بقلم الشريف حاتم العوني
الأصل في تعمد إخفاء المفتي قولا فقهيا معتبرا أنه خيانة !
نعم : هذا هو الأصل !!
وأقصد بالإخفاء لا مطلق عدم الذكر ، وإنما إيهام عدم وجود الخلاف المعتبر ، أو التصريح بعدم وجوده ، أو ادعاء عدم اعتباره أو إيهام عدم اعتباره بالتشنيع عليه وإنكاره .
ولا يلزم المفتي ليقوم بأمانة البيان أن يذكر الاختلاف ، وإنما قد يكفي المفتي – قياما بأمانة العلم – أن يقول في بداية فتواه : “في المسألة خلاف معتبر” ، ثم يبين اختياره بدليله أو بغيره (حسب الحاجة لذكر الدليل والمصلحة) ؛ لأنه بذلك قد بين وجود خلاف وجيه لترجيحه ، وإن كان هو يرجح خطأه (بغير قطع) ويظن الدليل بضده (ظنا لا يقينا) .
وقد يحتاج المفتي أن يُفصِّل في ذكر الاختلاف ، في مثل ما لو كان الاختلاف لا يخفى على العامة ، أو هو اختلافٌ من المتوقَّع أن يطلعوا عليه ، في زمن برامج الإفتاء المختلفة ومواقعه المتعددة وبرامج الحاسوب التي تيسر الوقوف على المعلومات في عصرنا .
بل أنصح المفتي أن يحتاط لنفسه بالإشارة للاختلاف (خاصة المعتبر) أو بذكره ، كي لا يستجهله الناسُ أو يُـخَـوِّنوه ، ولكي لا يصعد على أكتاف المفتين متعالمٌ من أمثال المراهقين فكريا الذين تعرفونهم ، فيزعم هؤلاء المراهقون كَشْفَهم معلومةً صادمة للعامة كان قد أخفاها عنهم العلماء !
نعم : إن إخفاء الفقيه قولا فقهيا عن العامة في هذا الزمن صار من أسباب الفتنة غالبا ، ولا يجب التوسع فيه ؛ خاصة في هذا الزمن ، زمن الفضائيات ومواقع النت وبرامج الحاسوب .
بل عدم الإخفاء هو الأصل في كل زمان ؛ إذ الأصل هو عدم جواز كتمان العلم وعدم جواز إخفاء الحقائق . هذا هو الأصل الذي ما سواه ليس إلا الاستثناء ، بدليل النصوص العامة والأصول القطعية الآمرة بالبيان ، والمحذرة من الكذب في التعبير عن الحقائق !
ومن الكذب الذي يمارسه ضعيفو الفقه المعاصرون والذين يريدون إلزام الناس باجتهاداتهم الظنية التي يخالفهم فيها أئمةٌ من أئمة المسلمين في خلافٍ معتبر وجيه سائغ ، بل ربما كان قول هؤلاء هو الخلاف الباطل غير السائغ ، ومع ذلك يخفون القول الصواب ، بحجة الحكمة والمصلحة المعتبرة ! وغالبا ما تكون المصلحة هي : إلزام الناس باجتهادهم الظني ، والذي قد يظنونه قطعيا (إن أحسنّا الظن بهم) ، وقد يعلمون ظنيته لكن حب الرياسة وممارسة الكهنوت هي التي تجعلهم يُوهمون العامة جهل كل من خالفهم .
فيريد هؤلاء الجهلة (الذين في لبوس العلماء) أن يُلزموا الناس بآرائهم من خلال إخفاء ذلك الخلاف المعتبر :
– بادعاء الإجماع مرة .
– وبادعاء سقوط القول المخالف مرة أخرى .
– وبحجة المصلحة المعتبرة مرة ثالثة ، حيث لا تكون مصلحة ؛ إلا إلزام الناس باجتهادهم !!
فاعلموا أن الأصل هو أنه ليس من الحكمة إخفاء سواغ الاختلاف واعتباره ، بل هذا من خيانة العلم !
وليس من الأمانة إيهام الناس خلاف الحقيقة ، بل هذا عين الخديعة والكذب!
وتنبه : فهناك فرق بين أمرين : الأول : عدم ذكر ما يغلب على ظنك أنه لن يُفهم أو أنه سيُفهم غلطا ، والثاني : أن تُوهم الناس خلاف الصواب أو الواقع . فالأول جائز وقد يجب ، ما دمت غير مضطر لذكره ، وأما الثاني فهو خيانة وكذب .
