مقالاتمقالات مختارة

العالم والسلطان (2)

بقلم عمرو بسيوني – مدونات الجزيرة

(إن دعاك الأمير أن تقرأ عليه القرآن؛ فلا تأتِه)

-محمد بن سيرين

(1)

بدأنا في الجزء الأول من هذه السلسلة بيان اتجاهات العلماء من مخالطة السلطة الجائرة، والدخول عليها. وذكرنا أولًا اتجاه المبيحين لذلك.

(2)

الاتجاه الثاني: المانعون:

أبرز من يعزى إليه القول بالمنع من الدخول على السلاطين: محمد بن سيرين، وإبراهيم النخعي، وطاووس، والأعمش، ووكيع، وميمون بن مهران، وداود الطائي، وبشر بن الحافي، وسفيان الثوري، والفضيل بن عياض، وعبد الله بن المبارك، وربيعة الرأي، وأبو حنيفة، وابن وهب، وابن القاسم، وأحمد، وابن أبي خيثمة، وغيرهم. والظاهر أنه قول جمهور السلف.

واستدل لهذا القول ببعض النصوص، منها ما ورد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سكن البادية؛ جفا، ومن اتبع الصيد؛ غفل، ومن أتى السلطان؛ افتتن»، وحديث «إياكم وأبواب السلطان فإنه قد أصبح صعبا هَبُوطًا»، وغيرها.

 ومن أهل العلم من رامَ رفعَ الخلاف الحقيقي بين موقفي السلف حول ذلك الموضوع، بحمل هذا الاتجاه للمانعين على من خشي الافتتان أو المداهنة. يمثّل ابن مفلح الحنبلي ذلك الاتجاه بقوله: «والظاهر كراهته – يعني الدخول – إن خيف منه الوقوع في محظور، وعدمها إن أمن ذلك، فإن عري عن المفسدة واقترنت به مصلحة من تخويفه لهم، ووعظه إياهم، وقضاء حاجته؛ كان مستحباً. وعلى هذه الأحوال ينزل كلام السلف وأفعالهم – رضي الله عنهم –. وهذا معنى كلام ابن البنا من أصحابنا، ذكره ابن عبد القوي في باب صلاة التطوع». قلت: ليس هذا بظاهر في عبارات أغلب المانعين، فقط يمكن حمْل بعضها عليه.

ولكن قد يقع في عباراتهم أنه لو دخل عليهم وجب المجاهرة والصدع بالحق، وهذا غير تجويز الدخول للمصلحة مع أمن الفتنة، فإن ثمة فرقًا بين طلب الشيء، والابتلاء به، فهما حكمان: حكم الأصل، وحكم الحاصل. فظاهر عباراتهم المنع من الدخول لعدم الأمن من الفتنة ولو ظنّ صاحبها الأمن، فلم يعتبروا الظن؛ لأنهم يرون عظم الفتنة التي يجب سد ذريعتها. وسيأتي مزيد تفصيل لذلك لاحقًا.

(3)

إذا استثنينا الاتجاهات النضالية التي كانت ترى الخروج بالسلاح والصراع القتالي ضد الحكام الظلمة، وهي الاتجاهات التي ظل لها زخمها وجمهورها حتى أواخر القرن الثالث الهجري تقريبًا، سواء في الاتجاهات الشيعية والخارجية، أم في السياق السني، وبخاصة البعيد نسبيًّا عن دوائر أهل الحديث البحتة؛

فلابد من التفريق داخل اتجاه المانعين من الدخول على السلطان بين نزعتين: نزعة راديكالية، وأخرى كمونية. ويمثل النزعة الأولى: الإمام سفيان الثوري، وقلة آخرين. ويمثل النزعة الثانية: الإمام أحمد وكثير من أهل الحديث.

(4)

تظهر راديكالية الثوري في موقفه المبدئي من السلطة، والإنكار العلني عليها، والتحذير منها ومن أفعالها. يتلخص موقف الثوري المجافي للسلطة بصورة صارخه في نحو قوله: «القبول مما في أيديهم؛ من استحلال المحارم. والتبسم في وجوههم؛ علامة الرضا بفعالهم. وإدمان النظر إليهم؛ يميت القلب. من رأى منكم خرقةً سوداء [شعار العباسيين]؛ فليدُّسها ولا يمسَّها مسًّا». وكان وكيع يقول: «حُبس الثوري في بيعة، فأبى أن يحلف».

كان الانعزال عن السلطة أمرًا وجوبيًّا بالنسبة للثوري. «إن دعاك لتقرأ عليهم {قل هو الله أحد، الله الصمد}؛ فلا تأتهم. حتى بلغ ذلك أن استطرد موقفه فيمن يعامل السلطان أيضا، «كان إذا بلغه أن رجلا أتى السلطان، أمره ونهاه، فإن قبل وإلا هجره» كما قال أبو إسحاق الفزاري. وسفيان نفسه نصح أحدهم: «لا تعامل من يعامل السلطان»ولذلك فرّ من السلطة لما طلبته –  رغبة ورهبةً – مرارًا.

ولذلك كان بشر بن الحارث يقول: «قد فعل سفيان فِعلًا صار فيه قدوة: هربه من السلطان». حتى زُهد الثوري الذي كان فيه إمامًا؛ حمله على التكسب والاشتغال بالمال؛ كي يسد باب الضعف أمام إغراءات السلطة. «لأن أخلف عشرة آلاف درهم يحاسبني الله عليها؛ أحب إلي من أن أحتاج إلى الناس»، «كان المال فيما مضى يكره، فأما اليوم؛ فهو ترس المؤمن»، ونظر إليه رجل وفي يده دنانير، فقال: يا أبا عبد الله! تمسك هذه الدنانير؟!، قال: «اسكت، فلولاها لتمندل بنا الملوك». فلم يكن الثوري يرى جدوى من أمر الحاكم أو نهيه، فإن فساده أعظم وأطم من أية محاولة جزئية للإصلاح، ثم هي غير مأمونة العواقب لما فيها من المفاسد. قال يزيد بن هارون: قيل لسفيان الثوري: لم لا تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فقال: «إذا انبثق البحر؛ من يقدر أن يسكِّره؟!».

ولما اضطر سفيان للدخول، أو اجتمع ببعض الحكام؛ مراتٍ قليلة؛ أقذع لهم الكلام وجاهرهم بمظالمهم. فقد دخل على أبي جعفر المنصور- وهو المعروف بوحشيته -، فلم يسلم عليه بالأمرة، فتبسم وقال: ارفع حاجتك. فقال له: «ملأتَ الأرض ظلما وجورا، فاتق الله!». وله دخول آخر على المهدي في الحج، زجره فيه بكلام كثير.

 (5)

وبالعطف على الاتجاه الثاني. فمن الواضح أن الإمام أحمد كان معجبًا بالثوري إعجابًا بالغًا، ويقدمه على غيره من الأئمة. حتى إن المروذي روى عن أحمد ذلك الإعجاب والتقديم صريحًا: «أتدري من الإمام؟ الإمام: سفيان الثوري، لا يتقدمه أحد في قلبي!». ولعل ذلك كان له تأثير كبير على تحفظ الإمام أحمد من القبول بالسلطة. وقد تولّى أحمد نفسه تدعيم التفسير السياسي لرؤية الثوري الإصلاحية. فقد سئل عن قول الثوري: «نحن اليوم على الطريق، فإذا رأيتمونا قد أخذنا يمينًا وشمالًا فلا تقتدوا بنا»؛ فقال: «إنما يريد أمر السلطان!».

وموضوع قبول أحمد بالسلطة وموقفه منها، موضوع طويل الذيل، ويجري تجاذبه من اتجاهات علمية وأيديولوجية مختلفة. وأهم ما ينبغي التوكيد عليه هاهنا عدم الخلط من تشديد الإمام أحمد في قضية المنع من الخروج على الحاكم لظلمه، وكذا الانصياع لتسميته إمامًا إن اجتمع عليه الناس برًّا أو فاجرًا ما دام متغلبّا بصورة واقعية: «من غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين؛ لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً عليه، براً كان أو فاجراً، فهو أمير المؤمنين»، كما في رواية عبدوس.

وفي رواية الواثق: «اجتمع فقهاء بغداد إلى أبي عبد الله، وقالوا: هذا أمر قد تفاقم وفشا – يعنون إظهار الخلق للقرآن – نشارك في أنّا لسنا نرضى بإمرته ولا سلطانه. فقال: عليكم بالنكرة بقلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين»، وبقطع النظر عن الفحص عن دلالة ذلك، ومدى كونه حكمًا واقعيًّا أم قيميًّا، ومدى اللزوم بين صحة السلطة شرعيًّا ونفوذها شرعيًّا وواقعيًّا؛ لا ينبغي الخلط بين ذلك، وبين موقف الإمام أحمد القيمي من جور السلطة، وعدم تأييدها على باطلها، بل وإظهار ذلك الإنكار بدرجة ما – أقل راديكالية من موقف الثوري بطبيعة الحال -، فهو قد قال عن المعتصم، الذي كان يسميه أمير المؤمنين، في رواية حنبل: «أي بلاء كان أكبر من الذي كان أحدث عدو الله وعدو الإسلام: من إماتة السنة؟»، وكان إذا ذُكر المأمون قال: «كان لا مأمون».

بل إن بعض الروايات تدل على تفريق أحمد ليس بين الحكم الشرعي لعموم عنوان الولاية، والحكم القيمي عليها، ولكن أيضا بين مواضع النفوذ والاعتبار المختلفة لتلك الولاية التي لغير العدل، وأنها غير متساوية، فإن كانت متحققة في بعض الأحكام فإنها ليست متحققة في جميعها. يدل على ذلك رواية الأثرة في امرأة لا ولي لها، فقال: «السلطان»، فقيل له: تقول السلطان، ونحن على ما ترى اليوم؟، فقال: «أنا لم أقل على ما نرى اليوم، إنما قلت السلطان».

وهذا الموضوع قد حاولت المدرسة الحنبلية نفسها في وقت لاحق أن تقدم لها قراءات مختلفة. فقد حاول أبو يعلى، على سبيل المثال؛ تقديم قراءة تأليفية لموقف الإمام أحمد وفق الروايات المتخالفة، يمكن أن يوافق عليها أو يخالف فيها، وليس هذا من وكدنا في ذلك المقام.

(6)

ورغم كمونية الإمام أحمد تجاه السلطة، كما أشرنا فيما سبق، وكما ستأتي إشارة أخرى آنية، فإن موقف أحمد في الانعزال عن السلطان والمنع من مخالطته والدخول عليه: كان شديدًا.

اتخذ أحمد، من الناحية الإجرائية؛ الموقفَ نفسه من لزوم الانعزال عن السلطان، يتلخص الأمر في تصريح أحمد: «ما له في رؤيتي خير، ولا لي في رؤيته خير» كما قال لمن طلب منه الدخول على السلطان لنصحه. وسبب ذلك ما قاله أحمد أنه «يجب عليَّ إذا رأيته، يعني الخليفة، أن آمره وأنهاه». والدخول عليهم فتنة، تفسد الدين أو الدنيا: «الدنو منهم فتنة والجلوس معهم فتنة، نحن متباعدون منهم ما أرانا نسلم، فكيف لو قربنا منهم؟!».

لقد كان أحمد يرى أن وجوب الأمر والنهي باليد لم يعد مستطاعًا لاستشراء الفساد وطغيان السلطة، وأن الاكتفاء باللسان والقلب هو المتعين، هذا في المجال العام، أم بالنسبة للسلطة فالأمر أشد خطرًا، حتى في مجرد الإنكار بالقول: «ليس هذا زمان نهي إذا غيرت بلسانك، فإن لم تستطع فبقلبك، وذلك أضعف الإيمان… وقال لي: لا تتعرض للسلطان، فإن سيفه مسلول!».

الانعزال عن السلطة يأخذ عند الإمام أحمد أبعادًا أكثر عمقًا، حتى الاستعانة بهم على إنفاذ الشريعة؛ أمر ليس بمطلوب عند أحمد، فإنهم غير محققين للأهلية التي يؤمَن معها إنفاذهم الشريعة بلا جور! فقد سئل عمن يفعل المنكرات: ترى أنه يستعين عليه بالسلطان؟، قال: «أما السلطان فما أرى ذلك»وسئل عن الرجل، يرى منه الفسق والدعارة، ويُنهَى فلا ينتهي، يرفعه إلى السلطان؟ قال: «إن علمت أنه يقيم عليه الحد فارفعه»، فهذا هو القيد الذي يراه للرفع الأمر إلى الحاكم، وإلا فهذا القيد شبه مفقود.

لقد كان أحمد متخوفًا من سوابق الحكام: «كان لنا جار فرفع إلى السلطان، كان قد تأذى منه جيرانه فرفعوه، فضربوه مئتي درة، فمات». ولذلك قيل له: يستعان على من يعمل بالمنكر بالسلطان؟ قال: «لا، يأخذون منه الشيء ويستتيبونه»، ثم قال: «جار لنا حبس ذلك الرجل، فمات في السجن»، وقال لمن سأل: إذا أمرت بالمعروف فلم ينته ما أصنع؟ «دعه، قد أمرته، وقد أنكرت عليه بلسانك وجوارحك، لا تخرج إلى غيره، ولا ترفعه للسلطان يتعدى عليه»، وحتى قيل له: إن بعض إخوانك له جيران يؤذونه بشرب الأنبذة، وضرب العيدان، وارتكاب المحارم، وبينت له أمر النساء، وهو يريد أن يرفعهم إلى السلطان؟ فقال: «يعظهم وينهاهم»، فقيل له: قد فعل فلم ينتهوا؟ فقال: «أما السلطان فلا، إذا رفعهم إلى السلطان خرج الأمر من يده». وقال المروذي: سألت أبا عبد الله عن قوم من أهل البدع يتعرضون ويكفرون قال: «لا تتعرضوا لهم»، قلت: وأي شيء تكره من أن يحبسوا؟ قال: «لهم والدات وأخوات». وقد سبقه إلى هذه الملاحظة سفيان بن عيينة. ومسألة السيف السلطاني ورهقها: المشار إليها في كلام أحمد هاهنا: فقه نفيس، سنأتي بإشارة أخرى عليه في حلقات مقبلة.

وحتى الدوائر القريبة من السلطة؛ اتخذ أحمد منها الموقف نفسه، فلم يكن أحمد يبيح الرواية عن الشُّرط وجنود السلطان. بل تكلّم في الذم فيمن يتبع الولاة وحتى القضاة. قال مُهَنّا: سألتُ أحمد بن حنبل عن: إبراهيم الهروي، فقال: «رجل وسِخ!»، فقلت: ما قولك إنه وسخ؟، قال: «من يتبع الولاة والقضاة؛ فهو وسِخ!».

وباختصار: أحمد هو الذي كان يقول، باعتزاز، وربما بافتخار: «أنا رجل لم أخالط السلطان!». وحتى في عهد المتوكل، الذي وصف أحمد خلافته بأنها كانت «رحمة بالمسلمين»، وذلك بعد أن انتصر المتوكل لعدم خلق القرآن ورفع الظلامة عن أحمد وغيره من العلماء، ولأنه لم يكن بمنزلة من العدالة والفضيلة؛ فإن أحمد انحاش منه، ورفض أن يكلمه، أو يدخل عليه، ورفض عطيته مرات، وأوصى قبل موته عياله ألا يقبلوا عطيته، وقال لعمه لائمًا لما رفض أحمد الجائزة التي أرسلها له المتوكل: «لو لم تقبلها؛ لتركوك وشأنك!»، وحتى قال عن بعض عياله ممن قبلوا جائزة المتوكل: «أنتم كنتم آفتي!».

في الحلقة المقبلة: سنعرض لفلسفة المنع من الدخول على الحكام، والتفصيل فيها.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى