تجديد الخطاب الديني وحدود تعامل العقل مع الشريعة
بقلم أحمد التلاوي
باتت مسألة تشريح الخطاب والفكر الإسلاميَّيْن، من بين أكثر الأمور المطروقة على المنصات المعرفية المختلفة، بما في ذلك منصات أكاديمية رصينة، لا تتناول الأمور من ظاهر القول، وإنما تتعمق في مناقشتها بموجب قواعد البحث العلمي المرعيَّة.
وتستوي في هذا الاهتمام، المنصات العربية والغربية على حدٍ سواء، ويأخذ أكثر من جانب، مثل: مناقشة جوهر المرتكزات والمقولات الأساسية التي يستند إليها الفكر والخطاب الإسلاميَّيْن، وكذلك أحكام الشريعة، وكيفية التعامل معها.
ثم نجد طرفاً آخر للنقاش، وهو الطرف الذي يحاول أن يقلل من قيمة الفكر الإسلامي، و”يثبت” عدم صلاحيته لزمن النهضة العلمية وعصر العقل، فتجده يطرح بعض البدائل الغربية؛ لتحل محل المنطلق الإسلامي في تناول الحياة وشكلها وتصورها.
ومن أهم المذاهب والأسماء التي نجدها متداولة في هذا الإطار: فريدريك نيتشه (الذي يُعد أباً للفكر النازي) وفلاسفة المذاهب النفعية والواقعية الحديثة بشكل عام، مثل: زيجمونت باومان، وبيار بورديو، بخلاف الماضي، حين كان البديل الذي يتوجّه إليه، هو البديل المثالي القديم من المدارس اليونانية، مثل فلسفات أفلاطون وسقراط، أو –كما في العصر الحديث– ثقافات الشرق القديمة، وفلسفات “اليوجا”، وغيرها.
وللأسف أخذت هذه “الموضة” – أو الصَّرْعَة – حيِّزَها لدى جيل كامل من شباب الحركة الإسلامية، والشباب المتديِّن بشكل عام، في ظل حزمة من المشكلات التي يجب أن نعترف بها، في الخطاب والفكر الإسلاميَّيْن، تفرض البحث عن معالجات لها.
ومن بين هذه المشكلات، التوقف عند التراث كمصدر إلهام، مع وقوف التراث في مفاهيمه عند مراحل متقادمة من الحضارة الإنسانية، فعلى أبسط تقدير – وهو مثال مُهم – فإن مفهوم العلم في كتب التراث والفكر الإسلامي القديمة، مختلف تماماً عن مفهوم العلم في عصرنا الحديث .
ومع التعنت العجيب – وغير المفهوم في هذه المنطقة – من جانب بعض “حُرَّاس العقيدة”، والذين آذوها بحماستهم أو بجهالتهم -أيّاً كان- فإن المسلم اضطر للبحث عن البديل الذي يروي ظمأه، ويتفق مع ما يراه واقعاً من حوله من مفردات.
وينطبق الشيء ذاته على مفاهيم مهمة وحاكمة في عصرنا الحالي، مثل المدينية وما تحمله من مفردات تفرض موازنات -دقيقة للغاية- بين ما تفرضه علينا أحكام شريعتنا، وبين ما تفرضه علينا قواعد العمران -لا سيما قاعدة التطور- وهي قواعد وسُنَن من لدن اللهِ تعالى، وهو خالقها وواضعها فينا، تماماً كما وضع أحكام الشريعة لنا منهاجاً.
وباعث تناول هذا الموضوع هو الكثير من الشطط الذي نراه في بعض المدارس الحديثة في مسألة كيفية التعامل مع أحكام الشريعة، ومسألة قيمة العقل الإنساني.
وبدايةً فإنه لا خلاف على مركزية وقيمة العقل، فهو –على أبسط تقدير– أحد مناطي التكليف مع البلوغ، وبالتالي فإنه ليس من نافل القول، والإيمان يتعمَّق –كما ورد في القرآن الكريم- بإعمال العقل فيما خلق اللهُ تعالى من حولنا، وفي أدلة وجود اللهِ تعالى ذاته سبحانه.