ولا يجوز الاحتجاج لمثل هذه الخيانة بالأمور الثلاثة الآتية :
١- بقول الصاحب رضي الله عنه : «حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يُكذَّب اللهُ ورسولُه» ، لأنه لم يقل حدثوا الناس بخلاف الحقيقة.
٢- ولا بقول الصاحب رضي الله عنه: «ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة» ؛ لأن الفتنة كل الفتنة هي أن يتوهم الناس ما ليس بكفر كفرا ، وما ليس ببدعة بدعة ، وما ليس بحرام حراما ، وما ليس بكبيرة كبيرة ، فذلك كله تحريف لدين الله . ثم قول هذا الصحابي هو أمر بالسكوت عما لا يفهمه بعض الناس ، وليس فيه أمر بإيهامهم خلاف الحقيقة .
٣-ولا بكراهية سفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي والإمام أحمد لتأويل حديث : ” ليس منا” : ليس مثلنا” ، بدعوى أنهم أرادوا أن يتوهم الناس من الحديث خلاف ما يجب أن يعرفوه من كون ذلك لا يوجب التكفير ؛ لأن هذا لو وقع من أحد لكان من أعظم الخيانة ! كائنا من كان قائله !! ولكن حاشاهم –ومن هو دونهم – من هذه الخيانة !!
والصحيح :
١- أن هذا التفسير الذي أنكره هؤلاء الأئمة قد قال به غيرهم من الأئمة كسفيان بن عيينة ، ونسبه إليه تلميذاه : الإمام أحمد وأبو عبيد القاسم بن سلام . فليس قول المنكرين وحده حجة على غيرهم .
تنبيه : نُسب قول سفيان الثوري لابن عيينة ، والصواب أن الإمامين مختلفان في هذه المسألة .
٢- أن كراهية من كره هذا التفسير لم يكن لأنهم يريدون أن يتوهم الناسُ منه الظاهر الذي يوقع في التكفير ، بل لأنهم وجدوه يتضمن معنى غلطا ، حتى قال ابن مهدي – منكرا له – : «لو أن رجلا عمل بأعمال البر كلها ، كان يكون مثل النبي صلى الله عليه وسلم ؟! هذا التفسير ليس بشيء» ، وأيده الإمام أحمد على هذا البيان لسبب رد ذلك التفسير . فلم يكن سبب الرد هو أنهم أرادوا ترك الناس ليفهموا من الحديث التكفير لتنفيرهم عن المعاصي ، كما يزعم أصحاب هذا الاستدلال ، بل ردوه لكونه تفسيرا غلطا .
٣-صرح الإمام أحمد بنفي المعنى المتوهم في رواية عنه ، فقد سُئل عن “من غشنا فليس منا” ونحوها ، فقال : “على التأكيد والتشديد ، ولا أكفر أحدا إلا بترك الصلاة” . فها هو ينفي المعنى المتبادر للذهن ؛ لأنه يعلم أن ترك الناس وما يتبادر إلى أذهانهم مما يخالف مراد الشرع خيانة لأمانة البيان التي هي من أعظم أمانات أهل العلم .
ولذلك فتعليل الإمام النووي قول من كره تفسير «ليس مثلنا»: بإنه كره ذلك لأنه كان يرى الإمساك عن تأويله ؛ ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر (كما قال) = سيكون قولا صوابا على تقرير الإمام أحمد ، وهو : أن يُبيّن المفتي للناس أنه ليس تكفيرا ، ويحذر من المعنى الغلط الخطير الذي قد يفهمونه من ظاهر عبارة «ليس منا» ، ثم يكف عن تفسير الحديث بما فوق ذلك . أما أن يوهمهم خلاف الصواب ، أو أنه يعلم أنهم سيفهمونه خطأ ثم يسكت : فأي خيانة للأمانة أعظم من ذلك .
ولن تجد لأصحاب هذا المذهب في إخفاء الحقائق من دليل إلا وهو على ضد ما ظنوه ، فهم القوم عهدناهم لا يحسنون الاستدلال ، ويريدون إخفاء ضعفهم وجهلهم ، بالمطالبة بإخفاء خلاف العلماء لما ترجحه مدرستهم وما تَقلَّده معظَّموهم . ولذلك فليس بغريب أن يستدلوا للخيانة العلمية بهذه الاستدلالات الباطلة !! فهذا هو مبلغهم من العلم !
(المصدر: موقع الشيخ حاتم العوني)