مقالاتمقالات مختارة

تأصيل الصراع وحقيقته في القرآن الكريم

الصراع بين الحق والباطل واحد من أكثر السنن الكونية شيوعاً واضطراداً في الخلق والكون، بل إن هذا الصراع يمثل رمانة الميزان في اعتدال وتصويب مسيرة البشرية من البداية إلى قيام الساعة، فقد بدأ منذ خُلق آدم -عليه السلام- حيث ناصبه الشيطان العداء، وبدأ الصراع يأخذ طريقه بين آدم وذريته المؤمنة من جهة وبين الشيطان وأتباعه من جهة أخري، وامتد هذا الصراع عبر الأجيال كلها والنبوات والرسالات كلها، وتأكد هذا الصراع مع الرسالة الخاتمة رسالة محمد –صلى الله عليه وسلم- حيث الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تؤصل هذا الصراع والتحدي، وتؤكد حتميته، وتذكر النماذج والأمثلة لهذا التحدي، مع بيان عاقبته في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وقد أكدت الآيات القرآنية علة أن حسم هذا الصراع والتحدي لم يكن ولن يكون إلا بالقوة الإيمانية، إضافة إلى القوى المادية الأخرى، عندها يكون الاستخلاف والتمكين والأمن والأمان لهذه الأمة المؤمنة.

أما إن كان الاعتماد على القوة المادية وحدها في الميدان فمصيرها حتما عاجلاً أو آجلاً إلى التهاوي والهوان والأحزان.

إنّ صراع الحقّ مع الباطل سنّة إلهيّة حكمت وتحكم مسيرة الإنسانيّة، ولا يخلو منها مجتمع، مهما كانت درجة تطوّره.

ففي كلّ تجمّع إنسانيّ تنشأ علاقات تنافسيّة، أساسها التّدافع والتّسابق على الموارد والخيرات والمال والقوّة والمنصب والجاه والنفوذ، وهذه المقاصد لا تتحقّق عفويّاً، إنما تأتي في سياق معارك، تأخذ أشكالاً وأنواعاً متعددة: ناعمة أو دامية، شريفة أو خبيثة، وذات مظاهر فكرية أو عقائدية أو سياسية أو اقتصادية أو أمنيّة.

وإنّ أبرز مشكلة تعانيها الحياة الإنسانيّة هي مشكلة تحقيق التّوازن بين مصلحة الفرد أو الأنا، ومصلحة نحن أو المجتمع، وتبدأ المشكلة عندما تتسلَّط روح الأنانيّة على الإنسان، فتصبح مصلحته ومنفعته هما المعيار لأيِّ سلوكٍ أو موقف، أي أنَّه يصبح على استعدادٍ لأن يغلِّب الظّلم على العدل، أو الكره والتعصّب على الحبّ والتّعاون والتّسامح، ويغلِّب الباطل على الحقّ.

ويبدأ الصِّراع عندما يستشري الفساد، ويتحكَّم الظلم والاستكبار بحياة مجتمعٍ ما ويعمّ الخراب.

أولاً: حقيقة الصراع وحتميته:

لقد اقتضت حكمة الله -تعالى- أن يخلق في النفس البشرية الشيء ونقيضه؛ فخلق فيها الخير والشر، قال تعالى: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه) [الزلزلة: 7 – 8]، وخلق فيها البغض والحب، قال تعالى: (هَا أَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران: 119]، وخلق فيها الرحمة والشدة، قال تعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) [الفتح: 29]، هذا التضاد والثنائية في الإنسان وهو جزء صغير في الكون ما هو إلا حالة مصغرة لفكرة الصراع الموجودة في الكون والخلق أجمعين، لتضفي على الكون حالة من التدافع والحركة التي تحول دون فساد هذا الكون، قال تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: 251].

ويعتبر هذا الصراع قديم بقدم الإنسانية؛ بدأ مع بدء الخليقة، فمنذ خلق الله فيها آدم -عليه السلام- وأسجد له ملائكته الكرام أعلن إبليس حربه على هذا المخلوق الجديد، وعاهد ربه على إغوائه وإضلاله، وهذا الصراع بين الشيطان وحزبه مع المؤمنين باقٍ إلى يوم القيامة، فهو صراع ماض لا مناص منه، إنه سنة من سنن الله الثابتة أبد الدهر.

والصراع بين الحق والباطل لا ينتهي ببيان نظري، بل لا بد من معركة حاسمة يزهق فيها الباطل ويعلو الحق ويزدهر؛ لذا فقد أكرم الله -تعالى- النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبه بمعركة حاسمة دارت رحاها على أرض بدر، وقد كان المسلمون يتمنونها قافلة يأخذونها بيسر دون قتال، وأرادها الله أن تكون حاسمة ذات شوكة، وفي ذلك إشارة أن الباطل لا بد أن تكسر شوكته ويهدم بنيانه ليبقى الباطل ضعيفاً مهيناً، وعندها يزهو الحق ويزدهر وتكون له هيبة في النفوس.

فتأصيل وحتمية حقيقة الصراع بين الحق والباطل يكشف بجلاء أن الحق والباطل في صراع مستمر، ولا يمكن أن يلتقيا في منتصف الطريق، فالصراع قائم وكان لزاماً على أهل الحق أن يأخذوا الأمر بكل جد، وأن يعدوا للأمر عدته حتى لا تكون فتنة، ويكون النصر للحق وأهله مهما علا الباطل وطال زمانه.

ثانياً: نماذج الصراع في القرآن الكريم:

إن المتدبر لكتاب الله -عز وجل- يلمس بجلاء أن القرآن قد ذكر نماذج كثيرة ومتعددة للصراع المحتدم بين الحق والباطل على مدار الحياة الإنسانية، وأن هذا الصراع قد أخذ أسباباً وصوراً متعددة، وقد كان الصراع سجالاً بين الحق والباطل، ولكن الحق ينتصر ويعلو في المشهد الأخير من هذا الصراع المحتدم.

ولسنا بصدد الاستطراد في ذكر نماذج هذا الصراع، فالمقام لا يتسع، وحسبنا أن نذكر نموذجين بالإشارة والتلميح لهذا الصراع بين الحق والباطل على مستوى الأفراد تارة، على مستوى الجماعات تارة أخرى، وذلك فيما يلي:

1- صراع ابني آدم -عليه السلام-: قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العالمين * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظالمين * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [المائدة: 26 – 29] تروي كتب التفسير: أن صراعاً نشأ بين ابني آدم -عليه السلام- لصُلْبه، نتيجة خلاف على جارية أرادها كل واحد منهما زوجة لنفسه، وقد بلغ الأمر بينهما مبلغه، فقربا قرباناً، فمن قبل الله قربانه حسم  هذا الصراع لصالحه، وكانت الجارية زوجاً له، فلما كان الأمر على غير ما يريد صاحب الباطل هاجت نفسه وقتل أخاه ليمضي إرادته.

تأتي هذه القصة كنموذج لطبيعة الشر والعدوان الصارخ الذي لا مبرر له سوى الحسد، والجري وراء حظ النفس بغير حق، صراع بين صاحب حق وصاحب باطل، أراد فيه الباطل أن ينتصر لنفسه ولو بجريمة نكراء يكون فيها اعتداء على حرمة الدم، وأي دم؟ إنه دم أخيه! كما ترسم الجريمة المنكرة التي يرتكبها الشر، والعدوان الصارخ الذي تشمئز منه النفس.

ومن الجانب الآخر في قصة الصراع تقدم لنا الآيات نموذجاً لطبيعة الخير والسماحة والطيبة والوداعة التي تجلت فيها رغبة المؤمن الصادق التقي الذي يستمسك بحقه، فلم يساوم على شرع الله، وفي ذات الوقت يقدم دمه طمعاً في تكفير الذنب، والنجاة من غضب الله، وينأى بنفسه أن يمس دم أخيه ولو كلفه ذلك الحياة، طمعاً بما عند الله -تعالى- من المغفرة والثواب، وتجنباً لصراع نصب الشيطان رايته، ويطمح في جني ثماره ليحقق غاياته الدنيئة.

2- الصراع بين موسى وفرعون: وردت قصة موسى -عليه السلام- مع فرعون في القرآن الكريم في أكثر من أربع وعشرين سورة، بعضها مفصل والآخر بشيء من الإجمال، وتمثل هذه القصة نموذجاً رائعاً للصراع بين الحق والباطل، بل هي النموذج الأكثر وضوحاً في صراع حق النبوة مع باطل الكفر والشرك.

الحق الذي جاء به موسى -عليه السلام-، والباطل الذي تجسد في جبروت فرعون، الذي أصبح مثلاً يضرب لكل صاحب باطل متكبر عنيد.

ومن عجيب حكمة الله -تعالى- أن موسى وبني إسرائيل كانوا مستعبدين لفرعون وقومه، وقد أرسله الله -تعالى- ليكون معلماً وداعياً وهادياً لفرعون وملئه، فقابلوا هذه الدعوة بالعلو والطغيان.

وقد كانت دعوة موسى -عليه السلام- تتركز على قضية أساسية هي عقيدة التوحيد، القائمة على أن للكون إله واحد هو الله رب العالمين، المتصرف فيه بحكمته، ولعل الآيات التي أخذ بها فرعون وقومه من القحط والجفاف والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، كانت تهدف بيان ضعف فرعون وعجزه عن دفع الشر أو جلب المنفعة له أو لقومه، لذا فقد كان القوم رغم وثنيتهم وخوفهم من فرعون يهرعون إلى موسى -عليه السلام- متوسلين له أن يدعو ربه لكشف البلاء، ومع ذلك فلم يزدهم كشف البلاء إلا عناداً وتكذيباً، وإصراراً على الكفر والشرك بالله.

وقد لاقى موسى وقومه أصنافاً من الأذى والعذاب على يد فرعون وملئه، قال تعالى على لسان بني إسرائيل: (قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف: 129]؛ فلما بلغ إيمان السحرة من القوة والثبات مبلغه، فوقفوا في وجه فرعون وصبروا على الصلب وقطع الأطراف، قال تعالى: (قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ) [الشعراء: 49 – 50].