لا خلاف على مركزية وقيمة العقل، فهو –على أبسط تقدير– أحد مناطي التكليف مع البلوغ، وبالتالي فإنه ليس من نافل القول، والإيمان يتعمَّق –كما ورد في القرآن الكريم- بإعمال العقل فيما خلق اللهُ تعالى من حولنا، وفي أدلة وجود اللهِ تعالى ذاته سبحانه
ولكن هناك حديث أخذ يتزايد في الآونة الأخيرة؛ لتمرير منهج يُعلي من العقل على الشريعة، وهو منهج قريب من منهج المعتزلة في التعامل مع الشريعة وأحكامها، وإعلائهم العقل عليها، ويبرر نفسه بشعارات برَّاقة، أو أهداف لها ضرورة فعلاً، مثل تجديد الخطاب الديني.
فنحن بحاجة فعلاً إلى تجديد الخطاب الديني، ولكنه التجديد الموضوعي الذي يستجيب لمتطلبات العصر، ويجيب عن الأسئلة والإشكالات المُستَجدَّة، ويعمل على تحديث المفاهيم والأفكار، لا أن يكون أداة هدم للفكر الإسلامي وبعض مدارسه؛ استجابة لضغوط غربية، أو لصراعات سياسية!
نحن بحاجة فعلاً إلى تجديد الخطاب الديني، ولكنه التجديد الموضوعي الذي يستجيب لمتطلبات العصر، ويجيب عن الأسئلة والإشكالات المُستَجدَّة، ويعمل على تحديث المفاهيم والأفكار، لا أن يكون أداة هدم للفكر الإسلامي وبعض مدارسه؛ استجابة لضغوط غربية، أو لصراعات سياسية
وهنا لا بد من أنْ نشير إلى أن هناك فارقاً كبيراً للغاية بين أمرَيْن: بين ما يقول به المعتزلة وفرق إسلامية أخرى في هذه النقطة؛ لأن هذا مرفوض تماماً، فالعقل البشري قاصر، والشريعة وأحكامها من لدن حكيم عليم، وحكمته بالغة.
الأمر الآخر – وهو مقبول؛ لأنه يتعلق بكيفية إسقاط الحكم الشرعي على الواقع – لجهتَيْن: الأولى/ هل يطابق ذلك الموقف أو الحالة ما يجب تطبيق الحكم الشرعي عليه أم لا؟ والثانية/ كيف سيطبق الحكم الشرعي على هذه الحالة؟ فهناك أمورٌ كثيرة في الشريعة، وضوابط أخرى اجتهد فيها الرعيل الأول من المسلمين -أهمهم عمر بن الخطاب رضي اللهُ عنه- في هذا الصدد، وهو ما نعرفه باسم “الفقه”.
ومن بين أهم هذه الضوابط: العلم بالحكم من عدمه، ووجود الإرادة من عدمها، والاضطرار، ومثله الظرفية والمصلحة والموازنة بين المنافع والمضار، ومستوى الضرر في حالة الموازنة بين حالات فيها كلها ضرر… وغير ذلك.
هذا مقبول، وموجود، وفيه أكمل صور إعمال العقل وأكثرها رشادة؛ ففيه توظيف قدراته مع الاعتراف بقصوره وأنه في النهاية مجرد أداة فهم وتطبيق، وأنه تالٍ وليس سابقاً للشريعة، ولا أداة تقييم أو تقويم لها.
وعبر تاريخ الفكر والفقه الإسلاميَّيْن نجده في أرقى مدارسنا الفكرية والفقهية، كما عند الإمام الشافعي، والأئمة: العز بن عبد السلام الشوكاني، وابن العربي، والشاطبي، ولهم كتبٌ عظيمة وقيِّمة في هذا المجال.
وبالتالي فلا داعي للحديث عن ضرورة ما لذلك؛ لأنه موجود فعلاً لدينا، ولا حاجة للقول بأن الإسلام أو الشريعة بحاجة إليه -حاشا لله تعالى- فالإسلام هو دين اللهِ الكامل، وشريعته هي الشريعة الكاملة التامة التي ارتضاها منهاجاً للناس، واللهُ يعلم مَن خلق، وهو اللطيف الخبير -كما جاء في القرآن الكريم- واللهُ يعلم وأنتم لا تعلمون.
