بقلم الحسين مهداوي
لم تكن مهمة المتفقه في أحكام الشريعة من الأمور السهلة التي يستطيع أن يحصل الملكة فيها كل من أراد ذلك، إذ أن الإرادة في بلوغ الحقائق الدينية لا تكفي، بل لابد لذلك من تحقق المتفقه بأمور سابقة على امتلاك ملكة التفقه، ولعل أهم هذه الأمور ما جعله القرءان الكريم رأس الأمر كله، وأساسه الذي تقوم عليه، وهو فضيلة التقوى التي لا تعدو أن تكون في حقيقتها الشرعية: تخلق بالأحكام الشرعية بما يحيطها من أوامر ونواه، وتحقق بالخطط المرعية التي تضبط سلوك الإنسان المسلم مما قرره الشرع من الآداب والأخلاق.
والمتدبر في آيات التقوى يجدها أمرا ضروريا في حصول التفقه في الدين، ليس باعتباره ألفاظا ومصطلحات تحفظ ويعاد تكرارها، وإنما يقصد به التفقه الذي يجعل المتفقه مدركا لحقيقة الأحكام الشرعية وقيمتها في الوجود، قال الله تعالى: ” وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”]البقرة: 282[، وقال تعالى: ” إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا “]الأنفال :29[، فتحصل لنا من هذه الآيات أن التقوى شديدة الصلة بتحقيق مهمة التفقه على وجه الكمال، كأننا ننظر في الإنسان على أنه وعاء للعلوم وعلى أن فضيلة التقوى هي المطهرة له، فبقدر طهارة الوعاء بقدر صلاحيته لحمل العلوم والتحقق بها صفة راسخة في النفس، وهو معنى تحقيق ملكة التفقه.
لقد جعل الإسلام التفقه في الدين عين الحكمة النبوية التي جاءت في الأثر، وأكدت عليها آيات الذكر الحكيم، قال صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما “اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل”]متفق عليه[وقال أيضا: ” من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين”]متفق عليه [، فالفقه بالمعنى النبوي يأخذ في معاني تحققه جانبي الفهم والتنزيل، ولا يتم المعنى إلا بحصولها وصحتهما، فهو بهذا فهم للشريعة وتفعيلها في جميع مجالات الحياة وفق مراد الشارع، والفقه في الدين على مستوى الفهم وتفعيل أحكامها هو عين الحكمة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: ” هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ” ]سورة الجمعة: 2[وقوله عز وجل: ” يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا”]البقرة : 269[، فوصف الفقه بالخير في السنة البيانية يجعلنا نجزم بكونه الحكمة القرءانية التي وصفت بالخيرية، واعتبارها أعلى مقامات التفقه، إذ الشيء لا يمدح في القرءان إلا إذا كان رفيع الشأن عظيم النزلة بالغ الأثر من حيث تحقق وجود الأمة، وأيضا من حيث بقاء أثره في عالم الآخرة أجراً وتوابا.
اختلفت معاني الفقه والتفقه في حياة الأمة وفق اختلاف عصورها وتعاقب أجيالها، فبعد أن كان الفقه ذا نطاق واسع يشمل أمر الدنيا والآخرة، متعلق بأهداب التزكية وما يسمو بالنفس ويرفع مقامها تزكية وتطهيرا، انحصر معناه ليصبح منطبقا على فروع الشريعة وحفظ فتاوي الأحكام، دون امتلاك قواعد النظر واتقان مسالك الاستنباط وضوابط الاجتهاد في فقه الواقع، وقد كان لهذا التحول أثر بالغ على شخصية المتفقه في الدين، في علاقته بالدين وأحكامه من جهة، وما يطلبه منه الشارع من مسؤوليات وجبة اتجاه أمته من جهة أخرى، فصار الفقيه بين أمرين:
الأمر الأول: حفظ مقام البيان الديني، الذي يجعل الدين بأحكامه ونظمه وتشريعاته يسري في جميع كيان الأمة ويدب الحياة فيها، إذ الحفظ البياني موكل بعلماء الأمة، ينفون به تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وهو عين تحقيق الوراثة النبوية.
الأمر الثاني: مراعاة مصلحة الأمة ووحدة أفرادتها وفقه واقعها، والثبات على العهد الذي أخذه الله على العلماء في الذود عن حياض الشريعة وحفظ بيضة الأمة، والوقوف مع الحق ودفع الباطل والتصدي له، إذ الباطل سريع الزوال، ما قام الحق في النفوس وارتاضته العقول، فكانت مهمة الفقيه أن يأخذ حظه من فقه الدين بما أخذ به أهل القرون الأولى ويرتقي فيه قولا وعملا، قال مالك بن أنس: ” لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”.] الشفا لأبي الفضل عياض اليحصبي، ص: 108/2[
فأنت ترى كيف تطور هذا المفهوم ليصبح خاصا بالفروع والجزئيات التي لا حصر لها، ولا تستقيم في كل حال أمام تغيرات الواقع واحتياجاته إلى أحكام خاصة تجيب عن كل الأحداث والوقائع الجديدة، وإن تغير هذا المعنى الخاص بالتفقه كان له أثر أيضا في تغير عقلية الفقيه وانعزالها عن أداء مهام متعددة، كان لها أثر قوي في نهضة الأمة وتحقيق شهودها الحضاري، فصار الفقيه لا هم له إلا ضبط الجزئيات وحصر انتشارها، مع العلم أن هذه العملية لا تستقيم لأحد، لتضاد الانحصار مع خاصية الانتشار في الفقه، أقصد انتشار فروع الفقه وجزئيات الأحكام وتغيرها.
وإذا كان معنى الفقه خاص بالفهم الدقيق للأشياء، فإن هذا الفهم والدقة لا يحصلان إلا بتكلف الجهد والجد في حصولهما، ولذلك كانت صفة التفعل للتفقه تأتي لما فيه تكلف وعناء في حصوله وليس بالسهولة كما قد يظنه الكثير من طلبة الفقه في الدين، فالتفقه إذاً حصول تكلف ومشقة وجد وجهد في امتلاك الفقه على أصوله وقواعد المتينة، وقد كانت هذه المعاني حاضرة في القرون الأولى بما يؤهل الطالب لهذا العلم إدراك قيمته ومكانته في قلب الأمة ومركزيته في تنظيم حياة المسلمين، فانتهضوا بذلك ليتحملوا الأعباء عن الأمة من قيام بمهام البيان والتبليغ على أحسن وجه، مسايرين لكل ما ينزل بالأمة من ملمات، باحثين عن حكمها في نصوص الوحي وما اتفق عليه العلماء من قواعد ومسالك تعين على بيان مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
إن تغير معاني التفقه أوجد في الأمة صنفين من الفقهاء، كل ومميزات عقليته ومشاربه التي سلكها في تكوينه الفقهي، وطريقة تعامله مع قضايا الأمة ونظرته إلى علومها.
فأما الصنف الأول: فقد أحكم التفقه في دين الله تعالى، وأخذ معاقد القواعد من أصولها، واقتفى طريق سلف الأمة في نظرتهم إلى الحوادث والنوازل، متمسكين في ذلك كله بكتاب الله وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ومستعينين بالضوابط والقواعد التي قعدها العلماء من لدن فقهاء الصحابة إلى زمننا، آخذين هم رفعة الدين وعلو شأن المسلمين في أعلى مقام أولوياتهم، فكان لهذا المهيع الذي اختاروه أثره في حفظ الأمة والتزام أفرادها بأحكام الدين وتعاليم شريعة رب العالمين، فإذا ما نزلت بهم الملمات وتكالبت عليهم الفتن، وجدوا في هذا الصنف معاني الثبات واتباع الحق والقيام بالعدل والشهادة لله.
أما الصنف الثاني: فقد سلك طريقا مخالفا في أصله لما قام عليه معنى التفقه في الدين عند سلف الأمة، فلم يكن عندهم مراعاة أحكام الشريعة إلا بقدرما يتوافق مع شهواتهم ونوازعهم، فتجدهم يحملون الآيات على غير وجهها، ويستدلون بالأحاديث رغم ضعفها، ويتزلفون للظلمة بما يزين لهم الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل، فغاب في منهجهم أمانة البيان ومهمة التبليغ، فكانوا شر وبال أصاب الأمة بعد انتقال نبيها إلى الرفيق الأعلى، وتتجلى خطورة هذا الصنف في تلبسهم بمظاهر الدين والالتزام الصحيح في تدينهم، مما يجعل الناس يحسنون الظن بهم، والوثوق في اختيارهم، فيترتب على ذلك ضمور حقائق الدين، وفساد أمر المسلمين، وابتعادهم عن الصراط المستقيم الموصل إلى رضا رب العالمين.
لقد أصبح التفقه في الدين من أهم أولويات الأمة في هذا العصر، تفقه يحفظ هيبة نصوص الشريعة ويمنع عنها التأويلات الفاسدة، ويراعي متطلبات الواقع ومتغيراته، إذ لا يمكن لعقل الفقيه أن يكون حبيس عصور تختلف عنه زمانا وبيئة، فوحدة أصول الشريعة تغني عن الالتزام بأعراف متغيرة وعادات لم يعد لها قيما في العصر الحاضر، لذلك كان العلماء يرون أن الإفتاء بالعرف الذي يخالف بلد المستفتي مزلة في الفقه وفساد في العقل، يترتب عليه حرج ومشقة وضياع للدين، إن التفقه الصحيح هو الذي يكسب الأمة قوتها ويبث الوعي بضرورة العمل على رفعتها بين عموم أفرادها، ويعين الفقيه على بيان مقاصد الشريعة الذي جاءت الشريعة مؤكدة عليها وداعية إلى حفظ أصول ديمومتها في الأمة، ومقاصد الشريعة أن تحفظ على الناس دينهم وأنفسهم وعقولهم وأمولهم وأعراضهم، فكل ما يحقق هذه المقاصد واجب حفظه والعمل على بقائه، وهذا لا يتم إلا ببيان المسالك الصحيحةللتفقه في الدين، وبناء عقل الفقيه الأمين على إرث النبوة، القائم على رعاية مصالح الأمة ونشر علومها في مجموع أفرادها.
(المصدر: مركز نماء للبحوث والدراسات)