بقلم د. حمزة آل فتحي
- في تويتر أزهار تشع حسنًا وبهجة ولطافة، وتغيثك من ينبوعها الفكري والإيماني.
- ومما تباهى في تويترَ ما أرى من السلسَل المعسول، والطيّبِ الشهدِ !
- وثمة حنظليات طعمها مر، وثمارها ضر وتعاسة، ولا تنفك تؤذينا بتكاثرها وإنباتها بلا بذر ومتابعة.
- فمع فوائد تويتر المذهبة، إلا أنه كشف عن أخلاقيات ومعادن بشرية غثة، وزاد عليها تفاهات عقلية لا يشعها إلا الجهل والتواطؤ الغبائي المستند بالمال والزهرات الدنيوية (فسيُنفقونها ثم تكون عليهم حسرة..) [سورة الأنفال].
- فمن نزقٍ لسفاهة، أو انحراف وبلاهة، إلى تبنٍّ لبواطيل تنافي الإسلام وعقيدته..! ( إن الدين عند الله الإسلام) [سورة آل عمران ].
- وهو ديدن كتّاب ومثقفين زعموا نفع المجتمعات، وعبر (١٤٠) حرفًا مصقولة مقفولة بمحاسن الحِكم وروائع الكلم، ولكن دون جدوى!.
- ولكن العقائد المسبقة، والتوجهات المعادية للمجتمعات المسلمة تحملهم على التضاد التويتري، وإفراز نزقيات مردية، وتغاريد حمقاوات، ولو كانوا قلائل، أو محدودي التأثير .
- فمن افتعال الأزمات والتطبيل بلا أثمان ابتداءً ، ومرورًا بالسذاجات المتواليات، تنتهي بالفجائع الفكريات، من نحو مضادات الهوية الدينية وبلا برهان.
- كقول بعضهم مؤخرًا في تغريدة تنوقلت له: ( بدأت النهضة الأوروبية بإعادة الاعتبار للحضارة الإغريقية، وأعتقد بأن بداية النهضة العربية هي بإعادة الاعتبار لفترة ما قبل الإسلام).
- وهي تغريدة شائنة بفطرة كل مسلم بسيط؛ لأن الفترة ما قبل الإسلام نُعتت بالجاهلية، وبالضلال المبين، فأي نور حضاري سيقبسه منها..؟! ووضعها التخلفي الجاهلي من أسباب ولادة الرسالة المحمدية..! وفِي الحديث الصحيح: (إن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض، عربَهم وعجمهم، فمقتَهم إلا بقايا من أهل الكتَاب، وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك..). فلا قيمة اعتبارية تُذكر مع حالة المقت الإلهي، وشروع سنة الابتلاء، حيث الشر غالب ..!
- ومن لطائف التفسير ما ذكره بعضهم: أن لفظ (الجاهلية) في القرآن أُضيفت إلى أربع كلمات:
- {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}[سورة المائدة] . وقوله{ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [سورة آل عمران]. وقوله {تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ} [سورة الأحزاب]. و{حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [سورة الفتح].
- فالأول: يأتي في فساد النظم، والثاني: في فساد التصورات. والثالث: في فساد لباس المرأة، والرابع: في العصبيات والموروثات الفاسدة، وهذه من مفسدات الأمم ومدمراتها..!
نعم توجد أشياء حسنة، ولكنها لا تقارن بالفساد العام المحتاج للإصلاح.
- على أن التغريدة مناقضة لسياق الكاتب الفكري وحداثيته المطالبة دومًا بالتغيير والانقلاب الثقافي ودعاوى التجديد.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (فالناس قبل مبعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- كانوا في حالٍ جاهلية منسوبة إلى الجهل ، فإن ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال إنما أحدثه لهم جاهل، وإنما يفعله جاهل..).
- وقال: (وكذلك كل ما يخالف ما جاء به المرسلون من يهودية، ونصرانية: فهي جاهلية، وتلك كانت الجاهلية العامة، وأما بعد مبعث الرسول -صلى الله عليه وسلم-فقد تكون في مصر دون مصر كما هي في دار الكفار ، وقد تكون في شخص دون شخص، كالرجل قبل أن يسلم فإنه في جاهلية، وإن كان في دار الإسلام).
- وفِي صحيح البخاري -رحمه الله- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطّلب دم امرئ بغير حق، ليُهريقَ دمه).
- وقال أيضا شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- في (الاقتضاء): ( والسنة الجاهلية، كل عادة كانوا عليها، فإن السنة هي العادة، وهي الطريق التي تتكرر لتتسع لأنواع الناس مما يعدونه عبادة، أو لا يعدونه عبادة، قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ} [سورة آل عمران: 137]، وقال النبي-صلى الله عليه وسلم-:( لتتبعنّ سَنَن من كان قبلكم..)؛ والاتباع هو الاقتفاء والاستنان، فمن عمل بشيء من سننهم فقد اتبع سنةً جاهلية، وهذا نص عام يوجب تحريم متابعة كل شيء كان من سنن الجاهلية في أعيادهم وغير أعيادهم).
- وقال: ( فقوله في هذا الحديث: (ومبتغ في الإسلام سنة جاهلية) يندرج فيه كل جاهلية مطلقة أو غير مقيدة، يهودية أو نصرانية، أو مجوسية أو صابئة، أو وثنية أو شركية من ذلك أو بعضه، أو منتزعة من بعض هذه الملل الجاهلية، فإنها جميعها مبتدعها ومنسوخها صارت جاهلية بمبعث محمد -صلى الله عليه وسلم- وإن كان لفظ الجاهلية لا يقال غالبًا إلا على حال العرب التي كانوا عليها فإن المعنى واحد).
- وقال الحافظ في ( فتح الباري): قوله (ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية)؛ أي : يكون له الحق عند شخص فيطلبه من غيره ممن لا يكون له فيه مشاركة كوالده أو ولده أو قريبه، وقيل: المراد من يريد بقاء سيرة الجاهلية أو إشاعتها أو تنفيذها).انتهى.
- ووعي هذا النص وأشباهه كافٍ في التأنيب والتثريب لهذا الكاتب وأمثاله، وأن الدعوة من أساسها باطلة، ومعممة، وتجاهلت التغيير الإسلامي، وإبطال الوضع الجاهلي في عمومه…!!
- ثم هو لم يفسِّر أيَّ الاعتبارات يقصد، وماذا يريد …؟! فهي معممة بلا تفصيل، ولم يحدد خيرات الفترة الجاهلية المعتبرة على فرض حسن النية!. لأنها ألوان شتى…! فمثلا:
- الاعتبار العقائدي: قبائل مشركة وثنية تتعاطى عبادة الأصنام، وتزعم الملائكة بنات الله، ( أفرأيتم اللَّات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكمُ الذكر وله الأنثى) [سورة النجم]. ويطوف بعضهم بالبيت عراةً، ويذبحون القرابين لأصنامهم المزعومة، ويصنعون بأيديهم أصنامًا فيعبدونها.!
- والاعتبار الاجتماعي: مزيج من أخلاق حسنة؛ كالكرم والمروءة والشجاعة والوفاء بالعهد، وأخلاق مشينة، سدّد الإسلامُ الحسنة منها وباركها، وحذَّر من المشينة المرذولة؛ من ظلم للنساء، واحتقار متوارث للمرأة.
- والاعتبار الاقتصادي: مرابون ومتأكلون بالباطل، ويبطش القوي اقتصاديًّا بالضعيف ماليًّا كما نُقل (أتقضي أم تُربي)، وجلاه القرآن بقوله (لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة) [سورة آل عمران]. علاوة على شيوع الميسر وغيره من المعاملات البغيضة.
- والاعتبار الحضاري: فهم مجموعات من القبائل المتأخرة، والمتناحرة، وتنشب الحروب بينهم لأتفه الأسباب (كحربي البسوس وداحس والغبراء) الضاربة في الصحراء والوجدان عقودًا زمنية، قال حُذيفة -رضي الله عنه- ( كنا في جاهلية وشر). كما قالوا:
وَيومًا عَلَى بَكْـرٍ أخِينَا ** إِذَا لَمْ نجِـدْ إِلاَّ أَخَـانَا
- والاعتبار الثقافي: أئمة في البيان واللغة واللسان، وحمدها الإسلام وبارك الحكمة والكلام الجميل، ولا تخلو ثقافاتهم من ثقافات الحروب والانتقام والعنصرية والخمور وتبرج النساء، وقد ضمنوها أشعارهم، واستشهدنا بذلك لغةً، ورفضنا معانيها التي أبطلها الإسلام…! ففي الصحيحين: (أصدق كلمة قالها شاعر، كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا اللّهَ باطلُ..! ومعناه: كل أمر وعمل خلا من ذكر الله وتعظيمه فهو باطل ومضمحل.. واستمع إلى ما يقول عمرو بن كلثوم التغلبي في معلقته الشهيرة:
ألا لا يجهلنْ أحد علينا ** فنجهل فوق جهل الجاهلينا
لتدرك عمق التفكير الجاهلي المتصابي في سلوكهم.
- الاعتبار السياسي: لا دستور سياسي يحكمهم ولا قيم، سوى قيم القبائل ونفوذ القوة والتسلط على الضعفاء، واحتقار الأعراق المستكينة، ثم هو في حكم التوابع للدول الكبرى كفارس والروم آنذاك..!
- الاعتبار الإنساني: فالكرامة للعرق الأبيض والقبائل النسيبة، ومن عداهم من الأجناس الأخرى والعجم فمحقّرون، والتطاول على النساء متصاعد للغاية حتى مارس بعضهم الوأد: (وإذا الموءُودة سُئلت بأي ذنب قتلت) [سورة التكوير].
- الاعتبار الحقوقي: فلا قانون حاكم، ولا أساس عدلي قائم، بل القوي يأكل الضعيف، والمال للأقوياء، والمرأة كالمتاع المستعمل، والظلم الاجتماعي بلغ أوجه…!
- الاعتبار العلائقي: فالإسلام دين منفتح على كل الحضارات والثقافات المفيدة، ويملك مفاهيم سليمة للعلاقات الدولية، واستفاد من الأمم والتجارب الإنسانية في العهد النبوي والراشدي، من نحو: الحِرف والصنائع، وعمليات البيع والشراء والتسليح وغيره.
- وقد لخص جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- حالة المجتمع قبل البعثة (كنَّا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منَّا الضعيف) كما في مسند أحمد.
- ومع ذلك كله بارك الإسلام خصال الخير فيهم (أسلمتَ على ما سلفَ من خير) في قوله لحكيم بن حزام -رضي الله عنه- حينما قال: يا رسول الله أرأيت أمورًا كنت أتحنث- أتعبد- بها في الجاهلية من صلة وعَتاقة وصدقة، هل لي فيها من أجر..؟!.كما في الصحيحين .
- فماذا يروم من التراث الجاهلي وقد بانت مساراته الثقافية، وأنه لا يصلح منه إلا الشيء اليسير؛ كاللغوي البياني، وبعض الموروث الأخلاقي الرفيع، وما أشاد به الإسلام، والسلام.
(المصدر: الاسلام اليوم)