بقلم محمد إلهامي – مدونات الجزيرة
لقد ذكرنا في مقاليْن سابقين كيف كانت الفتوحات الإسلامية معجزة تاريخية مخالفة لما جرت عليه العادة التاريخية في فتوحات الأمم، وأن من أهم ما تميزت به الفتوحات هو كونها سريعة راسخة، فقد اكتسحت الأراضي بسرعة ثم رسخت فيها بعمق.
ولهذا ما يكاد المؤرخون يسجلون هذه الفتوحات إلا وتغلبهم الدهشة من تلك السيرة، وهكذا انتشر بينهم العجب حتى ليشعر المرء أحيانا أنهم يتفننون في وصفهم للفتوحات الإسلامية ليأتوا في وصفها بما لم يقله غيرهم:
فيصفها الفيلسوف الشهير برتراند رسل[1] بأنها خارقة لكل مألوف فيقول: “يبدأ العصر الإسلامي بالهجرة، سنة 622م، ومات محمد [صلى الله عليه وسلم] بعدها بعشر سنوات؛ فبدأت الفتوحات العربية بعد موته مباشرة، وسارت بسرعة خارقة لكل مألوف”[2].
ويصفها مؤرخ الفلسفة إميل برهييه[3] بأنها أمرٌ صاعقٌ، يقول: “تحددت مصائر الغرب في العصر الوسيط جزئيا بالفتح العربي الذي امتد من الهند إلى إسبانيا وتقدَّم وصولا إلى جنوبي إيطاليا والجزر اليونانية ليقيم ما يشبه الحاجز بين أوروبا وآسيا؛ وليس يجهل أحد كيف انبسطت في قرن واحد (ابتداء من سنة 635) هيمنة العرب على نحو صاعق، فلم تتوقف، وقد خارت قواها المتقدمة إلا عند أبواب بواتييه [شمال فرنسا] سنة 732 والتركستان الصيني سنة 751. وقد حمل العرب معهم لغة وديانة صارتا منذئذ لغة وديانة لأصقاع شاسعة”[4].
ويصفها الباحث الأمريكي مايكل هارت بأنها “أعظم غزوات عرفتها البشرية”، يقول: “استطاعت جيوش المسلمين الصغيرة المؤمنة أن تقوم بأعظم غزوات عرفتها البشرية، فاتسعت الأرض تحت أقدام المسلمين من شمالي شبه الجزيرة العربية وشملت الإمبراطورية الفارسية على عهد الساسانيين وإلى الشمال الغربي واكتسحت بيزنطة والإمبراطورية الرومانية الشرقية. وكان العرب أقل بكثير جدا من كل هذه الدول التي غزوها وانتصروا عليها… ورغم ذلك فقد استطاع هؤلاء البدوء المؤمنون بالله وكتابه ورسوله أن يقيموا إمبراطورية واسعة ممتدة من حدود الهند حتى المحيط الأطلسي. وهي أعظم إمبراطورية أقيمت في التاريخ حتى اليوم”[5].
ويصفها المستشرق الأمريكي فيليب حتي بأنها شيء من الجنون: “لو تجرأ أحدهم على التنبؤ في أوائل القرن السابع المسيحي بظهور قوة لم يسبق لها نظير تقوم في مجاهل الجزيرة العربية التي لم يكن لها قبلا شأن تاريخي، وتدفع بنفسها على الدولتين العالميتين الوحيدتين في ذلك العصر، فتحلّ محل الواحدة -الساسانية- وتجرد الأخرى -البيزنطية- من أغنى ولاياتها، أقول: لو تجرأ أحد على مثل هذه النبوءة لعدّه الناس مجنونا”[6].
ويصفها المؤرخ والمفكر البريطاني إ. ه. جومبريتش[7] بالنار المنتشرة، يقول: “بدا كأن الناس قد أصيبوا بالشلل في مواجهة هذه الحماسة الدينية الجامحة. وفي خلال ست سنوات من وفاة محمد [صلى الله عليه وسلم]، كان العرب قد حققوا فتوحات في فلسطين وبلاد الفرس، كما كدسوا كميات ضخمة من الغنائم. بعض جيوش العرب الأخرى هاجمت مصر… وفي خلال أربع سنوات كانت قد سقطت في يد الجيوش. لاقت مدينة الإسكندرية العظيمة المصير نفسه. تنقلت الإمبراطورية العربية من قوة إلى قوة، تنتشر نيرانها من مكة وفي كل الاتجاهات. وكأن محمدا قد ألقى شرارة متوهجة على الخريطة”[8].
ويصفها المستشرق الإيطالي فرانشسكو جابرييلي[9] بأنها أمر لم يسبق له مثيل، يقول: “كانت انتصار الإسلام في مرحلته الأصلية تلك، إقامة للإمبراطورية العربية، وكان توسعا لشعب كان حتى ذلك الحين حبيس إرثه الصحراوي، امتد على قارتين، واتسم بطاقة ونجاح لم يسبق لهما مثيل”[10].
ويصفها المستشرق البريطاني الخبير مونتجمري وات[11] بالمذهلة، يقول: “كان الفتح العربي، بين سنتي 711 – 716م مفاجأة مذهلة لسكان إسبانيا. أما العرب أنفسهم، فلم يكن اجتياح إسبانيا في نظرهم سوى مرحلة من عملية التوسع الكبرى. كانت مرحلة عظيمة الفائدة وناجحة جدا، ولقد تحقق النجاح بسرعة قصوى… لم يكن التقدم هنا تدريجيا، بل في سلسلة من الوثبات كانت تتخللها فترات من الهدوء والتوطيد”[12].
ويصفها جاك ريسلر بالباهرة، يقول: “تقوم انتصارات العرب الباهرة على أمور متنوعة، يكمن أهمها في الروح الأخلاقية الرفيعة التي كانوا يستمدونها من الدين الجديد؛ فقد كان الإسلام قد علمهم الشجاعة وازدراء الموت اللذين جعلاهم أشداء لا يُقهرون. إلى هذه الفضائل الأخلاقية ينبغي تُضاف تقنية حربية كانت تحترم تشكيل وحدة القبيلة”[13].
ويصفها المفكر والقانوني الفرنسي دومينيك سورديل[14] بالمهيبة المدهشة، يقول: “هذه الفتوحات التي يبدو ذكرها مهيبا ومدهشا، لا بد من معرفتها لأنها هي التي سمحت للإسلام بالانطلاق كدين عالمي انتشرت معه بذات الوقت وتنامت الحضارة المرتبطة به. عندها ظهر المجتمع العربي الإسلامي الذي كان مكان ازدهاره امبراطورية متعربة ومسلمة. ولكن الظاهرة التي يمثلها هذا المجتمع وهذه الحضارة، لم تكن إلا لتذهل العديد من المؤرخين: كيف استطاعت حركة بمثل هذه الضخامة وبمثل هذه السرعة أن تكون ممكنة؟”[15]، ويتابع بقوله: “النجاح الذي لاقته هذه الغزوات… يدل ويفسر كيف تضخمت الحركة بهذه السرعة. ويبقى إذن، أن نفسر كيف استطاع فرسان رُحَّل، ذوو أسلحة خفيفة، وبسرعة عجيبة، النجاح في الاستيلاء على قسم من آسيا، وعلى إفريقيا الشمالية وإسبانيا، وفي احتلال القسم الأبر من الممتلكات البيزنطية -بما فيها الأناضول الذي تعرض من ذل الحين، وحتى أسوار القسطنطينية لعدة غزوات- ثم القضاء تماما على الإمبراطورية الساسانية التي قُتِل ملكها الأخير بعد انهزام جيوشه بصورة نهائية”[16].
ويقول ألبرت حوراني[17] أن التغيير كان مفاجئا وغير متوقع، يقول: “عند نهاية حكم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (634 – 644م) كانت قد فُتحت الجزيرة العربية كلها وجزء من الإمبراطورية الساسانية والولايات السورية والمصرية من الإمبراطورية البيزنطية ولم تلبث بقية أراضي الامبراطورية الساسانية أن فتحت هي الأخرى. وفي غضون سنوات قليلة بعد ذلك كانت الحدود السياسية للشرق الأدنة قد تغيرت، وانتقل مركز الحياة السياسية من أراضي الهلال الخصيب الغنية والآهلة بالسكان إلى مدينة صغيرة قابعة على طرف العالم الغني ذي الثقافة العالية، وقد كان التغير مفاجئا وغير متوقع بحيث يحتاج إلى شرح”[18].
وفي المقال القادم بإذن الله سنواصل استعراضنا لما قاله المستشرقون والمؤرخون الغربيون عن عجائب الفتوحات الإسلامية لنفتح بابا آخر هو: أن تلك الفتوحات لم تكن فقط حركة غزو واحتلال بل كانت انطلاقة حضارية للمناطق التي وصلتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] برتراند رسل (1872 – 1970م) من أشهر فلاسفة العصر الحديث، ومن مؤرخي الفلسفة، له إسهام كبير في تطوير المنطق الرياضي، عُرف بمواقفه الداعية للسلام ونزع السلاح النووي، نال جائزة نوبل 1950.
[2] برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة: د. زكي نجيب محمود، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010م). 2/181.
[3] إميل برهييه (1876 – 1952م) فيلسوف فرنسي، تخرج من السوربون، اهتم بالفلسفة الكلاسيكية وتاريخ الفلسفة، ووضع تاريخا واسعا للفلسفة، وهو من أشهر أتباع الفيلسوف الفرنسي الشهير برجسون.
[4] إميل برهييه، تاريخ الفلسفة، ترجمة: جورج طرابيشي، (بيروت: دار الطليعة، بدون تاريخ)، 3/115.
[5] مايكل هارت، الخالدون مائة، ص15، 16.
[6] فيليب حتي، العرب تاريخ موجز، ص61.
[7] إ. ه. جومبريتش (1909 – 2001م)، مؤرخ ومفكر بريطاني، نمساوي المولد، له العديد من المؤلفات في تاريخ الفن والثقافة.
[8] إ. ه. جومبريتش، مختصر تاريخ العالم، ترجمة د. ابتهال الخطيب، سلسلة عالم المعرفة 400، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، مايو 2013م)، ص164.
[9] فرانشسكو جابرييلي (1904 – 1997م) كبير أساتذة اللغة العربية وآدابها في جامعة روما، برز في دراسة الشعر العربي وتحقيق نصوص التراث الإسلامي، ومقارنة النصرانية بالإسلام، وهو مترجم للعديد من نصوص الفكر الإسلامي إلى الإيطالية، انتخب عضوا مراسلا في المجمع العربي بدمشق وغيرها.
[10] فرانشيسكو جابرييلي، الإسلام في عالم البحر المتوسط، ضمن “تراث الإسلام” بإشراف: شاخت وبوزوروث 1/88.
[11] مونتجمري وات (1909 – 2006م) مستشرق بريطاني قدير، وكان عميدا لقسم الدراسات العربية في جامعة أدنبرا، عرف بكتابيه في السيرة “محمد في مكة” و”محمد في المدينة” وهما من أقوى وأعمق ما كتب المستشرقون في السيرة ويدلان على مجهوده ودأبه العظيم، بالإضافة إلى مؤلفات أخرى في التاريخ الإسلامي والعلاقة بين الإسلام والمسيحية.
[12] مونتجمري وات، في تاريخ إسبانيا الإسلامية، ترجمة: د. محمد رضا المصري، ط2 (بيروت: شركة المطبوعات، بيروت، 1998م)، ص20.
[13] جاك ريسلر، الحضارة العربية، ص46.
[14] دومينيك سورديل (1921 – 2014م) فرنسي، متخصص في تاريخ الحضارة الإسلامية، أستاذ مقيم في المعهد الفرنسي بدمشق سابقًا، وأستاذ في جامعة السوربون بباريس، ومدير مجلة الدراسات الإسلامية.
[15] دومينيك سورديل، الإسلام: العقيدة السياسة الحضارة، ترجمة: سليم قندلفت، ط2 (دمشق: دار حوران، 2003م)، ص35.
[16] السابق ص37.
[17] ألبرت حوراني (1915 – 1993م) مؤرخ بريطاني من أصل لبناني، أستاذ التاريخ في جامعة أكسفورد، ودرَّس في جامعات بنسلفانيا وشيكاغو وهارفارد، عرف لدى قراء العربية بكتابه المهم “الفكر العربي في عصر النهضة”، وتسود كتبه لغة هادئة وبحث جاد وعميق.
[18] ألبرت حوراني، تاريخ الشعوب العربية، ترجمة: أسعد صقر، ط1 (دمشق، دار طلاس، 1997م)، ص56.