مقالاتمقالات مختارة

الاتجاه الأخلاقي عند أهل الحديث

بقلم أ. د. أبو اليزيد أبو زيد العجمي

ارتبطَت مناهج الأخلاقيين باتجاهاتهم الفكرية من جهة، كما ارتبطت بتطور الفكر الأخلاقي لدى المسلمين من جهة أخرى، كل ذلك في ضوءِ الموقف من الفكر اليوناني أو الفارسي أو الهندي، قبولًا أو رفضًا، أو وسطًا بين هذين.

ولأنه ليس من خطتِنا أن نتناول كلَّ المناهج لسَعَتِها وضيق المقام عنها، فإننا نلتزِمُ مبدأ الاختبار بعد أن قرَّرنا في المبحث السابق وجود فكر أخلاقي لدى اتجاهات فكرية متعددة.

أهل الحديث (المحدِّثون):

لقد كان هذا الاتجاه أقدمَ الإسهامات في باب الفكر الأخلاقي لدى المسلمين، وقد تنوَّعتْ داخله أشكالُ هذا الإسهام، فمِن كُتب الأدعية والأذكار وما ينبغي قوله في الصباح والمساء، وما تتَّصل بذلك من آداب وفضائل[1]، إلى كتبٍ اهتمَّ أصحابُها بمكارم الأخلاق بعامَّة[2]، إلى كتبٍ تخصَّصتْ في جمع الحديث حول موضوع واحد، وإن تعدَّدتْ فروعه[3].

والمنهج الذي سلكه هؤلاء تبرز ملامحه فيما يلي:

أولًا: التركيز على النصوص حيث تذكر الآية أو الآيات يتبعها الحديث أو الأحاديث، وذلك مُسوَّغ علميًّا؛ لأن الناس كانوا قريبي عهدٍ بهذه النصوص ووثيقي الارتباط بها، وفي الوقت ذاته كان حذرُ العلماء مِن الرأي في المسائل الشرعية ما دام هناك نص موجود.

ثانيًا: لم يخلُ هذا العمل مِن فكر، فاختيار النصوص وترتيبها وتبويبها، يدلُّ على ذلك حتى بدَتْ هذه النصوص كتابًا يُذكِّر بالقِيَم الإسلامية؛ كما يقول محقق عمل اليوم والليلة للنسائي: (إنه في الواقع معجم المُثُل والقِيَم الإسلامي الشامل، الذي أحاط بالجزئيات الصغيرة ليربي مجتمعًا ويُنشِئ أمَّة قوية سليمة)[4].

ولا يقدح في ذلك ما قد يوجد لدى بعضٍ مِن تكرار في الأحاديث في الأبواب المتشابهة؛ لأن طبيعة الحديث الواحد قد يصلح تصنيفه في أكثر من باب؛ نظرًا لألفاظه ومعانيه.

ثالثًا: لجأ البعض إلى التعليق على النَّصِّ منه أو عن طريق إيراد لفظ مأثور، أو قول شهير، حتى ولو كان لأصحاب الديانات الأخرى؛ فالحسن البصري – في رسالته التي تعتبر أقدمَ ما وصلنا من عمل اليوم والليلة – يذكر ما يعتبره فريضة ويستدلُّ عليه بآية من كتاب الله سبحانه، ثم يردف ذلك بحديث أو أكثر، ثم يؤيد هذا بآيات توافرت لديه، أو بقول شهير، حتى ولو لم يكن لحكيم مسلم.

مثال ذلك: يقول الحسن البصري: “الفريضة السادسة: الإيمان بوعد الله تعالى وإتيان الرزق من الله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ [هود: 6]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن انقطع إلى الدنيا وَكَله الله إليها، ومَن انقطع إلى الله كفاه مُؤْنَته، ورزقه من حيث لا يحتسب))، وعن فرقد رضي الله عنه: (مكتوب في التوراة: يا بن آدم، أما تستحيي تيئس مِن رزقي وأنا أرزق الغراب الأبقع في وَكْرِه، والدود في البحر، واعلَمْ أن كل شيء من نبات الأرض وما يأكله مكتوب عندي لا يخفى عليَّ منه شيء)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن رزق العبد يطلبه كما يطلبه أجله))[5].

رابعًا: خلوُّ أعمال هؤلاء من المصطلحات غير الإسلامية، وذلك راجع إلى المرحلة المبكرة التي كُتِبت أو أمليت فيها بعضُ الأعمال؛ إذ كانت في نهايةِ القرن الأول الهجري وبعدها بقليل، كما أنه راجع إلى الخطة والهدف المعتبرين لدى هذا المحدث أو ذلك؛ إذ كان الهدف أن تعود سيادة الأخلاق الإسلامية من خلال النصوص الدالَّة على ذلك قرآنًا يفهمه الناس ويعملون به، وسنَّة يُحاكون فِعال صاحبِها صلى الله عليه وسلم.

لذا لا نلمح في أعمال كهذه اللغةَ الاصطلاحية، اللهمَّ إلَّا اللفظ القرآني؛ مثل الأخلاق، الفضائل، ونحو هذا.

كذلك خَلَت هذه الأعمال من التقسيمات التي عرَفها المسلمون بعد احتكاكهم بأفكار وثقافات أخرى؛ مثل تقسيم الفضائل والرذائل على نحو معين، وعدد محدد.

وخلوُّها من المصطلحات أو التقسيمات التي أشرنا إليها يؤكِّد إسلاميةَ هذا المنحى شكلًا ومضمونًا، كما يُؤكِّد أنه بداية بسيطة للفكر الأخلاقي لدى المسلمين؛ إذ وجود النصوص مجموعةً مرتبةً ومبوَّبة، وموضحة ببعض الآثار أحيانًا، طابعٌ عامٌّ للإنتاج العلمي في ذلك العصر.


[1] نذكر هنا، فرائض الإسلام للحسن البصري، وعمل اليوم والليلة للنسائي، وما جاء على بابهما.

[2] هنا نذكر، مكارم الأخلاق للطبراني، الأدب المفرد للبخاري، مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا.

[3] نذكر هنا، الزهد لابن المبارك، الزهد للإمام أحمد بن حنبل، الزهد للحافظ أبي بكر الشيباني، أخلاق العلماء للآجري، وغير هذا مما هو في بابه.

[4] عمل اليوم والليلة للنسائي، تحقيق فاروق حمادة، 101، طبعة دار الإفتاء بالسعودية، 1401 هـ.

[5] فرائض الإسلام، ورقة، 12.

(المصدر: شبكة الألوكة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى