بقلم الشيخ د. زاهر إحسان بعدراني (بتصرف)
كان ومازال لعلماء الشريعة في حياتنا الدور الريادي على مستوى قيادة الأمة وتوجيه دفتها، ذلك لأنهم يحتلون مكانةً مرموقةً وموقعاً مميزاً في قاطرة سير الأمة وانتقالها من حال لآخر، وما ذلك إلا لأن الإسلام هو الرافد الأساس في صوغ الحياة السياسية لدى المسلمين وفق أفكار ومفاهيم انبثقت عن عقيدتهم ونظرتهم للحياة، في حين نجد أن آخرين فصلوا الدين عن الحياة السياسية عمداً أو خطاً أو جهلاً.
ولِمَا لهم من مكانة، أدرك سلف الأمة من العلماء والأئمة المهمة الملقاة على عاتقهم، فسطّروا لنا مواقف من نور أضاءت ظلمة ليل الدول المتعاقبة ، وأنارت الدرب لكل من ينشد حياة العزّ وطريق الرفعة، فكانوا نجوماً تتلألأ في سمائها ومضرب مثل لها، والمقوّم لاعوجاج القيادات والزعامات والرئاسات فيها إن طغت وبغت، فكانوا بحق بوصلة السفينة وربانها.
لقد أدرك العلماء عبر تاريخ الأمة الممتد إلى العهد العثماني أنهم من يُبصِّر الأمة بالحقِّ ويبعدها عن الزيغ والزلل، فهم من قرؤوا قول الحق سبحانه (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ) وفهموا قوله )واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين*ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرو(الأعراف:175-176 وامتثلوا قول الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام (العلماء ورثة الأنبياء) وقوله 🙁 إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة كل منافق عليم اللسان)وما كانوا ليسوا أو يغيب عنهم ما ثبت بإسناد صحيح عن عمر رضي الله عنه، في حواره مع زياد بن حدير قال: قال لي عمر: (هل تعرف ما يهدم الإسلام؟!)، قال: قلت: لا، قال: (يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين).
وهم من سطّروا لنا مواقف المحاسبة وقول الحق والصدع به مهما كانت الصعاب، فمنهم الأمام أحمد بن حنبل الذي ضرب أروع الأمثلة في محاسبة الحكام حتى قال مقولته المشهورة التي تكتب بمداد من ذهب (إذا أجاب العالم تقية والجاهل يجهل فمتى يتبين الحق؟!)، ومنهم العز بن عبد السلام ، ومنهم سعيد بن جبير ومنهم أبو حازم التابعي الجليل ومنهم ومنهم.
وإدراكاً لهذا الدور المحوري لعلماء الأمة عمدت الأنظمة العربية في زماننا على اختلاف بلداننا إلى تطويعهم بغرض حرفهم عن جادة الحق والصواب، واستخدمت الترهيب والترغيب والتضليل، كي يسبحوا بحمد الأنظمة صباحَ مساء فيضفوا بذلك مسحة الشرعية على حكمهم الغريب عن جسم الأمة، ليتقبلها ذلك الجسد بلا مقاومة ظناً منه أنها جزء أصيل منه وما هي سوى داءٌ عضال يسري في عروقه و يجري في دمه .
نعم لقد عمدت الأنظمة العربية وأجهزتها الأمنية القمعية بمكر ودهاء خبيثين لإيجاد طبقة من العلماء يوالون الحاكم ويناصرونه ويدعمون قراراته بل وخيانته للأمة وتجرئه على دين الله في كثير من الأحيان، فباتت طبقة علماء السلطة جزءاً رئيساً من منظومة الحكم في بلاد المسلمين المنكوبة، عملها إفراغ الدين من مضمونه، وإلباس الحكام لباس ولاة الأمور مما يجعلهم خطاً أحمراً يُمنع الاقتراب منه ويُحظر على العامَّة أن تطاله بالنقد والتحليل ، ثم من أجل ذلك عملوا على عزل الدين عن السياسة بغية تجهيل الشعب .فدخلت السياسة بالدين بدل أن يدخل الدين بالسياسة ونتج عن هذا الزواج ابناءٌ غير شرعيين هم أنظمة الدول المستبدة والمستعمرة للعقول والأجساد معاً
وعلى الرغم من أن الحكام الذين يجثمون على صدر الأمة لا شرعية لهم، فلا هم أتوا بتوكيل وتفويض من الأمة عبر بيعة حقيقية، ولا هم يطبقون أحكام الإسلام في مناحي حياتهم، بل هم الذين اغتصبوا السلطة وحكموا الأمة بشرعة البسطار والنطاق العسكري، إلا أننا نرى كيف تستميت طبقة علماء السلطة في إيجاد المبررات والمسوغات الواهية لشرعنة تصرفات الحاكم الطاغية .
إنَّ علماء السلطة قد بلغوا مبلغاً لم يشهده تاريخ الأمة من قبل، فترى منهم أئمة يعتلون المنابر ويخطبون ود الحاكم الخائن لله ولرسوله ولشعبه وللمؤمنين وللإنسانية، منهم مثلاً علماءُ ينطقون بالكفر والفجور كحال حسون النظام ومفتي العوام أحمد بقوله (لو أمرني محمدٌ بالكفر بالنصرانية واليهودية لكفرت به) ثم تراه ينتقل من اليمين المتطرف إلى اليسار المتطرف بتصريحه الشهير بإرسال انتحاريين إلى أوروبة وأمريكا في حال تمَّ التعرض لنظام الأسد دولياً ، وآخرون يبررون كـ البوطي لنظام الأسد سجودَ أذنابه على صورة رئيسهم المعبود من دون الله ثم تراه يصف الثوار الأحرار بالحثالة ، وآخرون يقفون بساحات التأييد المشتراة بمال النظام وبعصا تجويعه وإفقاره ليُقسموا للعامَّة أن الله وملائكته يُحبُّون بشار ونظامه كـ أحمد شيخو وآخرون يلوون أعناق الأحاديث النبوية ويدعون الناس لالتزام بيوتاتهم مع التأكُّد من إغلاق أفواههم كـ أحمد صادق وآخرون ما زالوا يضخُّون في فكر مريديهم أنَّ الإصلاحات صارت على الباب وأنَّ ما يجري مؤامرة كـ عبد الرحمن ضلع وآخرون وآخرون كان آخرهم “حوتُ حلب محمود” والذي مازال يرى إمكانية تفعيل طاولة الحوار بين نظام الحاكم بأمر إيران من جهة وثورة الشعب العظيم من جهةٍ أخرى .
لقد صُدمتُ منذ أسبوع وأنا أرى مسجد الروضة بدمشق في يوم المولد النبوي الشريف وفيه (المجرمُ فرعونُ الأمة بشار) ومعه (التجار مِن قوارين _جمع قارون – هذا النظام وداعميه ) و(شبيحة النظام على رأسهم مدير مراسم القصر الجمهوري ذو الهمة شاليش )
لكنَّ ما أذهلني وجود مشايخ السلطة ونظام الحكم ممن سمَّاهم والدي و شيخي بـِ (هامانات النظام ) أولئك الذين يُعبِّدون عقول البشر لتكون أرضاً صالحةً لإقامة عروشهم المبنيَّة على عظام وجماجم الشعب المسكين أمثال : أحمد قباني و خضر شحرور ” مديرا أوقاف دمشق وريفه” و شريف الصواف “مدير مجمّع الشيخ أحمد كفتارو ” ومحمود عبيد ” إمام جامع الروضة ” بشير عيـد الباري ” مفتي دمشق ” وأحمد جزائري “مدير دائرة الحج بوزارة الأوقاف ” ناهيك عن “ممثل الخامنئي في سورية” عبد الله نظام و”شيخ الدروز” حسين جربوع وأمثالهم ،ممّن يجمعهم كلهم قاسمٌ مشترك هو الولاء للنظام والبراء من الثورة والاستجداء للمال والمنصب .
وآخرها اليوم بعد تفجيرات حلب .. يقف حسون النظام وبجواره طبلهُ علاء زعتري ومعهم مفتي حلب محمود عكام ليجسِّدوا من جديد حال علماء السلطة ولسانها الناطق وليصفوا من خرج يطالب بعيش الكرامة وكرامة العيش بأشنع الأوصاف وأفظعها …
لكنني أبشّركم فقد باتوا مكشوفين ومفضوحين وما عاد لهم من رصيدٍ شعبي إلا ما لبشار القاتل وزبانيته تماماً
لقد صدق على بن أبي طالب رضي الله عنه عندما قال : قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك.
ورحم الله ابن المبارك حين خصم المسألة فقال: وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها .
نعم إنَّ أولئك هم الذين يُزيِّنون له الخطأ ويجمِّلوه ويُصدِّرون له الفتاوى المجانية بشرعية الضرب بيدٍ من حديد على من يخرجُ مطالباً بأدنى حقوق الإنسان في العيش الكريم
هم الذين قال عنهم الإمام أبو حامد الغزالي: وأما الآن فقد قيدت الأطماع ألسن العلماء فسكتوا وإن تكلموا لم تساعد أقوالهم أحوالهم، فلم ينجحوا ولو صدقوا وقصدوا حق العلم لأفلحوا، ففساد الرعايا بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء، وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه، ومن استولى عليه حب الدنيا فلم يقدر على الحسبة على الأراذل، فكيف على الملوك والأكابر، والله المستعان على كل حال .إحياء علوم الدين ج7/92.
ومع ذلك كله فإنَّني أبشِّركم بأنه ما عاد استخفاف هؤلاء بعقول المسلمين يجدي نفعاً، فقد انتهى مفعول حبوب المخدِّر من علماء السلاطين وهاماناته ، كما فقد الحكام مِن قبلُ فاعليتهم وتأثيرهم على الرأي العام ، ولتكن القاعدة الذهبية التي ينتهجها الشعب تُجاه أدعياء العلم قولَ ابن مسعود: ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً إن آمن آمن وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر
لقد نسي أو تناسى ، وجهل أو تجاهل هؤلاء قوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.( وقوله: (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل امرئ مسلم). وكذلك أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، وقوله: (إذا خشيت أمتي أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منها) وقوله: (لتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا(
إن على علماء السلطة والسلاطين -وقبل فوات الأوان- أن يقلعوا عن موالاتهم للأنظمة الفرعونية هنا وهناك،كما يجب عليهم الاقلاع عن الإساءة للعلم الشرعي أيضاً بتحميله أوزاراً لا يحتملها.
على العلماء اليوم أن لا يكونوا دعامة من دعائم أنظمة الفساد و الاضطهاد في بلادنا، ولا أقل من أن يعلنوا براءتهم على رؤوس الأشهاد مما ضللوا به الأمة من قبل وألبسوا عليها أمر دينها ، فعروة الإسلام هي العروة الوثقى وعرى السلاطين أوهى من بيت العنكبوت، وستودي بهم –إن أصروا على التشبث بها- إلى مهاوي الردى وخسران الدنيا والآخرة لو كانوا يعلمون.
إن في الأمة علماء أتقياء أنقياء، وعاملون مخلصون، (هم كالتبر النادر) أخذوا على عاتقهم إنقاذ أمتهم مما تعانيه والسير بها نحو العلا قدماً، لذا كان على الأمة أن تميز اليوم بين علمائها وبين أدعياء العلم فيها، وأن تميز بين من يسعى لنهضتها وسؤددها ومن يسعى لتكريس واقع الذلة والمهانة فيها.
ولسان حالِ الناس يقول : ما بالُ هذه العمائم خرست … وإنْ هي إلاّ كفَنٌ لُفَّ على رؤوسكم .
إن مشروع التغيير بات في متناول اليد وقد فات الوقت الذي يمكن للحكام الفراعنة وهاماناته من أصحاب العمائم المدجلة أن يثنوا الأمة والعاملين لعزها وسعادتها عن مسعاهم، ” أليس الصبح بقريب “.
(المصدر: صفحة د. د. زاهر بعدراني على الفيسبوك)