مقالاتمقالات مختارة

فلسفة الإسلام ووسطيته في مشروعية الميراث

بقلم د. أكرم كساب

بين الفينة والأخرى يخرج علينا بعض الرويبضة لينفس عن حقده وبغضه فيتهم الإسلام بمحاباة الرجل، أو ظلم المرآة، ومن أكثر ما تلوكه ألسنة الحاقدين المارقين؛ ما يتعلق بنظام الإرث في الإسلام، والحق أن الميراث في الإسلام أحد التشريعات التي يجب الافتخار بها، لاتسامه- كغيرها من شرائع الإسلام- بالوسطية. وقد أشاد بهذا الأمر رجل ليس من الإسلام في شيء، وهو: (جوستاف لوبون) المستشرق الفرنسي المعروف صاحب كتاب (حضارة العرب) إذ يقول: ومبادئ المواريث التي نصّ عليها القرآن على جانب عظيم من العدل والإنصاف.. والشريعة الإسلامية منحت الزوجات حقوقا في المواريث لا نجد مثلها في قوانيننا[1].
ولإظهار فلسفة الإسلام ووسطيته في شأن الميراث سأتناول القضية باختصار على هذا النحو:
أولا: الميراث في الشرائع السابقة[22]: أما اليهود فجعلوا أسباب الإرث عندهم أربعة، وهي: البنوة، والأبوة، والأخوة، والعمومة، وليس للزوجة نصيب من التركة، لكنها إن توفيت ورثها زوجها. والميراث يكون للذكور دون الإناث. والبكر من الأبناء يرث مثل حظ اثنين من إخوانه، ولا ترث الأم من أبنائها لكنها إن ماتت قبلهم ورثوها.
وأما النصارى فليس لهم نظام إرث خاص، وقد عمد رجال الكنيسة إلى استنباط بعض أحكام الإرث من التوراة، وفي بعض الدول العربية يطبق النصارى نظام الإرث الإسلامي.
ثانيا: الميراث في الجاهلية: كان العرب قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يورثون، ولكنهم يورثون وفق أهوائهم، إنهم ((يورثون الرجال دون النساء، والكبار دون الصغار، وكان هناك توارث بالحلف))[3]. وكان يعللون ذلك بقولهم: لا نعطي من لا يركب فرسا، ولا يحمل كلا، ولا ينكي عدوا[4]. إنهم يرون الأحق بالميراث من يحمل السلاح ويحمي البيضة، ويدافع عن الحوزة، قال القرطبي: كانت الوراثة في الجاهلية بالرجولة والقوة، وكانوا يورثون الرجال دون النساء[5].
وكان العرب في الجاهلية يرجعون الإرث إلى ثلاثة أسباب هي: النسب؛ سواء أكان من زواج صحيح أو زنى، والتبني حتى لمن كان معروفا نسبه، والحلف والمعاقدة[6].
ثالثا: الميراث في الإسلام: ولما جاء الإسلام؛ جاء بتشريعاته الربانية، التي لا تحابي قويا، ولا تظلم ضعيفا، ولا تحرما مستحقا، ولا تعطي من لا يستحق. ولهذا ساوت الذكور من الأبناء، وأعطت الصغير كما أعطت الكبير، وأعطت الإناث والضعفاء، وراعت درجات القُرب من الميت، فليس كل الأقارب سواء، ويمتاز نظام الإرث في الإسلام بالتالي:
11- الميراث فصل في القرآن تفصيلا: على غير عادة القرآن في ترك التفصيل للسنة، جاء الميراث -ومثله بعض القضايا- بالتفصيل الدقيق، ولعل سورة النساء حوت معظم ما يتعلق بشأن الميراث، اللهم إلا النذر القليل. ويبدو أن الله أراد لهذه القضية -التي يتحقق فيها الثبوت وعدم التغير- أن يكون فيها القول الفصل بما لا يترك مجالا للاختلاف فيها، وتلك عظمة التشريع.
22- قاعدة الإسلام الكبرى في الميراث: الغرم بالغنم: على هذه القاعدة قام قانون الميراث في الشريعة الوسط، وعلى هذا شرع الإسلام أن يرث الزوج الزوجة، وفق قاعدة {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}(النساء:11)، فكما أن الزوج مطالب بالإنفاق دون الزوجة فقد جاز له هنا التفضيل، وتلك من وسطية الإسلام في الميراث.
ولهذا شرع للوالدين نصيبا في الميراث، تتساوى الأم مع الأب فيه أحيانا، ويفوقها أحيانا، وتفوقه أحيانا أخرى، كل حسب ما يراه الشرع مصلحة لجميع الأطراف.
ومن وسطية الإسلام في الميراث أيضا: وفق هذه القاعدة: أن فرض للعصبة أو القرابة جزءً في التركة، إن لم يوجد فرع ولا أصل وارث، فليس من العدل أن يغرمهم الإسلام في دفع الدية، ولا يغنموا من الميراث شيئا إن لم يحجبهم حاجب!
33- هل الذكر مفضل على الأنثى مطلقا في الميراث؟ وهنا أمر يلوكه البعض بألسنتهم، بعد أن قذف به الشيطان في قلوبهم، فيقولون: لقد فضّل الإسلام الرجل على المرأة مطلقا، مرددين قول الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}(النساء:11).
ويبدو أن أمثال هؤلاء توهموا أن الإسلام فضّل الذكر على الأنثى مطلقا، وما درى هؤلاء المتعجلون المشككون أن توزيع التركة يختلف باختلاف وجود نوعية الذكر وكذلك نوعية الأنثى، ودرجة كل واحد منهما من الميت قربا وبعدا، إضافة إلى ما يتطلب من الوارث في حال الحياة، ومن ثَمّ فإن الميراث يأخذ صورا متعددة، وحالات مختلفة، في بعضها تأخذ فيها الأنثى نصف الذكر، وفي بعضها تأخذ الأنثى مثل الذكر، كما هو الأمر في شأن الوالدين{وَلأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} (النساء: 11). وكما هو الحال في ميراث الإخوة لأم{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (النساء: 12).
وهناك حالات أخرى تتميز فيها الأنثى أكثر من الذكر، بل هناك حالات ترث فيها الأنثى ولا يرث الذكر شيئا، وقد قام مشكورا قام صلاح سلطان بدراسة رائعة حول ميراث المرأة، وقدّم فيها أمثلة كثيرة، وضع فيها المرأة مكان من يحاذيها من الرجال في قوة القرابة ودرجتها، يقول: فإذا بالاستقراء يظهر ما يلي: هناك أربع حالات فقط ترث فيها المرأة نصف الرجل. هناك حالات أضعاف ما سبق ترث فيها المرأة مثل الرجل تماما. هناك حالات عشر أو تزيد ترث فيها المرأة أكثر من الرجل. هناك حالت ترث فيها المرأة ولا يرث نظيرها من الرجال [8].
44- لماذا فضّل الذكر على الأنثى في بعض الحالات؟ أما لماذا فضل الإسلام الذكر على الأنثى في المواضع التي ثبت فيها التفضيل؛ فتلك من فلسفة الميراث في الإسلام ووسطيته، التي تقوم – كما أسلفت – على قاعدة: الغُرْم بالغُنْم، والتي يرث بها الإنسان بقدر ما يحمل من التكاليف، وما يقوم به من الواجبات.
تلك هي عدالة السماء المطلقة، التي توازن دائما بين الحقوق والواجبات، وقد أشار إلى هذا مصطفى السباعي في كتابه: (المرأة بين الفقه والقانون) فقال: ((إن الإسلام راعى العدالة في توزيع الأعباء والواجبات، ففي نظام الإسلام يلزم الرجل بأعباء وواجبات مالية لا تلزم بمثلها المرأة، فهو الذي يدفع المهر، وينفق على أثاث بيت الزوجية، وعلى الزوجة والأولاد. أما المرأة فهي تأخذ المهر ولا تسهم بشيء من نفقات البيت على نفسها وعلى أولادها ولو كانت غنية..[9])).

