مقالاتمقالات مختارة

العالم والسلطان (6)

بقلم عمرو بسيوني

(1)
لا نستطيع أن نقدم رؤية حول علاقة العالم بالسلطان، تكون دقيقة وواقعية، وتتميز بالتاريخية وإدراك أثر الزمن وتطورات السياسة والدولة والخطاب الديني معًا = دون التفطن لتاريخ تلك العلاقة في تجربتنا الإسلامية التاريخية.

ثمة تدرج تاريخي للعلاقة بين السلطة والعلماء في التاريخ الإسلامي، ولن نستعرض تأريخًا مفصلًا لتلك العلاقة، ولكن خطوطًا عريضة.

وكما ألمحنا في مقال سابق؛ فإن فترة الخلافة الراشدة مستثناة من ذلك التتبع، لأن عنوان السلطة الظالمة غير صادق عليها؛ فهي سلطة عادلة راشدة، القرب منها ومناصحتها والتفاعل معها مستحب بلا خلاف، ثم إن هؤلاء الخلفاء أنفسهم كانوا علماء مجتهدين.

ولكن بدءًا من دولة بني أمية الذين كانوا في مرتبة واضحة من الظلم، بعد فترة معاوية المستقرة، باستثناء فترات يسيرة، ومنذ آخرها تحديدًا، وصولًا إلى دولة العباسيين الذين قامت ضدهم حركات انفصالية كثيرة؛ كان الانعزال عن السلطة هو الاختيار الذي غلب على موقف أهل الحديث والدوائر المحيطة بها – كما أشرنا في مقال سابق -.

(2)
ذلك الموقف قد رافقه على الجناح الآخر من العالم الإسلامي، في الغرب؛ حركات نضالية يقودها العلماء ويشاركون فيها، على حد ما نجد في ثورة الفقهاء التي شارك فيها يحيى بن يحيى الليثي المحدث الفقيه تلميذ مالك، وطالوت بن عبد الجبار، وغيرهما من قدماء المالكية. واتسع ذلك أكثر مع اتضاع حكم ملوك الطوائف وتحالفهم مع المسيحيين ضد بعضهم، وكذلك وجدنا ثورة قرطبة في القرن السادس، التي شارك فيها جملة من الفقهاء، وحتى حركة المرابطين؛ كانت في أصلها حركة دينية، وكذلك الدولة التي تلتها، دولة الموحدين، لم تكن أكثر من ثورة أشعرية من أتباع ابن تومرت على المرابطين السلفيين، خرجت في صورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومع ذلك فقد رافق أفولها وانهيارها ثورات سلطنة بني مرين بالمغرب، والحفصيين بتونس، وكلتاهما ذات طابع ديني واضح.

الإسلام المغاربي بصورة عامة، وبسبب الظروف التي نشأت فيها سلطته السياسية – النشأة الانقسامية الثورية – لم يكن من الممكن حدوث فصام تام بينه وبين السلطة السياسية، سواء أكانت سجالًا أم تأييدًا. منذ الحكم الأموي بالأندلس المقاوم لسلطة العباسيين الوليدة في الشرق، ومن أول حكم الأدارسة الثوري الشيعي بالمغرب على أبناء العمومة من العباسيين، إلى الدول السنية المرابطية والموحدية، إلى دولة الشيعية الباطنية في صورة الفاطميين، إلى ما تلا ذلك. بعض الباحثين يرجع ذلك إلى خلفيات المنطقة الجيواسترتيجية والسكان البربر العصية على الانقياد.

(3)
الانعزال العلمائي المشرقي، القصدي والواعي؛ عن السلطة؛ تهاوى هو الآخر بفعل الزمن وتغير الظروف، واندماج العلماء في مؤسسات الدولة. الحنابلة بعد أحمد والطبقة التي تليه؛ تقاربوا مع السلطة لفترة ما، أعقبهم الأشاعرة، فالحنابلة مرة أخرى، فالسيطرة المطلقة للأشعرية والأنظمة الصوفية لاحقًا من القرن السادس فما بعد.

أصبح الدين شرقًا وغربًا جزءًا من السلطة السياسية، مع ترسخ الهيئات القضائية، والفتووية، والمدارس، والأوقاف، والرباطات، ونحوها من مؤسسات ذات دور اجتماعي وليس دينيًّا فحسب. وترسخ ذلك بخاصة مع القرن السابع، وبخاصة مع دولة المماليك في الشرق، التي شهدت لأول مرة مأسسة للدين، في صورة الأنظمة الرباعية في الفقه، وتقليدها مهمة القضاء والفتوى بصورة جماعية لأول مرة، وهو الأمر الذي ترسخ أكثر في عهد الدولة العثمانية مع بروز منصب شيخ الإسلام العام، وبروز المعنى السياسي فيه أكثر من العلمائي.

(4)
ورغم كل ذلك، ومع جميع ما نرصده من تغير في ماهية العلاقة بين العلماء والسلطة؛ فقد ظلت العلاقة بين العلماء والسلطان جدلية. العلماء اعترفوا بلسان الحال أن الانعزال التام كان أمرًا يتيحه الماضي بظروفه، ولم يعد باستطاعتهم التزامه. البرجماتية الشرعية انتصرت في نهاية الأمر، فإن المصلحة لابد من إنفاذها.

ولكن ظل هناك فرقان أساسيان بين تلك العلاقة؛ وبين ما سنراه لاحقًا في القرن العاشر فصاعدًا وحتى الانحراف الكامل للعلاقة بين العالم والسلطان في العصر الحديث:

الأول: أن الواقع ظل إسلاميًّا في عنوانه العام. يخبت الإسلام ويبزغ فيه أحيانًا، ولكن لم يعلن تخليه عن الإسلام بصورة مطلقة قط. فلم يتعاط عالمٌ من علماء الإسلام الكبار مع سلطة تحارب الإسلام علنًا، وترفضه رفضًا مبدئيًّا. نعم تعاطوا في تلك الحقبة الممتدة قرونًا مع السلطة الظالمة، لكن بمنطق المصلحة الشرعية، وتعذر الانسحاب عن منافذ النفع، وما يمكن تحقيقه من المصالح الشرعية لعموم المسلمين.

الثاني: أن تلك العلاقة ظلت جدلية وسجالية. بمعنى أن العلماء – والكلام عن العلماء الذين لهم قدم صدق في الأمة -، وإن لم يختاروا الانعزال التام عن التعاطي مع السلطة؛ إلا أنهم أخذوا منها وأعطوا، لم يعطوا فقط، والأهم أنهم لم يعطوا بدون حساب، ولا بدون نظرة شرعية، لم يتمحضوا في النظر الدنيوي للسلطة، على غرار علماء السلطان المبطلين. وسنرجع على ذلك في مقال آخر.

(5)
فكما عيب على ابن العربي قربه من السلطة المرابطية – وكانوا سلفيين وهو أشعري متعصب -، فقد حفظ التاريخ لنا مراسلاته لشيخه الغزالي يطلب منه إسباغ الشرعية على بوادر حركة الموحدين الثورية. الغزالي الذي كان شيخًا – بصورة أو بأخرى – لابن تومرت مهدي الأشعرية الثائر على المرابطين السلفيين (المجسمة) فيما بعد! هو الغزالي الذي كان شيخه – الجويني – محبًا صادقًا للسلطة السلجوقية، يهدي إليها كثيرًا من كتبه، ويؤلفها على أسمائهم، ويشفعها بالدعاء العريض لهم، حتى خصص قطعة وافرة من كتابه العظيم في السياسة الشرعية – الغياثي – في الاستدلال لسقوط فريضة الحج عن السلطان نظام الملك – ناصر الأشاعرة على الحنابلة -، الذي يخشى التحرك من بغداد إلى مكة للحج فينقض غيره على السلطة! هو نفسه التاريخ الذي حفظ لنا استشهاد القاضي عياض اليحصبي – الأشعري – لرفضه الاعتراف بمهدوية ابن تومرت الأشعري، رغم مهادنته للسلطة واعترافه بها أول الأمر لحفظ الأمن. هو نفس التاريخ الذي حفظ لنا مواقف سلطان العلماء العز بن عبد السلام الصارمة من المماليك، رغم دعوته لهم وتأييده لهم في مكافحة الصليبيين. وهو التاريخ نفسه الذي حفظ لنا قتال ابن قدامة الحنبلي مع المماليك الأشاعرة، حفظ لنا كتاباته في تكفير الأشاعرة وقسوته عليهم. وهو التاريخ الذي حفظ لنا علاقة ابن تيمية بالسلطة، وسعيه بين مصر والشام لحث المماليك على مواجهة المغول، ودخوله عليهم للكلام والنصيحة، وحفظ لنا أيضا تهديده لهم بتثوير الناس عليهم إذا لم يقوموا بواجبهم الشرعي في الجهاد ضد الغزاة.

(6)
ظل العلماء محافظين على نوع من التوازن، يصيب ويخطئ، ويعتدل ويختل؛ بين السلطة الزمنية، والوحي المقدس، يسهمون في حفظ النظام بالقدر الذي يسهمون معه في حفظ الإسلام، ولو قدر تصورهم. لم تتمحض خدمة السلطة في نظرهم قط، لا بدافع الهوى، ولا بدافع التأويل الكاذب وخداع النفس. وليس ذلك من باب إحسان الظن فحسب، ولكن بدلالة القرائن التاريخية التي تدل أنهم عندما تعارض المقدس مع السلطة تعارضًا لا إمكان فيه للعلاج: أنهم انحازوا للوحي وحده.

وهذا لا يعني أن التاريخ العلمائي هو شيء ناصع البياض. فالعلماء بشر يصيبون ويخطئون. ولكن محل حجاجنا هو في العلماء المعتبرين الكبار الذين لهم قدم صدق في الأمة، والذين لهم أخطاؤهم أيضا، لكنها ظلت في الإطار الذي ذكرته في النقطتين السابقتين. فمنذ العصر الأول، لا نجد مثالًا أشهر من مثال الزهري، المحدث الأخباري الفقيه الكبير، الذي عاب عليه كثير من معاصريه التصاقه الشديد بالسلطة الأموية، ومع ذلك فهو نفسه العالم الثقة في نفسه الذي كان يروي فضائل علي بن أبي طالب وأهل البيت، في ظل دولة تمور بالنصب وبغض علي. هناك قدر ما من الثقة والأمانة كان وظل موجودًا في هؤلاء العلماء على اختلاف مواقفهم.

أما علماء السلطان، فظلوا موجودين، منذ علماء بني أمية الذين قالوا لهم إن الحاكم يحاسب على الحسنات ولا يحاسب على السيئات، حتى ابن عربي الحاتمي الاتحادي المتهم بالإباحية، الذي يشكو بحرقة، في فتوحاته المكية – في المجلد السابع – من علماء السلطان في عصره، الذي قالوا للسلطان إن صيام رمضان ليس بواجب عليه، وأنه يجزيه صيام أي ثلاثين يومًا في العام!

(7)
كما ذكرت فقد اختلف الحال بعد القرن السابع بصورة كلية، بدءًا من المماليك، وصولًا إلى العثمانيين. مع العثمانيين تحديدًا جرى تأميم الخطاب الديني، فمنصب شيخ الإسلام الذي استحدثه العثمانيون لم يكن منصبا فتوويا يختاره العلماء، على غرار الكراسي الأربعة للمذاهب التي أحدثها المماليك، ولكنه منصب ديني إفتائي أعلى، على مذهب واحد – الحنفي – يختاره السلطان، بقطع النظر عن أعلمية غيره، أو رضى العلماء.

ذلك يشبه التأميم نفسه الذي جرى في العصر الحديث، وإن بصورة مختلفة، في نسخة المؤسسات الدينية الرسمية، التي جعلت الدين جزءًا من الدولة، بصورة مؤسسية، وليس مظلة قيمية لها، يختارها ويعينها النظام السياسي، ومن ثم فإن وجودها مرتبط بصورة أو بأخرى بالدولة – السلطة – وجوديًّا. ذلك على غرار ما نجد في نموذج الأزهر المؤسسي الذي رافق الدولة القومية الحديثة، التي هدفت علمانيتها للسيطرة على الدين عن طريق دمجه في منظومة الدولة، وفق مؤسسات هرمية سلطوية، كظلٍّ للدولة القومية الحديثة في مساحة الدين، بما هو مخالف للتصور الديني نفسه عن التدين وطبيعته وموقعه من المجتمع والسلطة. هذا النموذج مكرور في المغرب، والسعودية، وغيرها، ولكن مع اختلاف الأصباغ والمساحيق الفكرية والأيديولوجية.

(8)
ليست تلك المشكلة فحسب. ولكن المشكلة أن تلك المأسسة الجديدة للدين، قد رافقتها نشأة التصورات الجديدة للحاكم المخالفة للشريعة.

فما ذكرناه من قبل: كنا نتحدث من خلاله عن علاقة العالم بالسلطان الظالم، لكن السلطان الظالم كان مازال محتفظًا باللافتة الإسلامية، وبمساحة واضحة من الإسلام في المجتمع، مهما تعمقت فيه المخالفات.

تلك الهوية بدأت في التغير فعليًّا من آخر عصر الدولة المملوكية، التي بقيت فيها آثار الحكم الهجين للمغول بقوانينهم وأوضاعهم الأجنبية، وبرزت بصورة صارخة في عهد العثمانيين، مع التعديلات التشريعية، واستبدال الشريعة في كثير من ملامحها علنًا. ثم انتهى الوضع الإسلامي للسلطة بصورة شبه كلية مع الاستعمار الأجنبي الجديد لبلاد المسلمين منذ أواخر القرن الثامن عشر، والذي بمغادرته في منتصف القرن العشرين؛ خلّف جميع أوضاعه السياسية والاجتماعية والثقافية لتحكم بلاد المسلمين من ورائه.|

هذا الواقع الجديد الشاذ والغريب عن هوية المنطقة ووعيها بنفسها؛ أسس بدوره لمفاهيم أخرى شاذة وغريبة لأنماط التعامل مع السلطات الموجودة فيه.

فكثير من الفقهاء التقليديين التابعين لأنظمة الفقه السياسي الكموني، الذي يتميز به أهل الحديث والأشاعرة؛ سحبوا ذلك الفقه على واقع جديد مغاير. فالفقه الذي يدعو لعدم الخروج على ولي الأمر الجائر المتغلب بالسلاح – وهذا فقه عقلائي لو لم توجد نصوص دينية تدعمه لكان ينبغي أن يقول به أكثر العقلاء -؛ اختلط بمنحه شرعيةً دينية وكأن وضعه لائق شرعًا، بالتجاهل الكامل لمعنى كونه ظالما فاسقًا بمجرد تغلبه – كما ينص الفقهاء – فضلًا عن مظالمه وسياساته الجائرة الأخرى.

الأكثر من ذلك أنه جرى منحه من السلطات والوظائف والحقوق ما ليس مرادًا للشارع إلا للحاكم العدل، أما الجائر فلم يرد أكثر من المنع من الخروج عليه – وفق هذا المنظور الذي ليس محل إجماع -.

ثم الأكثر من ذلك أنه جرى الخلط بين هذا الحاكم الجائر الذي ما زال هو وحكمه ومجتمعه تحت مظلة الإسلام، بالحاكم الجائر الذي لا يلتزم الحكم بالإسلام عنوانًا من حيث الأصل، بل يحارب من يدعو إلى ذلك، ويحبسه ويقتله.

هذه الانحرافات المتراكبة موجودة في النظام السلفي، في صورة المداخلة والجامية والسلفية الرسمية، وموجودة في النظام الأشعري، في صورة الدين الرسمي المؤسسي.

(9)
نجد الفقيه – الحنبلي – ابن المبرد، في أوائل القرن العاشر، يرصد بدايات هذا الانحراف، حيث يقول بعد سرده لأحاديث فضل السلطان، وطاعته: «العجب من بعض المُتفقِّهة الفجَرة! يذكرون هذه الأحاديث لكثيرٍ من الظلَمة، ممن انغمس في الظلم، وعامَ فيه وسبَح، وأخذ أموال الناس من غير حِلِّها، وقتل النفسَ الحرامَ أكثر من ألفِ مرة بغير حقّ، واستحلَّ أموال الناس، ودماءَهم وأعراضهم، ويُزيِّن له أنه عادل، ولولا أنت ولولا أنت! ليتوجَّه بذلك عنده، ويُنفق سوقَه، فلا كثَّر الله في المسلمين مِن أمثالهم»، «فالعجبُ كلَّ العجب ممن لا دين له ولا عقل، ومع ذلك يزعم أنه فقيه، ويدخل على الظلمة الفجَرة في القرن التاسع والعاشر، ويُزيِّن لهم، ويُحسِّن لهم أنهم على العدل، وأنهم من العادلين! مع قتل النفس المُحرمة، وعدم توقِّي دماءَ المسلمين وأموالَهم وأعراضهم، ومع ذلك منهم مَن يُزين لهم ذلك، وأنه خير، وأن بعض أئمة الإسلام أباح قتل الثُّلثين في صلاح الثُّلث، ونحو ذلك».

هذا هو المعنى نفسه الذي نشأت معه الأنظمة المدخلية في السياق السلفي. تلك الجامية التي هي فكر جديد مبتدع لا يمت بصلة للسلف ولا السلفية. المدخلية قالت بشرعية حكامٍ، ووجوب الحقوق الشرعية لحكامٍ؛ لم يسبقهم إلى القول بها أحد. وذلك لخلطهم بين الصبر على الظلم، وعدم الخروج، من جهة، وبين شرعنة السلطة من جهة، كما أشرنا. وإن كان من الصحيح أن بعض نصوص أهل الحديث، ونصوص بعض متقدمي الحنابلة يفهم منها الشرعية للحاكم الجائر، لكن هناك معنيان للشرعية: ففرق بين الشرعية بمعنى ما يريده الله والرسول أن يكون من السلطة، وبين أنها لتحقيقها الحد الأدنى من الدين في الناس: يجوز التسكين أمامها وعدم الخروج عليها لعظم المفسدة. وقد أشرنا إلى هذا في مقال سابق فيما يتعلق بموقف الإمام أحمد من السلطة.

فثمة فرق بين الشرعية العنوانية للحاكم الجائر المحتفظ بحكم الإسلام عموما مع مظالمه، والشرعية الكاملة الصحيحة للحاكم العدل المسلم. وابن تيمية نفسه، أعظم قارئ ومؤول وصائغ متأخر للمدونات السلفية يقول صراحة: «والإمام العدل تجب طاعته فيما لم يعلم أنه معصية، وغير العدل تجب طاعته فيما علم أنه طاعة كالجهاد».

وهاك نموذجًا آخر أشعريًّا على هذا التفريق بين حقوق الجائر والعدل، فحين قال العلامة المنوفي المالكي، في شرحه على الرسالة: «والجائرون لا يطاعون لقوله – صلى الله عليه وسلم -: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»»، تعقبه العلامة العدوي – الفقيه المالكي المشهور بالتصدي للماليك في القرن الثاني عشر -، قائلًا: «(قوله: والجائرون لا يطاعون) أي لا تجوز طاعتهم. قال تت [يعني التتائي]: ولا تجب طاعة ولاة الجور إلا لخوف القتال والنزاع فيطاع عند ذلك. (قوله: لقوله – صلى الله عليه وسلم -…): المناسب إيراد ذلك الحديث فيما إذا أمر من اجتمعت فيه شروط الإمامة التي منها العدالة بمعصية من أنه لا تجب طاعته لقوله – صلى الله عليه وسلم -: «لا طاعة لمخلوق» إلخ. وأما الجائر الذي ليس بعادل فهذا لا تجب طاعته ولو في الجائز كما يستفاد من عبارة تت». فلم يرتض استدلال المنوفي بحديث لا طاعة لمخلوق، لأنه يستلزم أن للجائر طاعة في غير المعصية، وهذا خاص بالعدل، أما الجائر فليس له طاعة أصلا، واستند في ذلك لكلام العلامة التتائي – وهو مالكي وقاض -، بما يعني التفريق في الأحكام بين الجائر والعدل أيضا.

وهذا الشيخ الألباني، أهم رمز سلفي علمي معاصر، ينتقد ذلك الاتجاه بوضوح، رغم رؤيته السياسية الكمونية الشهيرة، التي تعارض السياسية في المرحلة الحالية، فضلًا عن النضال المسلح.
فيقول الألباني: «هذه الكلمة التي تشاع في هذا الزمان، وهي مخالفة ولي الأمر، هذه كلمة للأسف يستغلها كثير من الدعاة الذين يزعمون أنهم من الدعاة إلى الإسلام (لا يجوز مخالفة ولي الأمر)، أنا أقول معهم: لا يجوز للمسلم أن يخالف ولي الأمر، لكن ما صبغة؛ ما صفة هذا الولي؟ أنتم تعرفون أن الولاية قسمان، ننتقل إلى موضوع له علاقة بالتصوف، تعرفون أن ابن تيمية ألف رسالته: الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.. وتحدث عن أولياء الشيطان..؛ أعود لأقول: لا نريد أن نقيس أولياء الأمور الآن على أولياء الشياطين في ذلك الزمان؛ لكن أريد لأبين الحكم الشرعي فيمن هم أولياء الأمر الذي يجب طاعتهم: هم الذين ينطلقون في حكمهم لأمتهم ولشعبهم من كتاب الله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ كما كان الخلفاء الراشدون ومن سار سيرهم من بعض الملوك الذين جاءوا من بعدهم، هؤلاء الحكام الذين يضعون نصب أعينهم تحكيم الشريعة يجب طاعتهم».

(10)
فلم يفرق هؤلاء – الكلام عن المداخلة الآن – بين النوعين، وأوجبوا طاعة الظالم في كل ما لم يعلم أنه معصية مطلقًا، كالحاكم العدل.

ثم تمادوا، فأحبوا الظالمين، ونفوا عنهم الظلم، وجعلوا حبهم سنة وهدى، وبغضهم بدعة وضلالًا، وصاروا أحذية سلاطين لا علم لهم ولا مروءة ولا أخلاق. يسوغون لهم الحرام الصريح، ويحاربون العدول المسلمين، لا يغتفرون لهم الزلة والهفوة، وهم قائمون على من لا يمتري في ظلمه بصيران.
ومع ذلك، وللعلاقة العضوية بين تأسس السلفية المتأخرة، سواء الوهابية أو المعاصرة، وبين النظام السياسي؛ مع تبني ذلك النظام للعنوان الشرعي العام، رغم وضوح ما فيه من مخالفات، إلا أن ذلك العنوان الشرعي العام يجعل الخلاف في الشرعية سائغًا في ذلك السياق الخاص بهم فقط – داخل تلك الدولة – مع التفريق بين نوعيْ الشرعية، والفرق بين العدل والجائر كما تقدم. والذي يجب رفع الاشتباه عنه لدفع الأقوال الباطلة للمداخلة فيه.

إلا أن الأكثر فداحة من ذلك أنهم عمموا ذلك على كل الحكام في البلاد المسلمة، في غير بلادهم من الذين لا يتحاكمون للشرع أصلا، ولا يقيمون به رأسًا، ولو عنوانًا، بل يحاربون من يتبناه ويعاقبونه حفاظًا على سلطتهم.

فخرجوا بقولهم هذا إلى قولٍ بدعةٍ ضلالة، لم يسبقهم إليه أحد، ولا يقوله أحد، بل هو عندي معلوم بالاضطرار من الشرع المحمدي بطلانه، وهو أن تأمر الشريعة باحترام وصيانة مضادة الشريعة والحكم بضدها ومحاربة من يحكم بها أو يدعو إلى حكمها، وهذا لا شك في أنه يجعل الشريعة متناقضة، آمرة بالضلال، ناهية عن الهدى. فكل مصلحة أقرَّت بها الشريعة – وفق رؤية بعض العلماء – حكمَ الجائر ومنعت من منازعته؛ فهو لأجل اقتران حفظ النظام بحفظ الدين فيه، لو لمجرد العجز، أو للمضرة غير المطيقة.

ومجرد عدم الخروج والمقاومة المسلحة مع تفاوت القوى = مبنى عقلائي، يجب الامتثال له ولو مع الكافر الأصلي، ليس موقوفًا على نص شرعي، ولا يجب أن يكون مصوغًا بمعنى ديني. فهذا لم يقله على ذلك النحو إلا غلاة المداخلة هؤلاء، وقبلهم غلاة البروتستانتية الكالفينية، في تدينهم بطاعة الفجرة من الحكام، بناء على الفهم القبيح نفسه لنصوص الكتاب. وصدق النبي صلى الله عليه وسلم أن تلك الأمة تتبع سَنن من كان قبلها شبرًا شبرًا.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى