مقالاتمقالات مختارة

الدنمارك وصلح الحديبية!

بقلم أمير سعيد

أسلم أبو بصير في توقيت عجيب! ابن أسيد بن جارية رضي الله تعالى عنه كان قد أسلم بعد أن وقع صلح الحديبية، والذي يلزم المسلمين بإعادة من يسلم من أهل مكة إذا جاء مهاجراً للمدينة، ولا يلزم المشركين بالعكس.

لأول وهلة تصور بعض المسلمين أن الصلح مجحف لهم، إذ يرد المسلمين المهاجرين الجدد لقريش بما يعرضهم غالباً للتعذيب والفتنة في الدين، لكن بدا من بعد ذلك أن التقدير الإلهي كان يقضي بتحقيق الفتح للمسلمين من خلال هذا الصلح، ولقد كان من مفارقات الصلح أن أبا بصير حين طالبت به قريش رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وجدت بطلبه عبر اثنين من رجالها، ووفى بالطبع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخذاه هذان الرجلين، قتل أبو بصير أحدهما في طريق العودة وفر منه الثاني مذعوراً، واتخذ أبو بصير من بعد مقاماً له بين مكة والمدينة يغير على قوافل المشركين، وانضم إليه كثير ممن أسلم بمكة حتى صاروا يشكلون خطراً على قوافل قريش، فدعاها هذا إلى الطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر هؤلاء المسلمون إلى المدينة ويكفوا أيديهم عن قريش!

في حالة مغايرة تماماً، لكنها لا تخلو من مشابهة طريفة، وفي خضم موجة من العداء الأوروبي السافر للإسلام، وحيرة متعاظمة اكتنفت القارة العجوز ذات الخبرة الواسعة في الصراع مع المسلمين عبر سلسلة بدأت مبكرة ولم تتوقف لحد الآن من الحروب الصليبية، حيرة نجمت عن رغبة ملحة في وقف “زحف الإسلام” في أوروبا، وفي الوقت نفسه عجز عن تحقيق ذلك في مناخ من إطلاق “الحريات الدينية”، أو هكذا تقول أدبيات الفلسفة القيمية الأوروبية، ما حدا بها إلى اجتراح مجموعة من الإجراءات التي تهدف إلى وقف انتشار الإسلام في أوروبا لكنها مع هذا تحاول ألا تخدش منظومة القيم هذه.

من ضمن هذه الإجراءات المضطربة، ما توجه إليه حزب المحافظين في الدنمارك بتأييد من الأحزاب السياسية في اليمين ويمين الوسط من التقدم بمقترح يقضي ألا يقل عمر “المتحول من دين إلى دين آخر عن 18 سنة”، معللين مقترح “مساواة التنقل بين المعتقدات” بأنه “في حين لا يمكن تعميد من هم دون الثامنة عشرة وانضمامهم إلى الكنيسة الشعبية بدون موافقة الوالدين، نجد أنه لا قيود على الشباب لاعتناق الإسلام والديانات الأخرى”.

وقفت الكنيسة خلف المقترح الغريب الذي يقوض أساس “حرية المعتقد” الذي يقره النظام العلماني في الدنمارك، حيث يتدخل بشكل سافر في خصوصية المسلمين الدينية التي لا تقر هذا الشرط الغريب لدخول أتباع أصحاب عقائد أخرى في الإسلام. ويبدو أن النظام العلماني الدنماركي سيخضع في الأخير لرغبات أسقف فيبورغ صاحب النفوذ الكنسي، والذي يقف خلف هذا المقترح، وفقاً لصحيفة كريستياندو ابلاديت المحلية.

علاوة على أن النظام العلماني ينقض نفسه شيئاً فشيئاً أثناء محاولته وقف انتشار الإسلام، وهو بهذا يتردد بين علمانية وكنسية، لا يقيم هذه ولا يرمم تلك، فإنه كذلك ينشئ حالة مشابهة في طرافتها مع حالة أبي بصير رضي الله عنه، إذ إن إجراءه التعسفي هذا لن ينال من المسلمين بقدر ما يزيد أتباع العقائد الأخرى، ومنها المسيحية، بؤساً في الدنمارك؛ فالمسلم لا يحتاج لطقوس ليشهر إسلامه؛ فيما يلزم الآخرون أنفسهم بطقوس ابتدعوها كالتعميد وغيره يحول دون اعتراف الكنيسة وغيرها بديانتهم بدونها، ما يجعل الحل المطروح مشكلة، بل مشاكل بحد ذاته، كتلك التي يتحدث عنها المستشار الكنسي وأستاذ اللاهوت في جامعة كوبنهاغن، موينز موينزن، إذ يقول: إن “مشاكل عدة تعيق تنفيذ المقترح، فالإسلام ليس فيه طقوس كالكنيسة، إذ يكفي أن ينطق الشخص، حتى غير الراشد، أمام إمام مسجد، أو بدونه، بالشهادة ليصبح مسلما. وليس هناك الكثير مما يجب فعله ليكونوا مسجلين كمسلمين كما يفعلون في الكنيسة الشعبية بعد طقوس التعميد”. ويزيد الرجل أن “تطبيق هذا القانون سيعني حرمان شبان مسلمين تحت الثامنة عشرة من تغيير دينهم إلى المسيحية، ولا يمكننا أيضا تجاهل تأثير اختيار الوالدين لدين أبنائهم على حرية اختيارهم للانتماءات الأخرى، فهل سيصبح الأهل هم من يقررون أيضا أي حزب سياسي ينتمي له هؤلاء الشباب؟”.

تساؤلات موينزن تعكس تلك الحيرة التي يقع فيها النظام التشريعي في الدنمارك، تماماً كهذه الحيرة التي وقع فيها سهيل بن عمرو، حين كان مفاوضاً باسم قريش في صلح الحديبية (قبل أن يسلم رضي الله عنه)؛ فقدم مفهومه للصلح ظناً منه أنه بهذا يطفئ نور الله، والله متم نوره؛ فانقلب سحره بيانه عليه، كما سينقلب سحر اليمين الدنماركي وحلفائه عليهم، فاليمين الدنماركي المعادي للإسلام، الذي استثاره انتشار الإسلام، بما قدره بأقل تقدير محلي بنحو 5 آلاف مسلم في عشر سنوات، وقع في أكثر من منزلق، وهو يعمل على إيقاف المد الإسلامي:

–    ناقض علمانيته بالتدخل السافر في خصوصيات دينية دقيقة.

–    ناقض مبدأ حرية العقيدة الذي يطلقها النظام الليبرالي بتقييدها عمرياً.

–    لم يساوِ بين سن اعتناق الأفكار السياسية والدينية فأطلق الأولى وقيد الثانية دون منطق مفهوم علمانياً.

–    عملياً، مع تعنته هذا، والذي اندفع إليه موتوراً من انتشار الإسلام على نحو لافت؛ فإنه يحرث في البحر لأن الإسلام ليس بحاجة لطقوس وتعقيدات للدخول فيه، يكفيه التلفظ بالشهادتين، ويقر معه الإيمان في القلب الذي لا سلطان للقوانين اليمينية المتطرفة عليه.

إنها حالة العجز التي يقفها الغرب بكل جبروته، برغم الضعف الشديد الذي يعتري المسلمين، أمام انتشار الإسلام وامتداده، ذاك أن هذا الدين قائم ظافر إلى قيام الساعة، مهما فعل لإطفاء نوره يمين أو يسار، والله متم نوره ولو كره الكافرون.

(المصدر: موقع المسلم)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى