مقالاتمقالات مختارة

مقاربات حول الفتوى والسياسة

بقلم محمد جميل بن منصور

حين أفتى شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي بالخضوع للقانون الفرنسي المنتظر الصدور الذي يحظر ارتداء الحجاب الإسلامي (غطاء الرأس), بل أكد أن مثل هذا القانون حق لفرنسا وحدها, لم تكن المرة الأولى التي يعلن فيها شيخ الأزهر للرأي العام المسلم فتاوى أو تصريحات مفاجئة سواء بالنظر لموضوعها أو بالنظر للجهة الصادرة عنها. لكن المميز لهذه الفتوى أو لهذا التصريح هو أنه جاء ترضية لدولة غربية في شأن يرفضه مسلموها, واعتبره سيد طنطاوي نفسه متعلقا بأمر إلهي لا سبيل إلى إلغائه. من هنا يكون من المناسب بل من الضروري إعادة طرح الموضوع في سياقه الكلي وفي تنزيلاته ومظاهره التي كان آخرها كلام طنطاوي هذا.

الفتوى كما عرفها أهل العلم هي بيان الحكم الشرعي في أمر من الأمور جوابا عن سؤال سائل أكان معينا أم مبهما فردا أم جماعة, وقد شدد في شأنها العلماء خصوصا إذا كانت الفتوى من ثقة لمن يقلده, وذلك لما يترتب عليها. وعبر الإمام ابن القيم عن ذلك في كتابه المشهور “إعلام الموقعين عن رب العالمين” بصيغة لا يخفى فيها التشديد والتخويف “إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب السنيات, فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات”.

”كانت حرب الخليج الثانية التي افتتحها الرئيس صدام حسين بغزو دولة الكويت مناسبة واسعة لتسييس الفتوى ليس بمعنى إدخالها لميدان السياسة ورجوع أهل الأخيرة إليها في عملهم ولكن بمعنى جعل الفتوى في خدمة السياسة”

وروي عن عطاء بن السائب قوله “أدركت أقواما إن كان أحدهم ليسأل عن شيء فيتكلم وإنه ليرعد”. وقد سبق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا المنهج، فهذا عبد الله بن مسعود يصرح “والله إن الذي يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون”. هذا لأن الفتوى تبيين وكشف عن الحكم الشرعي أو بعبارة الإمام ابن القيم توقيع عن رب العالمين, وهو ما يقتضي التزامات منهجية علما بالأصول والقواعد, وقدرة على الفهم والاستنباط, وإدراكا للواقع والمآلات, وورعا ملازما يعصم من الضغوط والأهواء.

ولذلك كان حريا بالكثيرين أن يفرقوا بين الفتاوى والآراء، فالأولى يطبعها طابع التقدير والاعتبار بل وشيء من الإلزام خصوصا لعامة يحتاجونها ولا وقت لديهم لغيرها، والتقلل والحيطة فيها أولى، ولذلك قال أهل العلم “من فروع التقوى في الفتوى أن يتقلل منها ما استطاع, ويدفعها عن نفسه, ولا يتصدى لها إلا وهو مضطر”.

أما الثانية (أي الآراء) فميزتها المرونة والتنوع, والضوابط عليها أخف, ولا ينظر إليها بنفس المكانة والمنزلة, ولا وجه للإلزام بها ولعل طبيعة المتحدث وعنوانه وموقعه تحدد نظرة الناس إليه وتصنيفهم لما يصدر عنه.

كانت حرب الخليج الثانية التي افتتحها الرئيس العراقي السابق صدام حسين بغزو دولة الكويت مناسبة واسعة لتسييس الفتوى, ليس بمعنى إدخالها لميدان السياسة ورجوع أهل الأخيرة إليها في عملهم ولكن بمعنى جعل الفتوى في خدمة السياسة, فانتظمت مؤتمرات وحررت فتاوى ووقعت عرائض, بعضها يقول بوجوب مقاتلة العراق الغازي الذي اعتدى على جاره وانتهك حرمته واستباح أرضه, وبعضها يقول إن الواجب هو قتال الأميركان والاصطفاف ضدهم وإعلان الجهاد عليهم. وبين هؤلاء وأولئك حاول البعض التوسط والتوازن ولكن صوته تلاشى وسط إيراد هؤلاء وأولئك لأدلتهم واستنهاضهم لما يعينهم من أقوال العلماء والفقهاء.

صحيح أنه كان بالإمكان بشيء من التروي وإنفاذ العقلية التكاملية الجمع بين أدلة الطرفين ليكون بعضها (الذي يستنصر به الداعون لحرب العراق) خاصا بغزو الكويت والاعتداء عليها دون مسألة الأميركان وخططهم وجيوشهم, ويكون بعضها الآخر (الذي يعتمد عليه المعسكر المؤيد للعراق) متعلقا بدخول القوات الأميركية وسعيها للهيمنة على المنطقة, فلا أدلة الأولى صالحة لتبرير العدوان الأميركي ولا الثانية قادرة على تشريع غزو صدام واحتلاله للكويت, ولكنها السياسة, حيث اتخذت المواقف أولا ثم وقع استدعاء النصوص والأدلة الشرعية لا للتحاكم إليها وإنما للاستظهار بها بعدما استلت من سياقها الشرعي التكاملي.

وكثيرة هي الحالات التي يلجأ فيها هذا الحاكم أو ذاك إلى عالم أو فقيه لإضفاء الشرعية الدينية على فعل أو موقف سابق غالبا ما يكون مناقضا لما علمه الناس من الشريعة, من التعامل بالربا إلى قمع المعارضين “الخوارج” إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني بحجة جنوحه للسلم! وكان لشيخ الأزهر طنطاوي سبق في هذه المجالات, لا ينافسه إلا فقهاء في موريتانيا يبررون العلاقات الموريتانية الصهيونية لاعتبارات تتعلق بالسياسة الدولية والأوضاع العالمية! ويتطوعون لنظام ولد الطايع بما يناسب من فتاوى تشرع حكمه وتدين معارضته.

فضلا عن الفتوى الأخيرة التي لا تستجيب للقواعد المنهجية والموضوعية للفتوى فإن الشيخ سيد طنطاوي أخطأ مرتين:
مرة حين حاول التوفيق فوقع في التناقض فهو يصرح بأن الحجاب أمر إلهي لا يجوز لأحد إسقاطه ثم يأتي ليوجب على المسلمات في فرنسا الالتزام بمنعه, ومرة حين ذهب يبين لفرنسا ما يحق لها, لقد صدق الدكتور عبد الوهاب الأفندي حين علق على ذلك قائلا “ولكنه اختار ألا يتوقف هنا, بل مضى ليفتي في نوع القوانين التي يجوز لفرنسا أن تقرها, وهذا أمر ليس مجال اختصاصه ولا يعنيه في شيء, وإنما يعني مواطني فرنسا ودستورها وقيمها وتقاليدها التي يبدو أن الشيخ لا يفقه عنها شيئا”، 
ولذلك لم يكن غريبا أن يعارض طنطاوي أركان في مشيخة الأزهر بل وفي حضرة الضيف الفرنسي المفتى بناء على طلبه ورغبته.

إن هذا التطور في جعل الفتوى في خدمة السياسة خطير جدا ليس لأنه يخالف أخلاقيات المفتي التي ذكر منها العلماء أنه يفتي بما يعلم أنه الحق ويصر عليه ولو أغضب من أغضب من أهل الدنيا وأصحاب السلطان فحسب, ولكن لأنه يتجاوز دائرة حكام المسلمين وأنظمتهم -التي شرعت بذلك ما تفعله مما يخالف الشرع أصولا وفروعا- ليجعل الفتوى تشرع ممارسات دول غير مسلمة لجأت إلى الأزهر ليسوغ لها ما تأباه أعرافها الديمقراطية والتعددية.

”وضع حد فاصل بين العلماء والحكام أو بين الفتوى والسلطة مسألة ملحة ومستعجلة، ولا يعني ذلك ترك العلم والشريعة لصالح المعارضين الإسلاميين ونحوهم، فأولئك يحتاجون بدورهم لأن يخففوا ويقيدوا ويضبطوا فالسياسة قلب وأحوال”

قد يكون واردا -من باب فقه الضرورات وبعد التحقيق اللازم- وبعد أن يصبح قانون منع الحجاب ساري المفعول أن يفتي عالم امرأة أو أكثر بما يسمح لها أن تحافظ على وظيفتها أو مقعدها الدراسي, ولكن ذلك شيء والتطوع المجاني لتبرير مضايقة المسلمات في التزامهن وإضعاف أصواتهن المطالبة في ساحة “الجمهورية” بحقوقهن وفي وقت مازال الحوار فيه جاريا شيء آخر, لم يفهمه الكثيرون إلا بعد أن صرح الرئيس المصري حسني مبارك لاحقا أن مسألة الحجاب في فرنسا شأن فرنسي.

إن وضع حد فاصل بين العلماء والحكام أو بين الفتوى والسلطة مسألة ملحة ومستعجلة، ولا يعني ذلك ترك العلم والشريعة لصالح المعارضين الإسلاميين ونحوهم، فأولئك يحتاجون بدورهم لأن يخففوا ويقيدوا ويضبطوا، فالسياسة قلب وأحوال, وهي مجال للرأي والتقديرات المتباينة، والإكثار من الفتاوى فيه حيف عليها وتمييع للفتاوى ومكانتها عند العقل الإسلامي العام.

وصدق الدكتور يوسف القرضاوي حين قال “ومن أشد المزالق خطرا على المفتي أن يتبع الهوى في فتواه سواء هوى نفسه أو هوى غيره, وبخاصة أهواء الرؤساء وأصحاب السلطة الذين ترجى عطاياهم وتخشى رزاياهم، فيتقرب إليهم الطامعون والخائفون بتزييف الحقائق وتبديل الأحكام, وتحريف الكلم عن مواضعه, اتباعا لأهوائهم وإرضاء لنزواتهم أو مسايرة لشطحاتهم ونطحاتهم”.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى