لا تنفك جهات وشخصيات ذات توجهات فكرية مختلفة، عن إثارة الجدل حول قضايا ومسائل دينية، يصنفها علماء الدين باعتبارها من ثوابت الشريعة، وقطعيات الدين، انعقد إجماع أئمة الدين الأوائل على قطعيتها وثبوتها.
ووفقا لباحثين شرعيين فإن دوافع مثيري ذلك اللون من الجدل حول تلك القضايا مختلفة ومتباينة، فبعضهم ينطلق من منطلقات تخاصم الدين مخاصمة جذرية، والبعض الآخر يدرج مناقشتها في نطاق المراجعات والتساؤلات المشروعة.
وبحسب أستاذ الحديث النبوي وعلومه في جامعة الزرقاء الأردنية، أسامة نمر، فإن “الهجمة على القضايا والمسائل الدينية موجودة، ولا يمكن إنكارها، وهي قديمة وتتجدد بين الفينة والأخرى”، ذاكرا أنه كان يسمع بها حينما كان شابا في ثمانينات القرن الماضي.
ولفت نمر إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي ساعدت على إظهار ذلك بشكل أوضح، وأوصلتها إلى قطاعات أوسع، لسرعة تداولها بين رواد تلك المواقع.
وجوابا عن سؤال من يقف وراء تلك الحملات التي تستهدف قطعيات الدين وثوابت الشريعة؟ قال نمر: “ليس من السهل ذكر جهات بعينها وشخصيات بأسمائها، لكن من الممكن وضع غالب المهاجمين في إطار “من لا يريد الإسلام دينا في الأرض””، على حد عبارته.
وأوضح نمر أن دوافع تلك الجهات والشخصيات مختلفة ومتعددة، فمنها الديني ومنها الفكري ومنها السياسي، فبعض الجهات الدينية المعادية تسعى لإثارة الشكوك حول عقائد الإسلام وشرائعه، وكذلك حال اتجاهات وقوى اتجاهات فكرية معاصرة، وإن اختلفت في منطلقاتها وأهدافها مع الأولى.
وأضاف: “كما توجد قوى وجهات سياسية تسعى لأهداف وأغراض سياسية”، وربما التقت تلك التوجهات على اختلاف دوافعها ومنطلقاتها على ذات الأهداف والأغراض.
لكن أستاذ الحديث النبوي وعلومه كشف عن أن باحثين شرعيين، وطلبة علم ديني، يثيرون تساؤلات مشروعة حول قضايا دينية قلقة، ويتبنون إخضاع تلك القضايا والمسائل لمراجعات نقدية، فإن ثبت بالدليل المعتبر صحتها وثبوتها، فإنهم يتبنون ذلك بعد البحث والتمحيص.
وعن كيفية مواجهات حملات التشكيك والطعن والتشويه، أكدّ نمر أن أنجع طريقة لمواجهتها هو التسلح بالبحث العلمي، داعيا علماء الشريعة والدعاة وطلبة العلم للتشمير عن ساعد الجد، ودراسة تلك القضايا المثارة، واستيعابها بشكل جيد، ثم إخضاعها للدراسة والنقد والتمحيص، حتى تكون ردودهم ومناقشاتهم علمية وعقلانية مستنيرة.
وبكلام واضح وصريح انتقد أستاذ الحديث النبوي وعلومه، مستوى فهم بعض الشرعيين للإسلام ذاته، موجها دعوته لهم لفهم عقائد الإسلام وشرائعه بطريقة صحيحة وعميقة، تستند إلى دراسة الأدلة الأصلية، وفي الوقت نفسه ضرورة تبسطهم في العرض والمناقشة والحوار.
وذكر نمر أنه اهتم في وقت سابق بدراسة وتمحيص أطروحات الكاتب السوري محمد شحرور التي توصف بالجريئة والتجديدية، لافتا إلى أنه انتهى من دراسته الموضوعية لبعض مقولات شحرور إلى خطئها من الناحية العلمية، وهو ما يجعله يدعو وبإلحاح إلى تفريغ علماء وطلبة علم لمناقشة أطروحات مماثلة لكتاب ومفكرين آخرين.
في سياق مقارب تناول أستاذ الحديث المشارك في كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي، عبد السلام أبو سمحة ما تتعرض له السنة النبوية من هجمات وحملات شرسة، خاصة ما يوجه لصحيح الإمام البخاري من صور الطعن والتشكيك لإسقاطه بالكلية.
وأوضح أبو سمحة أنه بدراسته الأكاديمية المتخصصة، وحواراته العلمية والفكرية الدائمة، لم يجد غرابة في اتحاد مواقف جمهور الطاعنين في السنة النبوية قديما وحديثا، بتناولهم لموضوعات محددة، من حجية السنة إلى خبر الواحد إلى نقد المتن.
وتابع مساعد الأمين العام للندوة الدولية للحديث الشريف، أبو سمحة قوله: “ومن أساليب طعنهم تعرضهم لشخصيات حديثية اعتبارية محددة، تعد من نجوم هذا العلم ورواده الأوائل، كالصحابي أبي هريرة، والإمام الزهري، والإمام البخاري، بعيدا عن سياقات النقد الموضوعي”.
ووصف أبو سمحة طعنهم في صحيحي البخاري ومسلم بأنه ليس مرادا لذاته، وإنما هو أسلوب من أساليب الطعن في السنة النبوية، لأنهم يظنون أنهم إن نجحوا في الطعن في أصح وأدق ما أنتجه المحدثون، فإن مهمة الإجهاز على السنة النبوية تسهل عليهم حينئذ كما يتصورون.
وردا على سؤال: هل صحيح البخاري مقدس، ويستعلي على النقد والمراجعة، أم أنه خاضع لذلك؟ قال أبو سمحة: “ليس هناك شيء مقدس لا يمسه النقد إلا القرآن الكريم، ولطالما أعلنا أن البخاري بشر يصيب ويخطئ، ليس هذا فحسب فتاريخ السنة النبوية يشهد على استدراكات علماء كبار فحول على صحيح البخاري، كما فعل الإمام الدارقطني.
وبين أبو سمحة أنه خاض حوارات طويلة مع من يتعرضون لأحاديث البخاري بالنقد، ويزعمون أنهم ينتقدونها بإعمال معايير ثلاثة: مخالفتها للقرآن، ومخالفتها للعقل، ومخالفتها للحقائق العلمية، التي وصفها بالمعايير المحقة، لكنه لم يجد في الميدان التطبيقي ما يصدق دعواهم بمخالفة أحاديث البخاري لأي من تلك المعايير.
وأضاف: “لم أقف على حديث واحد في صحيح البخاري يخالف صريح القرآن، وإنما يخالف أفهامهم لآياته، وكذلك الحال مع العقل، فهم يردون الأحاديث لمخالفته لرأيهم وليس لما اتفق عليه العقلاء من قواعد العقل وموازينه، والأمر ذاته ينطبق على مخالفة الأحاديث للحقائق العلمية، فما يسوقونه فرضيات علمية لم ترق إلى مصاف الحقائق العلمية الثابتة”.
وأكدّ أبو سمحة أنه في حال ثبوت مخالفة أي من أحاديث البخاري لأي من تلك المعايير، فإنه لن يتردد وهو المختص في الحديث النبوي وعلومه، وفي النقد الحديثي، أن يرد تلك الأحاديث، لأن الكمال لله وحده، والعصمة لكتابه ونبيه عليه الصلاة والسلام.
من جهته وصف الأكاديمي السوري، المتخصص في الفقه الاجتماعي، والمدرس في الجامعات التركية، إبراهيم سلقيني، حملات الطعن والتشكيك في ثوابت الدين وقطعياته، بـ”الهجمة الشرسة جدا، وأن أكثر المؤثرين فيها هم أنصاف المتعلمين الذين يغترون بنداءات الحداثة، الذين يجهلون العلوم الشرعية، والعلوم المعاصرة على حد سواء”.
واعتبر سلقيني أن أنجع طرق مواجهة تلك الحملات والهجمات تتمثل في “تقوية حصانة المجتمع بنشر العلم وتعليمه”.
وعن مدى تأثير تلك الهجمة على الأجيال الشابة حاضرا ومستقبلا، ومساهمتها في إشاعة أنماط من علمنة الدين، أو ما يوصف بالإسلام الأمريكي، رأى سلقيني أن الدين الإسلامي لم ولن يتأثر بذلك لأنه محفوظ من الله تعالى.
وختم حديثه بقوله: “لكن من المرجح أن يكون التأثير على المستوى السياسي، كما ستتأثر به أعداد من العوام، وأنصاف المتعلمين، لكن ذلك لا يعني بحال انحراف الدين أو اندثاره.. فهي موجة كغيرها من الموجات قد تطول أو تقصر، لكنها ستمضي وتذهب كغيرها من الموجات السابقة”.
بدوره رفض الباحث الشرعي، المتخصص في تحقيق كتب التراث، صالح حمودة اعتبار الدعوة إلى مراجعة التراث الديني، وإعادة النظر في بعض الأحكام الشرعية المعلولة بعلل معقولة، والتي تحتمل إعادة النظر فيها بناء على معطيات الواقع الجديدة من الطعن في الدين، أو من ضروب تشويه أحكامه وتشريعاته.
ومثَّل صالح لذلك بأحكام الميراث، خاصة منها ما يتعلق بالمساواة بين الرجل والمرأة، إذ إنها تحتمل نظرا فقهيا جديدا، لأن علة الحكم فيها تدور على ما يتحمله الذكر من تكاليف المهر والنفقة وما إلى ذلك، فإذا ما باتت المرأة العاملة تساهم في نفقات البيت، فلماذا لا تكون الدعوة إلى المساواة بينها وبين الذكر في الميراث دعوة ممكنة ومقبولة، بسبب تغير علة الحكم. على حد قوله.
وأضاف: “أحكام المواريث ليست تعبدية محضة، بل معللة بعلل معقولة، وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم بشأنها، وأعملوا عقولهم في استنباط بعض أحكامها”.
وعن إخضاع كتب السنة، خاصة صحيحي البخاري ومسلم للنقد والمراجعة تساءل صالح: كيف جاز لأئمة كبار من أئمة الحديث انتقاد أحاديث في صحيح البخاري كما فعل الإمام الدارقطني، ولا يجوز ذلك للمعاصرين من علماء الحديث والباحثين الشرعيين؟
وتابع: “ما دام أنهم يقرون بأن صحيحي البخاري ومسلم ليسا مقدسين، فما المانع من نقد ما يستحق النقد من أحاديثهما، وفق القواعد والأصول المقررة في نقد السند والمتن؟”.
ودعا صالح علماء الدين وطلبة العلم الشرعي “إلى ضرورة الاهتمام بالتنوير الديني، وإخضاع الدراسات الدينية للنقد والتمحيص بإعمال العقلية النقدية، ومراجعة كثير من القضايا التي توصف بأنها من قطعيات الدين، وثوابت الشريعة لكنها عند النظر والتحقيق ليست كذلك”، طبقا لقراءته ورؤيته.
(المصدر: عربي21)