بقلم د. حذيفة عكاش – مدونات الجزيرة
إنّ التخلّف الحضاري الذي تعيشه الأمّة منذ قرون، قد أثّر في كلّ مجالات الحياة، فَرُوحُ التقليد واستنساخ الآراء وتكرارها، دون أدنى تقييم لها هي سمة المتخلّفين، لأنّهم يخافون المخالفة، فوظيفة العقل عندهم الحفظ والنقل، دون أدنى نقد، فضلاً عن الإبداع! وذلك في مجالات وتخصّصات الحياة كلّها.
وفي المجال الديني، عندما نسمع أو نقرأ للمحقّقين والمجدّدين من العلماء عبر التاريخ، حتّى من المنتمين للمذاهب، نجد القاسم المشترك بينهم الانعتاقَ من التقليد، واعتقاد أنّ جهودَ القدماء غير كافية وغير ناضجة، وينقصها الكثير من التحقيق العلميّ، فينطلق العالم يدقّق ويحقّق ويختار وينتقي بين أقوال القدماء، وربما زاد عليها أقوالاً جديدة، نتيجة النظر والاجتهاد في النصوص. وكثيراً ما أتساءل: لماذا كان غالب علمائنا -الذين درّسونا في المدارس الشرعيّة- يرسِّخون فينا “عصمة الأئمة المجتهدين؟” وإن لم يصرِّحوا بذلك، كانوا يفعلون ذلك بذريعة زَرْعِ احترامِ العلماء، ومَنْعِ “صغار طلبة العلم” من التطاول على “الأكابر”.
وحتى يتوازن الكلام كان الأَحْرى بهم أن يترافق ذلك الكلام مع التأكيد على عدم عصمة العلماء السابقين، وتطبيقِ ذلك عمليّاً، عبر نقدِ مسائل تمرّ في المنهاج المقرّر، (رغم أنّ كثيراً منها كانت كتباً تراثيّة قديمة كُتبت منذ قرون)، يعني: كان عليهم نقد الكثير من الاجتهادات القديمة، وإظهار عدم صلاحيّتها لعصرنا، وتقديم نظرات جديدة أكثر ملاءمة للعصر، فالواقع قد تغيّر كثيراً. ويستمرّ ذلك المنهج -أقصد تقديس أقوال القدماء- مهما طال عمر الطالب، واتّسع اطلاعه، ولو تجاوز طالبُ علمٍ حدَّه وقَدْرَه وتجرّأ واعترض، لَقُوبِل بوابل من التوبيخ: يقتل في الطالب أيّ بذرةٍ للنقد أو الإبداع. صحيح أنّ بعض الطلبة ربما ينقدون دون أهليّة، وربما يتطاولون على الأئمة، ويقول بعضهم: “هم رجال ونحن رجال”، بل ربما يتجاسر على الاجتهاد مَنْ لا يصلح لفهم كلام العلماء فضلاً عن الإتيان بمثله أو باجتهادٍ جديد!!
كلّ هذه المخاوف واقعية، وعلاجها بالتنبيه عليها لكن مع الحذر الشديد، كإجراء العمليّة الجراحيّة في العين، نعالجها مع الحفاظ عليها، فعقول طلبة العلم أغلى من عيوننا، فننتبه ألا نقوّي جرعة الدواء بحيث تقتل بذرة الإبداع والنقد عندهم، بل ننمّيها ونرعاها، ونقوّمها إن تجاوزت.. ككلّ شؤون الحياة، فعندما تعلّم ولدَك قيادة السيارة تنبهه من الوقوع في الحوادث والاصطدام، واستخدام السيارة بما لا يرضي الله، لكن هذه المخاوف لا تمنعك من تعليمه قيادة السيارة، وكذلك تعليم الطالب النقد والإبداع له مخاوف ومحاذير، لكن ذلك لا يلغي الهدف وهو تخريج طالب عليمٍ بصيرٍ ناقدٍ مبدِع.
ونذكر هنا “النقد” لأنّه بداية “الإبداع” فلا بدَّ من “نقدِ” السابق “لتبدع” جديداً، نريد مجتهدين، ولو (مجتهد مسألة) نريد ترسيخ الحريّة الفكريّة. المشكلة أنّ مَنْ أبدع من خريجي تلك المدارس إنّما كان حالات فرديّة، سبحَتْ بعكس التيار، ولم يكن ثمرةً طبيعية لتربية تلك المدارس!!
كانت جمرة العقل تُطفأ في كثير من الأحيان إلا في مجال حفظ المذهب الذي اختاره المدرّس، وينحصر جُهْدُ الطالب في حفظ الأقوال، والتدليل عليها، والدفاع عنها!! فكانت التربية تعتمد “الكمّ” على حساب “الكَيْف” فالتباهي بكثرة المحفوظات وعدد المتون والكتب، وكان الأَحرى التركيز على بناء عقلية الطالب التي تميّز بين الأقوال، فتترك الرديء وتنشر الجيّد، ولا يكون الطالب كحاطِب ليل.