ولكن هنا ينبغي لنا الواقعية، والاعتراف بأن لدينا -نحن كمسلمين مؤمنين بالمشروع الإسلامي ونسعى فيه- مشكلة تدفع بعض الليبراليين والعلمانيين، وبعض المتدينين إلى إثارة هذه القضية، وهي مشكلات التطبيق والانحرافات التي وقعت بسبب عوامل كثيرة للغاية، مثل استبداد الحكم في تاريخ الدول الإسلامية المختلفة التي ظهرت، وتوظيف سلاطين وحُكَّام كُثر للشريعة بتأويلات باطلة؛ لأجل استمرار المُلك لهم ولذراريهم من بعدهم.
ينبغي لنا الواقعية، والاعتراف بأن لدينا -نحن كمسلمين مؤمنين بالمشروع الإسلامي ونسعى فيه- مشكلة تدفع بعض الليبراليين والعلمانيين، وبعض المتدينين إلى إثارة هذه القضية، وهي مشكلات التطبيق والانحرافات التي وقعت بسبب عوامل كثيرة للغاية، مثل استبداد الحكم في تاريخ الدول الإسلامية المختلفة التي ظهرت، وتوظيف سلاطين وحُكَّام كُثر للشريعة بتأويلات باطلة؛ لأجل استمرار المُلك لهم ولذراريهم من بعدهم
ومنها كذلك ظهور ما أطلق عليه في الفقه الإسلامي “مدارس البداوة” التي ارتكست بالمسلمين قروناً طويلةً للوراء، وغرست طابع البداوة بعدما نقضها الإسلام في تطبيقات الدين المختلفة.
إن هذه القضايا كلها، تطرح العديد من الواجبات على التربويين والعلماء -العاملين في حقول الدعوة والعمل الإسلامي المختلفة- أهمها السعي إلى تحديث طرائق تناول القضايا المُستَجَدّة، ومواجهة تحدي العلم، كما واجهه الأقدمون في مدرسة حداثية للأسف نعجز عنها الآن؛ فقد كان أغلب علماء المسلمين –مثل: ابن سينا والبيروني والإدريسي- قضاة شرعيين وفقهاء!
فينبغي أن نجد للجيل الجديد بديلاً إسلاميّاً لأفكار وأطروحات نيتشه وباومان وبورديو .
وبالفعل، هناك محاولات مهمة للغاية في هذا المجال -لكنها توقفت لأسباب غير معلومة- مثلما حاولت الدكتور هبة رؤوف عزت والدكتور جاسم سلطان، في سلسلة مهمة -كانت تصدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بعنوان “نحو عمران جديد”- تتضمن لغةً ومحتوىً وخطاباً لما هو مطلوب بالضبط الآن، بما في ذلك أحكاماً فقهية في أمورٍ واقعية قائمة، وليست مجرَّد تحديثٍ في المجال الفكري.
الأهم من ذلك هو فك الاشتباك والتشويش القائمَيْن لدى البعض بشأن العلاقة بين العقل والشريعة الإسلامية، وفق المنظور السابق؛ فالعقل هو أداة فهم وتطبيق، وليس أداة تقويم وتقييم تنبذ ما لا تراه صالحاً من الأحكام الشرعية -حاشا لله تعالى-، وتقدست حكمته، وتنزَّه عن النقص .
فنعمل على تحديد التراتبية بينهما، وحدود تعامل العقل مع النص الشرعي، وما هو مسموح وما هو غير مسموح في هذا الإطار.
المهم أن هناك جهداً ينبغي أن يتم بذله، وإلا فإننا سوف نترك جيلاً –حالياً ومقبلاً- نهبةً لتلك المدارس الدخيلة علينا، والتي تتناقض قواعدها وأسسها مع شريعتنا الحنيفة.
(المصدر: موقع بصائر)