مقالاتمقالات مختارة

العالم والسلطان (3)

بقلم عمرو بسيوني – مدونات الجزيرة
(من المعلوم: أن علماء السنة كمالك وأحمد وغيرهما = من أبعد الناس عن مداهنة الملوك أو مقاربتهم). ابن تيمية.
(1)
استعرضنا في المقال السابق، على عجالة؛ الموقف الأساس للمانعين من الدخول على السلاطين من علماء السلف في التيار السني الواسع. ونستكمل في ذلك المقال؛ فلسفة ذلك المنع، وملاحظاته الدقيقة العلمية والعملية التي أفضت به إلى التشديد في المنع من الدخول على الحكام والقرب منهم، ولو بغرض النصيحة والترشيد، وكذلك تولّي القضاء والأحكام لهم.

(2)
إن فلسفة المنع واضحة جدًّا، وصحيحة بصورة واقعية تكاد تبلغ نسبتها ما يقال معه: إن النادر لا حكم له، أو هو مما يؤكد الأصل. وتلك الفلسفة تنمّ عن عمق وواقعية شديدة في نظر هؤلاء العلماء، وكذلك عن تدبر في الواقع والتجارب. فعلماء هذا الاتجاه ليسوا غافلين عن أن مِن الداخلين على الحكام من تكون نيتهم النصح والإرشاد، ولمقاصد كثيرة حسنة، ويطمعون أن ينصلح على أيديهم الأمر العظيم، فإنه إن انصلح أمر الحاكم؛ ترتب خير عام، والله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، كما قال عثمان رضي الله عنه. ولذلك جاء عن سفيان الثوري التحذير من ذلك القصد: «إياك والأمراء والدنو منهم وأن تخالطهم في شيء من الأشياء، وإياك أن تُخدع فيقال لك: تشفع فترد عن مظلوم، أو مظلمة؛ فإن تلك خدعة إبليس، وإنما اتخذها فُجّار القرّاء سُلَّمًا». فمجرد الدافع الحسن، لا يعصم صاحبه من ضعفه البشري، الذي يبقى عاريًا أمام عديد من عوامل الإضعاف والإغراء، بوعي أو دون وعي.

(3)
فتتعدد تلك العوامل المُضعِفة للعالم حين دخوله على السلطان الجائر ما بين: الخوف من ظلم الحاكم وبطشه، وبين إكرامه للعالِم، والإنسان أسير الإحسان، سواء رافق ذلك مساومة صريحة على الحق، أم لا. وهذا جميعه يرجع على مقصود الدخول بالإبطال، فيضعف عن مصارحة الحاكم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل والأدهى أنه قد ينجرف في تسويل باطله له وتسويغه إياه، بل وتحسينه للعامة.
يقول الفضيل بن عياض: «كم من عالم يدخل على الملك ومعه دينه، ويخرج وليس معه منه شيء، فلا جعل الله مصيبتنا في ديننا»، فقلنا: وكيف ذاك؟ قال: «يصدقه في كذبه، ويمدحه في وجهه».

فالفتنة الحاصلة بالدخول عليهم أنه قد يضعف، ولو بالباعث الإنساني؛ عن قول الحق. وقد سبق تصريح أحمد بأن الدخول عليهم والدنو منهم فتنة، لما نقلنا عنه سابقا أنه يجب إن رآهم أن يأمرهم وينهاهم. وهو نفسه يصرح لأحد تلاميذه: «قد قال خالك، يعني ابن المبارك: لا تأتهم، فإن أتيتهم فاصدقهم، وأنا أخاف ألّا أصدقهم!».

يقول ابن رجب: «وسبب هذا ما يُخشى من فتنة الدخول عليهم؛ فإن النفس قد تخيل للإنسان إذا كان بعيداً عنهم أنه يأمرهم وينهاهم ويغلظ عليهم؛ فإذا شاهدهم قريباً مالت النفس إليهم؛ لأن محبة الشرف كامنة في النفس له، ولذلك يداهنهم ويلاطفهم، وربما مال إليهم وأحبهم، ولا سيما إن لاطفوه وأكرموه، وقَبِل ذلك منهم».

ويقول ابن الجوزي ممثًلا حالات الضعف وموانع النصيحة الصادقة في الدخول على السلاطين: «الدخول عَلَى السلاطين خطر عظيم؛ لأن النية قد تحسن في أول الدخول ثم تتغير بإكرامهم وإنعامهم، أو بالطمع فيهم، ولا يتماسك عَنْ مداهنتهم وترك الإنكار عليهم، وقد كان سفيان الثوري -رَضِيَ اللَّهُ عنه- يَقُول: ((مَا أخاف من إهانتهم لي إنما أخاف من إكرامهم فيميل قلبي إليهم))، وَقَدْ كان علماء السلف يبعدون عَن الأمراء لما يظهر من جورهم».

(4)
يجسّد سفيان الثوري تلك الحالة من التغيّر النفسي المانع من الصدق بالحق؛ في الدخول على السلطان والوقوع في حبائل إكرامه، بدءًا من مجرد تحسين الكلام وما قد يظهره السلطان من التعظيم الظاهري للعالم، وصولًا إلى الإكرام بالعطاء ونحوه. يقول الثوري: «إني لألقى الرجل أبغضه، فيقول: كيف أصبحت؟ فيلين له قلبي، فكيف بمن آكل طعامهم؟!».

وفي سياق آخر لسفيان لثوري، وقد قال حمّاد بن زيد له لمَّا هرب من أبي جعفر المنصور إلى البصرة: «لو أتيت هؤلاء، فأمرتهم ونهيتهم، أليس كان أعظم لأجرك؟»؛ فقال له: «إنهم أرادوا قهري فكرهت أن أذل لهم». فسئل ابن المبارك عن معنى ذلك، فقال: «إن سفيان كان يقول: إن هؤلاء قد أوتوا من الدنيا ما ترى، فإذا دخلت عليهم فرأيت برا من هاهنا، ولطفا من هاهنا، وتكرمة من هاهنا، ووسادة من هاهنا، ومرفقة من هاهنا، فأي قلب يحمل هذا لا يميل إليهم؟!».

وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية، يقدم مثالًا عمليًّا، نادرًا في الصدع بالحق، يكاد يندر القياس عليه؛ لما دخل على قازان، الملك التتري المظهر للإسلام، لما زحف على الشام ليستولي عليه من يد الممالك؛ فدخل عليه الشيخ مع جماعة من الفقهاء والمشايخ والقضاة لنصحه بالانصراف عن الشام وألا يقتل المسلمين وهو يزعم أنه مسلم! فيحكي الشيخ أبو بكر البالسي – أحد الحضور -، كما ينقل الحافظ ابن كثير: «ولما حضروا مجلس قازان؛ قدّم لهم الطعام، فأكل منه الجميع إلا ابن تيمية. فقيل له: لماذا لا تأكل؟، فقال: كيف آكل من طعامك وكله مما نهبتم من أغنام الناس وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس؟».

«وطلب منه قازان الدعاء له، فقال في دعائه: اللهم إن كنت تعلم أنه إنما قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وجاهد في سبيلك؛ فأن تؤيده وتنصره، وإن كان للملك والدنيا والتكاثر؛ فأن تفعل به وتصنع».
«قال – يعني البالسي -: وقازان يؤمّن على دعائه ويرفع يديه، قال: فجعلنا نجمع ثيابنا خوفًا من أن تتلوث بدمه إذا أمر بقتله! قال: فلما خرجنا من عنده؛ قال له قاضي القضاة نجم الدين ابن صصرى وغيره: كدتَ أن تهلكنا وتهلك نفسك! والله لا نصحبك من هنا!، فقال: وأنا والله لا أصحبكم».

(5)
ثم هنا نقطة أخرى أدق، وهي أن بذل النصيحة، ولو باللقاء مع الحاكم، سواء أكان عرضًا من غير ترتيب، كما وقع لغير واحد من السلف حتى المانعين منهم من الدخول، أو كان مقصودًا لاجتهادٍ ما من الناصح ومراقبته لله وخشيته دون قصد أو طمع أو غرض= كل ذلك لا يستلزم، بلا لا ينبغي معه: أن تكون مداخلة ومخالطة ومصاحبة مع السلطان الجائر. فهذا نوعٌ مزيدٌ من العلاقة؛ ممنوع، ليس من مجال البحث في حكم الدخول (المجرد) على السلطان الجائر للنصيحة أصلًا عند العلماء.
يشير الإمام عبد الله بن المبارك، والفضيل بن عياض، كلاهما إلى ذلك المعنى، من التفريق الفقاهي الدقيق، النامّ عن بُعد الغور والفقه والورع؛ بكلام قريب: «ليس الآمر الناهي الذي يدخل عليهم ويأمرهم وينهاهم، ثم يدعونه إلى طعامهم وشرابهم فيجيبهم، الآمر الناهي الذي اعتزلهم ولم يدخل عليهم، فهو الآمر الناهي».

(6)

كما أن لذلك الدخول على الحكام عاملًا سلبيًّا من الجهة الأخرى، أي جهة الحاكم نفسه. وذلك من زاويتين: الأولى: أن الحاكم الجائر لا يقدم إكرامًا للعالم إلا بانتظار مقابل أو توقعه. والسبب في ذلك واضح، وهو أن العالم الصادع غير المحابي؛ مضادّ لرغبة الحاكم الجائر في الظلم الديني أو الدنيوي، فليس ثمة معنى معقول لإكرامه العالم إلا الحصول على مقابل، سواء أكان واضحًا صريحًا بالتأييد والتسويغ، أو ضمنيًّا بمجرد الالتصاق بالعالم والتترس به، وأن الحاكم المكرم للعلماء لابد وأنه حاصل على تأييدهم أو على الأقل محب للدين لا يجترئ على الظلم إلا وله فيه دافع وتأويل. والثانية: أن السلطان إذا اجتذب العلماء، فأجابوه وقبلوا منه؛ فإن هذا يدعم توقع الحاكم أن العلماء يمكن استمالتهم والحصول منهم على ما يريد، وهذا يوهنهم في عينه، ولا يجعل لهم وزنًا في حساباته في الإقدام والإحجام في سياساته اللاحقة، وهذه مفسدة عظيمة ترفع عن كاهله عوامل الضغط التي تقوم بها جماعات مختلفة أهمها العلماء والعسكر.

يقول عمر بن عبد العزيز: «إنما السلطان سوق، فما نفق عنده ارتجي به، أو فمن نفق عنده أتاه، أو كما قال». ويقول التاج السبكي محللًا ذلك الواقع: «فكم رأينا فقيهًا تردد إلى أبواب الملوك؛ فذهب فقهه، ونسي ما كان يعلمه. وأدى إلى فساد عقيدة الأمراء في العلماء؛ فإنهم يستحقرون المتردد عليهم. ولا يزالون يعظمون الفقيه؛ حتى يسألهم في حوائجه».

(7)
فلا بد إذن من نوع من أنواع الانعزال الشعوري والنفسي والسياقي بين العالم والسلطان: حتى لا يثقل العالم ظهرَه بعبء يخرجه عن نزاهته العلمية المفترضة، ثم هو في غنى عنه، وليس بلازم له حتى مع التوجه إلى النصح والإرشاد فيما يتعلق بالحاكم، فإن خسارته أعظم مما يربحه في الغالب. أو كما يقول ابن الجوزي: «ولا تلتفت -يا هذا- إلى ما ترى من بذل العلماء على أبواب السلاطين؛ فإن العزلة أصون للعالم والعلم، وما يخسره العلماء في ذلك أضعاف ما يربحونه».

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى