بقلم محمد الوشلي الحسني
منَّ الله علي في بواكير حياتي بأن حبّب إلي القراءة وطلب العلم، ثم أكرمني سبحانه بعدها بمجالسة كبار العلماء في وقتهم كسماحة الشيخ ابن باز والشيخ ابن جبرين، لكنها كانت جلسات غير منتظمة، وكنت أمني نفسي أن أجد عالمًا هو أكثر تفرغا منهما للتعليم، هكذا كنت أفكر ، ولست ادري ما الذي حداني لهذا التفكير.
وذات ليلة كنت أسامر بعض إخواني الدعاة وتناقشنا خلالها في أهمية التحصيل العلمي للمربين، واتفقنا ليلتها أن نتجه للعلماء لننهل منهم ما نحتاجه من العلم، اذ اعترفنا يومها أن هذا هو أحد وجوه التقصير لدى الدعاة الشباب.
فكان أن بدأت رحلة البحث…
وفِي هذه الأثناء عادت ذاكرتي الى ذلك الثناء العاطر الذي تداوله الناس عن شيخنا الشيخ صالح الفوزان وذلك في السنة التي ناقش فيها رسالته الدكتوراه، ربما في العام : 1399 هـ، وسمعت حينها أن الشيخ العلامة ابن حميد وجهه للفتيا، وعده من المؤهلين ، واستغرب تأخر مثله عن هذه المهمة ، لذلك اتجهت الى جامع الأمير متعب في الملز، لأتعرف على الشيخ، وأثني ركبتي بين يديه طلبا للعلم ، فصليت معه صلاة العشاء في مساء يوم جمعة، فكانت بداية الطلب عنده وذلك عام 1408هـ.
ليس هذا أوان الحديث عن قصتي مع شيخي الوالد صالح الفوزان ، اذ لها وقفة أخرى إن شاء الله ، لكنها كانت بداية التعرف على علماء آخرين وبناء علاقة خاصة ودائمة بهم، بعد أن كانت علاقة عامة، وكان لهذا أثر كبير في حياتي حمدت عاقبته لاحقا ولا أزال والحمدلله.
بعد عدة سنوات، طلبت من شيخي صالح الفوزان أن يحيلني الى عالم ألازمه اذا غاب، واتعلم منه معاني وأساليب أخرى في التعليم والتربية ، فأحالني الى شيخي الوالد الشيخ الفقيه صالح الأطرم، كان هذا في العام 1413هـ، وبمجرد أن تعرفت عليه رحمه الله ولازمته أسابيع بدا لي من خلال نقاشي معه أن عناية مشايخنا في نجد كانت متجهة الى التوحيد والفقه ، اذ أنه ألح علي أن تكون قراءتنا فيهما ، وذلك بعد عملية جرد لمجموعة من المتون والرسائل العلمية ، وأكد علي كثيرا العناية بهما، وقال إنهما أصل العلم ، وعليهما ينبني سائر العمل ، وبالعناية بهما على الوجه الصحيح تتعلق النجاة في الدنيا والآخرة.
رنت هذه الكلمات في وجداني، ووقعت مني موقعا عظيما، الا أنها أثارت تساؤلا جديدا، أليس التفسير والسيرة من العلوم المهمة؟، إذ كانا في وجهة نظري من العلوم المهمة، بل هما المكملان لذينك العلمين ، وبهما تكمل التربية وتنجح الدعوة ، فحاولت جاهدا أن أبحث عمن يعتني بهذين العلمين ، وزرت المشايخ المشهورين في مساجدهم، فلم أجد بغيتي إلا درسا ضمن مجموعة دروس لشيخنا الشيخ عبدالرحمن البراك حيث أعلن انه قد بدأ حينها درسا في تفسير ابن كثير، فلازمته فترة وجيزة تجاوزت الستة أشهر، ولم يكن يدور في خلدي أن علما آخر سيسبقهما إلى نفسي ويحوز قبلهما على اهتمامي.
ولا يزال هذا الاهتمام لا يفارقني ، وأتفحص بسببه إعلانات المساجد ، علني أجد ما أريد ، وفي أحد الأيام وأنا في طريقي الى درسي الأسبوعي الخاص لدى الشيخ الوالد صالح الأطرم رحمه الله إذ بإعلان صغير ينبه لدرس جديد للفرائض لشيخنا المتوفى الشيخ عبدالكريم اللاحم رحمه الله ، فكان أن عزمت على الحضور والانتظام فيه ، وكان هذا في بداية العام 1413هـ.
حضرت الدرس الأول له الذي كان مغرب الأحد في جامع الغزي في حي السلام ، قريبا من الجامع الذي كان يصلي فيه شيخنا الشيخ صالح الأطرم رحمه الله ، حيث كانا كلاهما يسكنان في ذات الحي – حي السلام.
كنّا خمسة فقط ، وكان الشيخ بسيطا في جلسته ، مهيبا في هيئته، قليل الكلام ، سهل العبارة ، الا أن العلم الذي قررت أن أخوض غماره علم جديد بالنسبة لي، ولم يسبق أن قرأت فيه ، وليس من العلوم التي يتحدث عنها الناس ، أو يتناولونه في مجالسهم ، وإذا ذكر فإنما يذكر كجبل قل أن يتجرأ أحد على صعوده ، لكن تحديا غامرا انتابني لاقتحامه ، وأن من درس الهندسة لن يعجزه هذا العلم الشريف مهما قيل عن صعوبته ، فكان التحدي عارما، وكانت تلك هي البداية لرحلة علمية وتربوية وأبوية عظيمة الفائدة، دامت لأكثر من 24 سنة ، لم أتخلف عن الشيخ إلا نادرا، ولم يعتذر عن جلستنا إلا نادرا، بل كان ينتظرني بشوق ينافس شوقي إليه ..
صحيح أنها ليست المرة الأولى التي أتعرف فيها على شيخنا الكريم الشيخ عبدالكريم رحمه الله، فقد كنت أذهب إليه حين كان عميدا لكلية أصول الدين، وأنا حينئذ طالب في كلية الهندسة ، كنت أستأذنه في مشاركة مشايخ من الكلية في نشاطات طلابية تقيمها جامعة الملك سعود، لكنها كانت علاقة طالب بمسؤول إداري لا أكثر، ولذا فإنه لا يتذكرها لكثرة الداخل عليه من أمثالي..
هذا الشيخ الفقيه الوقور رحمه الله لا يعرفه الكثيرون ، أو لا يعرفه إلا خواص طلبة العلم ، أو المعتنون بالفرائض على وجه الخصوص ، إذ كان فارس هذا العلم وربان سفينته ، وإذا ذكر اسمه لا يذكر إلا مقرونا به ، إذ كان يسميه كثير من العلماء وطلبة العلم بالإمام الفرضي و إمام الفرائض ..
حين حضرت أول درس في الفرائض عنده في مسجد الغزي، بدا لي أنه اول درس عام له ، كنّا خمسة كما قلت، فما إن بدأنا في حساب الفرائض حتى غاب اثنان منهم ، وحين وصلنا تصحيح قسمة المسائل غاب الثالث ، فلما بدأنا في المناسخات غاب الرابع ، فبقيت وإياه وحدنا خائفا من التوقف ، فإذا هو رحمه الله يوصيني بالصبر وأن العلم يحتاج الى احتمال واستمرار، إلى أن انتهينا من مادة هذا العلم الشريف فلما تم ذلك قال لي بتواضع “نحن اليوم أصبحنا زملاء وسننتقل إلى البيت”.
نعم انتقلت معه إلى بيته العامر ، فكان يعاملني كأحد أبنائه وكنت أعامله كوالد ، واستمر لقائي به أكثر من عقدين ، لا يحول بيني وبينه إلا سفر أو مرض أو نحو ذلك.
هذه العبارة منه – أصبحنا زملاء – هي بداية العلاقة بين التلميذ وشيخه ثم تطورت هذه العلاقة وتعمقت حتى كنّا نتحدث في أمور عامة وخاصة ، وكان يخصني بأمور يقسم انه لم يحدث بها غيري رحمه الله.
دار الزمان ومضت سنون لا ننقطع الا في شهر رمضان المبارك وفِي إجازات الأعياد حيث كان يقضيها في القصيم او في القُصَيم كما يحلو له أن يسميها أحيانا، وعلى غير العادة فقد طال غيابه هذه المرة بسبب طول إجازة العيد، وحين بدأ الدوام ذهبت الى منزله على الموعد كالمعتاد كان ذلك يوم الأحد قبل الماضي 15-10، أي بعد انقضاء الإجازة مباشرة ، فوجدت البيت مظلما فاتصلت به فأجابني بصوت مبحوح ، لكنه كان كالمعتاد ممتلئا ثقة ويقينا :”حنا في القصيم ما بعد جينا الرياض”.
بعد نحو ستة ايّام من تلك المكالمة فاجأني خبر وفاته وانا المنتظر للقائه بالرغم من علمي بحالته ومتابعتي لوضعه واحساسي بمعاناته لا سيما ضيق التنفس الذي أعاق حركته الا ان المحب يتمنى لو لم يفقد من يحب ، لكنها سنة الله في الخلق ولا راد لقضائه ﷻ .
كان والدنا الشيخ قليل الشكوى صابرا محتسبا بالرغم من شدة معاناته لا سيما في الشهور الأخيرة خصوصا من ضيق التنفس كما ذكرت ، الذي حال بينه وبين الصلاة في المسجد اذ كان هذا من أكثر ما يحزنه..
وايضا كان حريصا على إنجاز مشروعه العلمي الفذ: “المطلع على دقائق زاد المستقنع”، ويسعى مع معاناته الى إنهائه حيث كان يشعر بأهميته لمنهجيته المميزة فيه ، ولما بدا له من حرص الناس على اقتنائه ، وقد كنت وإياه يوما ما في زيارة لشيخنا الشيخ صالح الفوزان حفظه الله الى بيته اذ كان يجمع بينهما علاقة وود منذ الصغر، فهما من قبيلة واحدة، وبلد واحد، فضلا عن الزمالة العلمية والإدارية وإذا بشيخنا الشيخ صالح يسأل عن هذا المشروع ، وما الذي بقي منه وكان يحثه على إنجازه ، والحمدلله أنه تم لهما ما أرادا فأنجزه شيخنا قبل وفاته بأيام رحمه الله ، وأعان أبناءه ومحبيه على سرعة نشر ما لم ينشر منه، برا به ، وخدمة للعلم وأهله.
كان للشيخ أسلوبه الخاص في التعليم والتأليف كما أشرت، يعتمد على سبر المسألة ، ومن ثم تقسيمها الى أجزاء صغيرة، وكان بعضهم يرى هذا عيبا ، الا أنه رحمه الله يعده أهم ركائز التأليف والتعليم معا؛ لأنه يسهل العلم، ويقربه لطلابه، ويقوي ملكة الفهم عندهم ، وكان رحمه الله يفتخر بهذا الأسلوب المميز، ويبتسم اذا سمع من يتكلم عنه سلبا او إيجابا ، ولكنه لا يزيده الا قناعة به والأمر كما قال رحمه الله.
فلا يعرف لذة هذا الأسلوب إلا من عرف الشيخ وعرف طريقته ومتع ذهنه به، فهو أسلوب يجمع بين العمق والسهولة والفائدة، اذ يحفز على سرعة الفهم وتصور المسألة على وجهها الصحيح فضلا عن تصور مأخذها من الدليل ومن يترتب عليها من الفوائد والأحكام.
ولعل الله أن يسخر أحد طلابه ، الذين عرفوا هذا الأسلوب منه ، وامتلؤوا به؛ ليكتبوا عن ملامحه ومميزاته ليفيد منه الناس ، وأرشح الصديق العزيز والأخ النبيل فضيلة الشيخ د عبدالله بن وكيل الشيخ للكتابة في هذا الموضوع المهم ، فهو من البر به، وفقه الله لكل خير.
كان الشيخ يحدثني كثيرا عن مشايخه الذين تأثر بهم ، وعلى رأس هؤلاء جميعا سماحة العلامة الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله ، ويذكر عنه لطائف ونكات ، وكان يكرر انه أي الشيخ ابن حميد “لزّم” عليه اول ما لازمه ان تكون قراءته عليه في تنوير الحوالك مع أنه كان يرجو خلاف هذا، كما يتذكر زملاءه في المعهد، وفِي كلية الشريعة ، وزملاءه في التدريس والعمل، يتذكرهم بالبر والوفاء والذكر الحسن، وله ذكريات مليئة بالدروس والتجارب المفيدة.
والشيخ رحمه يذكر طلابه المميزين لا سيما أولئك الذين أشرف على رسائلهم العلمية، واستوعبوا منهجه وطريقته في البحث سريعا
، وكان يشيد بتلامذته من القضاة ، ويعد القضاء مهمة شريفة تمنح صاحبها عمقا في الفهم وغورا في مسائل العلم ورأيا سديدا في ما يجد من أمور، وعقلا كبيرا.
وللشيخ دور لن ينسى ، وجهود لن تمحى في تطوير عمل دوائر الاستئناف في ديوان المظالم الذي عمل فيه لسنوات بعد أن انتقل اليه من المعهد العالي للقضاء.
كان الشيخ رحمه الله قوي الذاكرة لا يكاد ينسى ما يتحدث به الناس بين يديه ، وان ظن المتحدث انه غير مبال بما يقول، ولذا طالما ذكرني بمواقف وقصص وذكريات حدثته عنها ربما نسيت شيئا منها ، وانا الذي أزعم انني قوي الذاكرة شديد الحفظ.
وعلى كل حال فقد كان شيخنا ووالدنا رحمه الله عالما مميزا وفقيها فريدا يتمتع بحدة الذكاء وسرعة البديهة لا تعجزه العبارة ولا يتلعثم في الرد ولا يتردد في الجواب، أما في علم الفرائض الذي هو ميدانه فشيء لا يمكن وصفه، اذ يقف المرء منبهرا أمام استيعابه له وتصوره لمسائله وغوره في دقائقه ، وهو في قسمة مسائلة كأنه حاسوب آلي في أحدث وأرقى مواصفاته.
وهو فِي جوانبه الأخرى قدوة عظيم على قدر كبير من الورع والزهادة ، لا يرى لنفسه قدرا او مكانة من شدة تواضعه وغمطه لنفسه ، عف اللسان، شديد الغيرة ، يسكب الدمع سريعا حين يسمع عن شيء من محارم الله تُستباح ، او مكانة للعلم واهله تنتهك ، يدافع عنهم وعن مؤسساتهم الدينية والقضائية وغيرها دفاعا شديدا ، ويتألم حين يبلغ سمعه كلمات من أغرار وسفهاء هنا أو هناك ، ينتقصون فيها من قدر العلماء أو أهل الدعوة والحسبة ، ويصف هؤلاء بالجهل والحماقة ، وأحيانا بما هو أعظم من ذلك، وحين كان يسمع شيئا من هذا القبيل، ويظن أن لا حيلة أمام أهل العلم في تغييره وإزالته يصدع بعبارته التي طالما سمعتها منه تخرج من صدر مجروح:”لها مدبر ما يخليها”.
كما أن حدة ذهنه وقوة ذكائه وجمعه بين العلم والإدارة والقضاء والتجربة الطويلة كل ذلك جعل منه صاحب رأي عميق وحكمة بليغة في كل ما يعرض عليه من حوادث الشأن العام او الخاص، أيا كان الأمر ، ولم يكن رحمه الله يحتاج الى وقت طويل لإدارة ذهنه فيه، بل يبديه لملقيه لأول وهلة ، حتى إن المرء ليعجب من هذا التدفق وهذا السداد، وما ذلك الا من توفيق الله له ومنة الله عليه رحمه الله.
ولعل الله أن يعين أبناءه وتلامذته على أداء بعض حق شيخنا علينا جميعا، فيدونون فوائده العلمية ودروسه التربوية وحكمه الدعوية وأراءه السديدة لا سيما في الحوادث والنوازل على اختلاف أنواعها، فقد تعلمنا الكثير الكثير من هذا الحبر الكبير.
هذه كلمات عجلى في تأبين شيخنا غفر الله له ، كتبتها أول ما راعني خبر وفاته ، من باب الوفاء لحقه الكبير ، وحقه أكبر من أن يوفى ، فله منا الدعاء الجزيل والذكر الجميل.
رحم الله شيخنا وتغمده بواسع رحمته وأسكنه عليين وأنزله مقاما عليا في الجنة، وأحسن لأهله وأولاده العزاء وتلامذته ومحبيه وألهمهم الصبر والسلوان ، وأخلف علينا وعليهم إنه جواد كريم، والحمدلله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه اجمعين.
تلميذه الداعي له : ابوعبدالرحمن محمد بن علي الوشلي الحسني
(المصدر: الإسلام اليوم)