واليقين المطلق برب العالمين، قال تعالى مخبراً عن يقينهم: (إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء: 51] فانتقم الله من فرعون وجنده فأغرقهم أجمعين، قال تعالى: (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) [القصص: 40].

واستخلف المؤمنين وأورثهم مشارق الأرض ومغاربها، قال تعالى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ) [الأعراف: 137].

وتمثل هذه القصة نموذجاً للصراع بين الحق متمثلاً بعقيدة التوحيد التي جاء بها موسى -عليه السلام-، والباطل ممثلاً بالكفر والإلحاد الذي تزعمه فرعون وقومه، استمر فترة من الزمان، وأخذ جانب الحجة والبرهان، والحوار والمناظرة والتحدي.

ولما تمادى الباطل وأمعن في المؤمنين وسامهم قتلاً وتعذيباً؛ قصم الله الباطل وجنده، وكانت نتيجة هذا الصراع نصر قريب للحق، بقدرة الله -تعالى- دون قتال أو لقاء عسكري.

وهكذا يحسم الإيمان القوي والعقيدة الصالحة المعركة مع الباطل: (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران: 126]؛ إنه النصر الذي وعد الله به الإيمان على الكفر، وإنها هزيمة الباطل الذي أصر على العداء للمؤمنين، فيتولى الحق -عز وجل- حسم هذا الصراع بهذه النتيجة التي يفرح بها المؤمنون بنصر الله، ويعتبر بها الناس أجمعون.

ثالثاً: عواقب الصراع في الدنيا والآخرة:

أي صراع بين متناقضين لا بد أن يحسم في نهايته لأحد الطرفين، والمتدبر والمراقب للصراع بين الكفر والإيمان يلمس الحقيقة الكبرى، التي لا تتغير ولا تتبدل في انتصار الحق على الباطل في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الفتح: 23]، ويأتي نصر الله لأهل الإيمان في الدنيا بأشكال ثلاث:

1- انتصار الحق على الباطل واندثار آثاره فترة من الزمان بجند الله الكونية، كما كانت نهاية قوم لوط ومدين وعاد وثمود وفرعون وقوم نوح، قال تعالى مذكراً بنهايتهم: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت: 40].

2- انتصار الحق على الباطل واندثار فترة من الزمان بجند الله من المرسلين وأتباعهم، كما كان الحال مع طالوت وجالوت، قال تعالى: (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: 251].

وكما هو الحال مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام، في معاركه مع قريش والتي توجت بفتح مكة وإخراجه لقبائل اليهود من جزيرة العرب، والفتوحات الإسلامية بعد وفاته التي أطلت على مشارق الأرض ومغاربها، وقضائه على أمم الشرك العظمى في زمان وجيز بمعايير قيام الأمم وبناء الحضارات.

3- انتصار الحق على الباطل بفناء أهل الحق دفاعاً عن دينهم وثباتهم عليه، وإن بدا هذا الحال للبعض بأنه هزيمة، لكنه النصر المؤكد لأهل الإيمان، حين ظفروا برضوان الله وجنانه، وبقيت آثارهم وسيرهم في الدنيا مثالاً للثبات على الدين والبذل والتضحية والفداء، وقد مثل أصحاب الأخدود هذه الحالة حيث قتل المؤمنون بالنار، فخلد الله ذكراهم، وبقيت قصتهم مثلاً يضرب على مر العصور لأهل الثبات على الدين.

أما انتصار أهل الإيمان على الباطل في الآخرة فلا حصر له، ولكن نكتفي بذكر بعض الأمثلة القرآنية الدالة:

1- قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى: 7]؛ فأهل الحق في الجنة وأهل الباطل في السعير.

2- قال تعالى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) [الحشر: 20]؛ فأهل الحق هم الفائزون بالجنان، وأهل الباطل هم الخاسرون وتصغيراً لشأنهم يدع مصيرهم دون ذكر وهو معروف، وكأنه ضائع لا يعني به التعبير.

3- قال تعالى: (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [السجدة: 18 – 20].

وفي هذا النوع من الصراع نلحظ أن كلا الفريقين يتحمل الألم والقرح والمشقة في هذا الصراع، وليس المؤمنون وحدهم، فأهل الباطل كذلك يتألمون وينالهم القرح والمصائب، ولكن شتان بين هؤلاء وهؤلاء، إن المؤمنين يتوجهون إلى الله بجهادهم، ويرتقبون عنده حسن الجزاء، قال تعالى: (وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء: 104].

وما من شك أن هذا المصير الأخروي يسهم في حسم الصراع بفوز الحق وأهله على الباطل وأهله، إذ ينعم أهل الحق بالجنة ونعيمها ويشقى أهل الباطل بالنار وجحيمها، وهذا الحسم يدركه كل من (لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق: 37].

أما من ختم الله على قلبه فقد لا يدرك هذا المصير ولا هذا الحسم إلا بعد أن يلقى المصير المؤلم يوم القيامة، يوم يقول: (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون: 99 – 100]، ولكن الأمر على غير ما يشتهي: (قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ) [الزخرف: 77].

(المصدر: موقع ملتقى الخطباء)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى