لقد أكرمني الله بالتعرّف إلى الإمام يوسف القرضاوي – حفظه الله – من قرب منذ خمس عشرة سنة تقريباً – بعد أن عرفته منذ ثلاثين سنة عن طريق كتبه وخطبه ومواقفه – ثم قدّر الله لي أن أعيش مع منهجه وفكره وفقهه ومؤلفاته عندما اعتكفت على كل ما كَتب لدراسته منهجيًّا وفقهيًّا وتأصيليًّا، وبعد كل هذه التجربة ظهرت أمام عيني الحقيقة المجتمعية الآتية: وهي أنّ عامّة الناس وبعض الخاصة منهم يصعب عليهم أن يتفهموا المواقف والآراء المبنية على النسبية التقديريّة: أي الآراء والأفكار والمواقف المرّكبة، ويسهل عليهم فهم الأمور البسيطة السطحية أو الظاهرية الحرفية، ولأن الإمام القرضاوي – حفظه الله – يتميز بالعمق الفكري المنهجي والأصولي المقاصدي، ولأنّ مواقفه قائمة دائمًا على الوسطية فهو يتخندق في مساحة بين الإفراط والتفريط، وقد أحدث ذلك سوء فهم عند عدد من الطوائف الفكرية والمدارس الفقهية والدعوية، وكانت هناك مسائل لطالما حدّثت بها نفسي على الدوام أن يقدر الله فيها قدرًا يكشف مقدار الإخلاص والصدق والوقوف عند المنهج الذي سار عليه الإمام القرضاوي – حفظه الله – كما سار عليه الأئمة الكبار من قبله – أحسبه كذلك ولا نزكّي على الله أحدًا – وهذه المسائل هي:
أولاً: الموقف من الشيعة.
ثانياً: الموقف من الحكام والسلاطين.
فأمّا المسألة الأولى وهي موقفه من الشيعة فقد كان فيها موقف الإمام القرضاوي – حفظه الله – قائمًا على النظر النسبي؛ فهو من جهة يدعو إلى منهج واضح قائم على أصول أهل السنة والجماعة التي عاش حياته العلمية والفكرية والدعوية يكتب فيه ويؤصل له، وفي الوقت ذاته يرى أن الأمة المسلمة بحاجة إلى جمع الصف ونبذ الطائفية والتمسك بأسس العيش المشترك مع المخالف من الشيعة وغيرهم، وقد أحدث هذا الموقف فتنة على طائفتين من الناس: طائفة أرادت من الشيخ أن ينطلق من أسس تكفير الشيعة جملة وتفصيلًا وعليه فإنه لا يسعه إلا القطيعة الكاملة التامة مع أي تقارب في ساحات التعاون والعيش المشترك معهم، وكان الشيخ يرفض ذلك ويرى أن الأمة لا تحتمل مزيدًا من الحروب الطائفية، وأنّ التقاتل الداخلي بين طوائف الأمة المختلفة لن يكون في صالح أحد إلا المشروع الصهيوني والغربي في المنطقة.
وطائفة أخرى متماهية مع دعاوى قيادات الشيعة السياسية والدينية فيما يتعلق بالعلاقة بين أبناء الأمة الواحدة وضرورة الاجتماع على محاربة المشروع الصهيوني الأمريكي في المنطقة، فكانت تريد وتطلب من الإمام القرضاوي – حفظه الله – أن يقترب أكثر فأكثر من الشيعة وأن يتجاوز عن كل ما يقال من فتن الشيعة العقائدية والبدعية وعن نشرها لمذهبها في أوساط المسلمين السنة؛ فهذه الطائفة لم يكن يرضيها المسافة التي وقف عندها الإمام القرضاوي من الشيعة، وعليه كانت نسبية الموقف عند الإمام القرضاوي – حفظه الله – سببًا لهذا الارتباك في فهم موقفه، وكنت أدعو الله على الدوام أن يُقدر قدرًا يُظهر فيه للعالم أجمع أن الشيخ لا يساوم على منهجه السني الأصيل منهجه القائم على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وعلى أصول ومعايير أهل السنة والجماعة في الفهم والتنزيل، وأن الأمر عندما يصل إلى ضرورة بيان حقيقة الشيعة من الناحية المنهجية وحقيقة إيران الراعي الرسمي للمذهب من الناحية السياسية والطائفية فلن يتأخر الإمام القرضاوي – حفظه الله – عن ذلك الموقف، وهذا ما حدث ولله الحمد والمنة، فعندما تبين للإمام القرضاوي – حفظه الله – أن إيران وقادة الشيعة يريدون أن يستثمروا موقفه المعتدل لأغراضهم الطائفية والمذهبية وقف الإمام القرضاوي – حفظه الله – شامخًا وقال كلماته منذ عشر سنوات وبشكل لا لبس فيه ولا تردد: إنّ هؤلاء لا يريدون أي مشروع للعيش المشترك لهذه الأمة، وأن غرضهم هو التمكين المطلق لبدعتهم ومنهجهم، وعندئذٍ دخل الإمام القرضاوي – حفظه الله – مع إيران في معركة إعلامية معروفة تخللتها مناظرته المشهورة مع رفسنجاني على شاشة الجزيرة وانتهى الأمر بالشيخ خلال السنوات الأخيرة إلى الاعتكاف على كتاب منهجي عقدي يبين فيه الموقف الشرعي من عقائد الشيعة ومخالفاتهم وأدوارهم التاريخيّة الخبيثة في هذه الأمة، ولقد كان ذلك من توفيق الله له في أواخر حياته أن يلقى الله نقيًّا صافيًا من أيّ تهمة له بالتهاون في أمر دينه وعقيدته ومحبته لسنة نبيه ولآل بيته ولصحابته الكرام.
وكان من عجيب أمره – حفظه الله – في ذلك أن أعلن في حشد شعبي كبير أنه أخطأ تقدير الموقف من الشيعة لملابسات كثيرة وكان باعترافه ذلك قد أحيا سنة هجرها أهل العلم عبر قرون طويلة أن يعترف العالم المجتهد بخطأ اجتهاده في تقدير موقف معين مما يدل على كمال تواضعه ورجوعه للحق متى ما تبين له ذلك.
وأما المسألة الثانية فهي تتعلق بالموقف من الحكام وطريقة التعامل معهم ونصحهم والأخذ على أيديهم، فلقد كان موقف الشيخ النسبي من الحكام وتصرفاتهم يقع بين طائفيتين من الناس: طائفة من الجماعات الجهاديّة التي رأت في الإمام القرضاوي – حفظه الله – متساهلًا مع الحكام وأّنه يرفض الحكم بتكفيرهم بالجملة ويرفض الخروج المسلّح عليهم لأفراد من هذه الجماعات نيابة عن الأمة والمجتمع، والطائفة الأخرى هم علماء السلطان الذين كانوا يريدون من الإمام القرضاوي – حفظه الله – أن يتماهى ويعطي صكوك الغفران لكل موقف أو رأي يصدره الحكام بحجة الطاعة لولي الأمر والوقوف عند أمره.
وكان الإمام القرضاوي – حفظه الله – يرفض الموقفين معًا ويتمسك بموقف واضح فهو لا يهادن في أخطاء الحكام وينصح بكل السبل السلمية سرًّا وعلانية ومن جهة أخرى يتواصل مع الحكام ويجلس إليهم ناصحًا مذكّرًا بواجبهم ويؤسس المؤسسات وينشىء اللجان المعنية للتذكير بخطورة مواقفهم على الدين والأمة.
ولقد كنت أدعو أن يُقدر للشيخ أقدارا تُبين للجميع أنه لا يخضع لأهواء الحكام ولا لأهواء العامة معاً وأنه يسير على منهج واضح بيّن في ذلك.
ثم جاءت الثورات العربية وكان الإمام القرضاوي – حفظه الله – هو مفتي الثورات ومرشدها ويعرف كل متابع لمواقفه أنه لم يصدر موقفه بشكل قاطع وواضح إلا بعد أن تبين له أن الحكام يرفضون النصيحة والقبول بمطالب الشعوب المظلومة المقهورة وأن الثورات هي خيار الشعوب وأن الشعوب قد أعلنتها مدوية مطالبة بالرحيل لهؤلاء الحكام فما كان منه إلّا أن اصطف في خندق الشعوب المظلومة والمقهورة ضد الظالمين المتجبرين، وعندئذٍ دخل الإمام القرضاوي – حفظه الله – في خانة المغضوب عليهم عند هؤلاء الحكام ومن والاهم، وبعد نجاح الثورات في خانة المغضوب عليهم عند معسكر الثورات المضادة التي ساءها تحرر الشعوب، وخشيت على نفسها من عدوى الثورات أن تصل إلى عروشها، فسعت إلى إخماد الثورات وإفساد مسارها بكل ما تملك.
وها هنا برز لي توفيق الله للإمام القرضاوي، فقد أظهر الله بكل وضوح وسجل التاريخ مواقف الشيخ من هؤلاء الذين يقفون ضد إرادة الشعوب في التحرر من الظلم والطغيان، فقد وقف في طريقهم ونصحهم وذكّرهم ابتداءً، ثمّ من بعد ذلك كشف أمرهم في خطبة جمعة شهيرة، وعندئذٍ هجموا عليه بكل ما يملكون من أدوات المكر والكيد، فكانت المطالبة بالمنع من الظهور على قناة الجزيرة في هذا السياق، وقد تحقق لهم ما أرادوا، وكانت الملاحقات القضائيّة من قضاء الطاغية السيسي وأتباعه، وغير ذلك من أساليب الحرب على الشيخ.
وعلى الرغم من هذه المحاولات كلّها، إلّا أّنها لم تفلح في إخضاع الشيخ لرغبات المتجبرين وأعوانهم وأسيادهم، ولو استجاب الشيخ قليلًا وغيّر موقفه وأعلن للناس موقفًا مغايرًا وصفّق لهؤلاء- حاشاه- لكان هو اليوم رئيس المؤسسات العُلمائية التي أُسست بعد الربيع العربي في هذه الدول، وقد كان هذا من توفيق الله للإمام القرضاوي – حفظه الله – وما تصنيف الشيخ في قائمة الإرهاب الذي صدر مؤخرًا إلا في هذا السياق، وإلّا فما الذي غيّر الحال والشيخ لم يتغيّر فكريًّا ولم يرجع عن مواقفه البتة، وقد كان منذ شهور في مكّة المكرمة يكرّمه مفتي المملكة وعلماؤها، وكان قبلها بسنوات يُكرَّم في الإمارات من شيوخها وقادتها.
بقي أمر ثالث من ثلاثيات القرضاوي وهو أمر يتعلق بأمنية سمعتها عشرات المرّات من الشيخ وعلى الملأ أنه يطلب الشهادة في سبيل الله وهو يطلب من كلّ محبّيه أن يدعو له بصدق أن يرزقه الله الشهادة، وإن كان من اليقين الإيماني أن الإنسان يرزق الشهادة على فراشه لو طلبها صادقًا فإنّي أقول لكل من يظّن أنّه قد أدخل الخوف على قلب الإمام القرضاوي بمثل هذه التصرفات والتصنيفات تيقّن أنّ القلب الذي يرجو الله أن يرزقه الشهادة في سبيله لا يعرف الخوف إلّا من الله عزّ وجلّ، ودعائي للشيخ أن ينزله الله منازل الشهداء ، وأن يحسن ختامه ويتقبّل منه جهاده وجهده في خدمة دينه وأمّته.
سالم الشيخي
564 5 دقائق