5- المرأة كانت سببا في فرض الميراث: ومن روائع تشريع الميراث أن أول ما نزل من التشريع فيه كان إنصافا للمرأة، يقول جابر: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنتيها من سعد، فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في أحد شهيدا، وأن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا، ولا ينكحان إلا ولهما مال. قال: فقال:” يقضي الله في ذلك” قال: فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما، فقال:” أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك[10]”.
6- التدرج في تشريع الميراث[111]: ولأن عادة العرب في الميراث لم تكن على هدى ولا نور، فقد جاء الإسلام ليقوّم الظلم البين في توزيع التركة تدريجا، فأبقى الناس على ما هم عليه حتى الهجرة، ثم أبطل الإسلام الإرث بالتبني، وأقر الإرث بالحلف والمعاقدة، والمؤاخاة والهجرة، من غير أن يحدد الشرع المقادير والأنصبة، ومن غير تفريق بين الذكر والأنثى، ولا الصغير والكبير، ولكن بما يراه الشخص مناسبا، ومحققا لرغبته، وهذا هو المقصود من قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْن وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}(البقرة:181)، ثم أبطل الشرع بعد ذلك الإرث بالمؤاخاة والهجرة، وأنزل الله تفصيلات الأنصبة في سورة النساء كما هو معلوم.
7- أسباب الإرث في الإسلام: وأما أسباب الإرث في الإسلام فهي ثلاثة: القرابة، والزوجية، والولاء. وتتجلى وسطية الإسلام في حصر أسباب الإرث في هذه الثلاثة، ((لأن الوراثة عبارة عن خلافة للميت، كما هو مقرر شرعا، والخلافة لا تكون إلا لمن يحتفظ في ذكره ومجده ونسبه، ويكون ذكره الباقي في الفروع، أو لمن كان يؤثره بالمودة ويعطف عليه، ويود له الخير ويرجوه، ويؤثر به على نفسه كالأصول. أو من كان يشاركه سرائه وضرائه، ويناصره على متاعب الدنيا ونعيمها، كأهل قرابته أو زوجته أو ذوي رحمه. أو لمن أجرى الله على يديه نعمة الحرية له، فأحياه أدبيا.. [12])). والسبب الثالث لسنا في حاجة إليه لانعدام الرق والعبودية.
88- الميراث نظام تعبدي إجباري: وهذا يعني أن هذا النظام لا يجوز للإنسان تجاوزه أو تعديه، لأنه أمر مشروع، فالالتزام به طاعة وقربة، وتجاوزه يعد ذنبا عظيما، وتجوزا لحدود الله، ولهذا قرر الفقهاء بأن من طلق امرأة في مرض موته فرارا من الميراث ورثت المرأة على عكس نية الرجل، ((فقد ذهب الفقهاء إلى صحّة طلاق الزّوج زوجته إذا كان مريضاً مرض موت، كصحّته من الزّوج غير المريض ما دام كامل الأهليّة. كما ذهبوا إلى إرثها منه إذا مات وهي في عدّتها من طلاق رجعيّ، سواء أكان بطلبها أم لا، وأنّها تستأنف لذلك عدّة الوفاة[13])).
ولهذا قال تعالى بعد أن ذكر الأنصبة وأصحابها في آيات المواريث:{تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَه يدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ َالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ َمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(النساء: 13، 14)، يقول ابن كثير معللا هذا العذاب الأليم: ((كونه غيَّر ما حكم الله به وضاد الله في حكمه. وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم[14])).
ويتساءل صاحب الظلال عن ترتيب هذه النتائج الضخمة على طاعة أو معصية في تشريع جزئي كتشريع الميراث; وفي جزئية من هذا التشريع وحد من حدوده؟ ثم يجيب قائلا: ((إن الآثار تبدو أضخم من الفعل… لمن لا يعرف حقيقة هذا الأمر وأصله العميق… إن الأمر في دين الله كله هو: لمن الألوهية في هذه الأرض؟ ولمن الربوبية على هؤلاء الناس؟ وعلى الإجابة عن هذا السؤال في صيغتيه هاتين يترتب كل شيء في أمر هذا الدين. وكل شيء في أمر الناس أجمعين! لمن الألوهية؟ ولمن الربوبية؟ لله وحده -بلا شريك من خلقه- فهو الإيمان إذن وهو الإسلام وهو الدين. لشركاء من خلقه معه، أو لشركاء من خلقه دونه! فهو الشرك إذن أو الكفر المبين..[15])).
99- العمل على تفتيت الثورة وعدم بقائها في يد واحدة: ومن أهم ميزات هذا النظام أنه قائم على تفتيت هذه الثروة وعدم الاحتفاظ بها محصورة في يد مجموعة أو طائفة معينة، وهذا لا ((يدع مجالا لتضخم الثروة وتكدسها في أيد قليلة ثابتة –كما يقع في الأنظمة التي تجعل الميراث لأكبر ولد ذكر- أو تحصره في طبقات قليلة- وهو في هذه الناحية أداة متجددة الفاعلية في إعادة التنظيم الاقتصادي في الجماعة، ورده إلى الاعتدال، دون تدخل مباشر من السلطات. هذا التدخل الذي لا تستريح إليه النفس البشرية بطبيعة ما ركب فيها من الحرص والشح، فأما هذا التفتيت المستمر والتوزيع المتجدد، فيتم والنفس به راضية، لأنه يماشي فطرته وحرصها وشحها! وهذا هو الفارق الأصيل بين تشريع الله لهذه النفس وتشريع الناس[16])).
وأخيرا: فإنه _ كما قال صاحب الظلال _:النظام المتناسق مع الفطرة ابتداء، ومع واقعيات الحياة العائلية والإنسانية في كل حال، يبدو هذا واضحا حين نوازنه مع أي نظام آخر، عرفته البشرية في جاهليتها القديمة، أو جاهليتها الحديثة، في أية بقعة من بقع الأرض. نه نظام يراعي معنى التكافل العائلي، كاملا، ويوزع الأنصبة على قدر واجب كل فرد في الأسرة في هذا التكافل، فعصبة الميت هم أولى من يرثه – بعد أصحاب الفروض كالوالد والوالدة- لأنهم هم كذلك أقرب من يتكفل به، ومن يؤدي عنه في الديانات والمغارم، فهو نظام متناسق، ومتكامل…..[17].

المراجع:
______________
[1] حضارة العرب/ جوستاف لوبون/ ترجمة عادل زعيتر/ ص416.
[2] الميراث في الشريعة الإسلامية/ ياسين أحمد إبراهيم درادكة/ ص 36، 37/ ط مؤسسة الرسالة/ط أولى 1980م.
[3] فقه السنة/ سيد سابق/ ج3/ ص 424.
[4] التحرير والتنوير/ ابن عاشور/ ج1/ ص 899.
[5] الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي/ ج 5 / ص 79.
[6] الميراث في الشريعة الإسلامية/ ياسين أحمد إبراهيم درادكة/ ص 37، 38.
[7] جامع البيان عن تأويل آي القرآن/ الطبري/ ج3/ 616.
[8] امتياز المرأة على الرجل في الميراث والنفقة/ صلاح سلطان/ ط دار سلطان/ ص10، 11/ ط أولى 2008م.
[9] المرأة بين الفقه والقانون/ مصطفى السباعي/ص34.
[10] رواه أحمد في المسند (14797) عن جابر، وقال محققو المسند: إسناده محتمل للتحسين من أجل ابن عقيل.
[11] انظر: الميراث في الشريعة الإسلامية/ ياسين أحمد إبراهيم درادكة/ ص 49-51.
[12] المرجع السابق/ ص 111، 112.
[13] الموسوعة الفقهية الكويتية/ ج29/ ص 48.
[14] تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير/ ج 2 / ص 232.
[15] في ظلال القرآن/ سيد قطب/ ج2/ ص595،596 باختصار.
[16] في ظلال القرآن/سيد قطب/ ج1/ ص596،597.
[17] في ظلال القرآن/ سيد قطب/ ج1/ ص596، 597.

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى