زواج المسلمات بغير المسلمين.
ونقلت وكالة أنباء رويترز عن “مسؤول حكومي كبير” قوله: إن وزارة العدل ألغت المنشور الذي كان يقضي بعدم السماح للتونسيات بالزواج من غير المسلمين “مما يعني الحرية التامة للمرأة التونسية في اختيار قرينها”.
كما جاء في تدوينة على صفحة فيسبوك منسوبة لسعيدة قراش، الناطقة الرسمية باسم رئاسة الجمهورية: “تم الغاء كل النصوص المتعلقة بمنع زواج التونسية بأجنبي يعني بعبارة أوضح منشور 1973 و ما جاوره. مبروك لنساء تونس في تكريس حق حرية اختيار القرين”.
ما الحاجة إلى الدين؟
والسؤال الذي يجب طرحه هنا : ما الحاجة إلى الاستقواء بالدين في هذا السياق بالرغم من أن الدين في الدستور التونسي ليس مصدرًا من مصادر التشريع؟
وما فائدة فتوى ديوان الإفتاء، وهي ليست ذات صفة رسمية في هذا الشأن؟ إن هذا القانون يمكنه أن يمر من خلال مجلس الشعب دون فتوى ديوان الإفتاء، بل حتى لو أصدر الديوان فتوى ببطلان هذا القانون شرعا، فإنه لن يؤثر على ولادته الدستورية!
لا غنى للعلمانية عن الدين
إن استدعاء الدين هنا من حزب نداء تونس، حزب الرئيس السبسي، وهو الحزب العلماني، استدعاء هذا الحزب العلماني، في دولة دستورها لا يعتبر الإسلام مصدرًا من مصادر التشريع، دليل على أن العلمانية تعلم أنها تعمل في بيئة غير مواتية للعلمنة، وأنها بحاجة إلى التدثر بالخطاب الديني لتصل إلى مبتغاها العلماني؛ ولذلك تسعى هذه الدول إلى تأميم وتدجين المؤسسات الدينية.
إن الأيدلوجية العلمانية، الليبرالية منها والمتطرفة لا تسمح بالتدخل الديني في التشريع ولا في الثقافة ولا التوجيه، لا تسمح حتى بمباركة الدين لقراراتها، هذا هو لب العلمانية، لكنها ها هي تضطر اضطرارا إلى إطلاق خطاب ديني مدجن، حتى لا تستثير الناس فيما بقي من دينهم ممثلا في الدساتير والقوانين، مثل الأحوال الشخصية. كما حرص السبسي على القول : “إن هذه المسائل ( الزواج والميراث) ليست مسائل دينية” حتى يسهل قبول الناس بالمساس بها!
تدين الشعوب أقوى من نصوص الدستور
ويبدو أن هذا في ذاته أيضا يدل على نجاعة ما ذهبت إليه حركة النهضة التونسة من التعويل على التدين الشعبي بدلا من التعويل على النص الدستوري، وإلا فلنفرض أن الدستور التونسي كان قد نصعلى أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع؟ أليس قد قال ديوان الإفتاء كلمته بالموافقة بعد ساعات من الإشارة السياسية!
كما أسفرت هذه الواقعة كذلك عن أنه إذا كان الخطاب العلماني يعمل في غير بيئة صالحة ومواتية لقبول العلمنة، فإن المؤسسات الدينية الرسمية كذلك تعمل في غير بيئة قابلة لخطابها إلا فيما لا علاقة للسياسية به من قريب أو بعيد، كأبواب الحيض والنفاس!
(المصدر: إسلام أونلاين)