في أكثر المدارس الشرعيّة لو خالف أحدُ الطلبة أساتذَته.. يُلام! بدلاً من أن يفرح الأستاذ بنُضْجِ عقلِ تلميذِهِ، وظهور شخصيّته واستقلاله!! لكن العجب ينقضي عندما تعلم أنّ “فاقد الشيء لا يعطيه”، فالمدرِّسون ليس عندهم نظراتٌ اجتهاديّة، حتى يورِّثوها لتلاميذهم، فتجد غاية جهد أحدِهم، أنْ ينقل لك أقوال السابقين! دون ترجيح ولا نظر ولا نقدٍ ولا تقييم! حتّى إنَّ أحد الطلبة النابهينَ بعد أن حضر سنوات عند أحد الأساتذة ثم ترك الحضور قائلاً: (هذه الأقوال أستطيع الاطلاع عليها في بيتي، أين المنهج العلميّ النقديّ؟ أين اختيارات العالم نفسِه؟ ما ترجيحاته؟ ما رأيه في كلّ ما يقرأ؟) وحتّى لا نظلم الجميع فقد كان بعض العلماء ينمّي فيمن يحضر عنده روحَ الاجتهاد والنقد والتحقيق.. ولكنّهم -للأسف- نادرون..
رَحِم الله الإمامَ (أبا حنيفة) الذي كان يربّي عقولَ تلاميذه على الاجتهاد المستقِل، فكانت حلقته أشبه بحلقات الفلاسفة العِظام، فورّث الأمةَ مدرسةً فقهيّة مقارِنة، وهذا سرّ ثراء المذهب الحنفيّ بالأقوال. ولو كان سلفنا الصالح يحملون الروح الانهزاميّة التي سادت قرون الجمود الفكري، لاكتفوا بكُتُب القرن الأوّل ولم يؤلِّفوا في كلّ عصر كتباً جديدة..
طبعاً “المدارس غير الشرعية” ليست أفضل حالاً، لكن المدارس الشرعية عليها المعوّل في تخريج علماء الدين، الذين هم من قادة الرأي في مجتمعاتنا الإسلامية، فمنهم المصلِحون والموجّهون والمعلّمون والأئمة والخطباء والمفتون..
وهنا لا بدّ من ذكر عاملين ساهما في كسر الجمود وتشجيع الاجتهاد المعاصر:
العامل الأول: انتشار الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه)، ونظام البحوث العلمية والأطروحات الأكاديمية، فلها فضلٌ كبير في التشجيع على البحث والتحقيق والاجتهاد وكسر الجمود على أقوال السابقين، وإن كان ما يزال بعض الدكاترة (المناقِشين) يضيق ذرعاً بالباحث صاحب الشخصية الشجاعة البارزة بالترجيح وإبداء الرأي، فيحاولون كسر عنفوانه، بعكس الدول المتطوّرة التي تشجع الإبداع!! حتى إنّ بعض الدكاترة قال: أستطيع معرفة المناقِش (في لجان نقاش الأطروحات الأكاديمية) هل تخرّجَ من جامعة عربية أم غربية؟ من طريقة نقاشه!
لكنّ الدعوة السلفية خطوة جيّدة حرّرت العقلَ المسلمَ من كثير من الآصار التي كبّلتْه، وننتظر صَحَواتٍ تعيدُ لمدرسةِ العقل والرأي اعتبارَه، حتى يعود جناحا الدين الإسلاميّ، اللّذَانِ تميّز بهما، ولطالما طار بهما، وهما “العقل والنقل”. وأيامنا تبشّر بالخير، فنحن ننتقل من طَور التقليد والجمود إلى عصر النهضة، والعصور الانتقاليّة دائماً تشهد صراعاً بين التقليديّين المحافظين، وبين الحداثيّين والمجدّدين، وكلا المدرستين ضروريتان لكلّ “مذهب أو مبدأ أو مؤسّسة” فالمحافظون يشدّون المجدّدين للمحافظة على الثوابت، والمجدّدون يكسرون جمود المحافظين على الوسائل القديمة، فيتحقّق التوازن المطلوب.
التفاؤل يزداد وبخاصّة في ظلّ انتشار العلم والقراءة والكتابة، بعد أن كان حِكراً على فئات معيّنة في العصور السابقة، وبعد انتشار وسائل الإعلام الاجتماعيّ التي هيّأت منصاتٍ لينشر فيها المجدّدون آراءَهم، دون أن يستطيع السياسيّون كمّ أفواههم. فعندما نرى شاباً قد اتّقَدت عنده “شمعة إبداع” فلنحافظ عليها ونعلِّمْه كيف يداريها وينمّيها حتّى تتحوّل إلى مصباح كبير، يساهم في إنارة سبيلِ نهضةِ أمّتنا الطويل، وكلّنا أملٌ أن تصبح ثقافة النهضة والإبداع والتجديد ثقافة عامّة، تشمل المؤسّسات العلميّة كلّها وما ذلك على الله بعزيز.