بقلم حسين بوبيدي – مدونات الجزيرة
لا يمكن للفن بمختلف أشكاله أن يكون بريئا وإن أراد ذلك، فهو يحمل رسالة يعمل على تمريرها لجمهوره من خلال الكلمة أو خشبة المسرح أو ساحة التمثيل أو لوحة الرسم، وإذ سلمنا بوجود الكثير من المنخرطين في الحقل الفني المقيّمين لأدوارهم بحسب ما تدره عليهم من المداخيل دون اعتبار للقيم التي يسوقونها، كالذي يرضى بتمثيل دور النخوة والشرف في الوقت الذي يتعاقد فيه مع منتج آخر لتمثيل دور يحول العلاقات غير الشرعية إلى صورة من صور التضحية والوفاء الذي يتم لأجله الدّوس على الأحكام الشرعية والأعراف الاجتماعية؛ فإن هذه النماذج في الأخير ليست سوى الأدوات التي يتم استخدامها من حيث لا تشعر في مشاريع مبرمجة؛ تهدف إلى إعادة تشكيل العقل ورسم الأعراف والقيم الاجتماعية، وهي المشاريع التي يمكن الانتباه إليها ببساطة من خلال النظر إلى الرسائل التي توجهها لنا الأغاني والمسلسلات والكليبات والأفلام والومضات الإشهارية والروايات وغيرها من وسائل التأثير الجماهيري الكبير.
إلى زمن قريب كانت الكثير من المظاهر غير الأخلاقية التي تعج بها المسلسلات الرمضانية اليوم مما يفرق شمل العائلة، وتمنع اجتماعها أمام الشاشة الصغيرة، ورويدا رويدا بدأت العائلات تتعاطى مع هذه الصور باعتبارها مجرد انعكاس للوضع الاجتماعي، بعد أن تم غرس لون من ألوان السلبية القاتلة في المواجهة الفكرية والعقدية أمام مشاريع المسخ والتغريب، وذلك عبر تمرير خطاب يكرره كل “الفنانين” مفاده أن هذه الأدوار ليست سوى آلية من آليات المعالجة للظواهر الاجتماعية الحاضرة، وانعكاس لما نعيشه في حياتنا اليومية، مع أن ما يتم تصويره نمط حياة ليس في غالب الأحيان سوى صور شاذة يتم العمل على إخراجها من عزلتها لتتحول إلى ثقافة مشتركة.
إن المتابعة لطرق معالجة القضايا التي تدور حولها الأعمال الفنية تكشف زيف الادعاء الذي يعتبرها مجرد تصوير للواقع، ذلك أن أبجديات قراءة فن التصوير والتوجيه للأحداث المكتوبة أو المرئية يبين الصورة الإيجابية التي تقدم فيها الانحرافات، حيث يختار لها اللفظ الحسن ويتم إخراجها في صورة تبعدها عن صورتها الحقيقية الممقوتة، بينما تمرر الكثير من القيم الدينية الصحيحة والأعراف الأصيلة باعتبارها حالات من الانغلاق، وصورة من صور الجمود والقرووسطية، أو أن يتم دمجها في سياق التحذير من ظواهر أصبحت علامة على الزيغ والضلال في العقول التي تتلقى الأعمال.
كأن يتم دمج الحجاب في مكونات الفكر “الداعشي”، أو الربط بين الالتزام بالصلاة في المسجد وبين القيام بعملية انتحارية تزهق أرواح الأبرياء، في الوقت الذي يقدم فيه “المثقف” الرافض للعنف وإزهاق الدماء في صورة الشخص المنفتح الذي لا تخلوا ثلاجته من زجاجات “البيرة” و”الويسكي”!! وللإمعان في تكريس هذه الصور يتم تمرير العديد من الإيحاءات التي تهمس داخل عقل المتلقي أن الاعتدال والوسطية تعني بالضرورة الإذعان لكل القيم الأمريكية المصدرة للشعوب باسم العولمة والإنسانية المشتركة؟!
وإذا كانت هذه القضايا مما لا يقدم جديدا في سياق النقد الموجه للأعمال الفنية المختلفة، فقد صارت في الآونة الأخيرة تتجاوز الاشتغال على المظاهر إلى التركيز على المضامين، فصار المتدين هو الكاذب الخائن المنافق الحقود الحسود، بينما يصور غير الملتزم على أنه الصادق الوفي الجواد الكريم، ثم تنتقل السهام الموجهة إلى داخل الأسرة لترسم لعلاقات المتدين في أسرته أسوء صورة يمكن تخيلها؛ فهو على مستوى علاقة الرجل بالمرأة لا يعرف من الحب إلا لهثا خلف شهوته الجنسية متنقلا بين امرأة وأخرى مبررا لنفسه هذا اللهث المحموم بجواز التعدد !!، ثم تقديم نمط حياته داخل أسرته الصغيرة والكبيرة عبر سلسلة من العلامات السلبية المنفرة، من ظلم المرأة وضربها والاستيلاء على أموالها، إلى عقوق الوالدين، إلى ضرب الأخوات، إلى مقاطعة الأقارب وهجرهم بل وتكفيرهم، إلى غيرها من المظاهر التي صارت الأعمال الفنية تلصقها بذلك “الملتحي” الذي تنتهي توبته في الأخير بالتخلي عن لحيته، وقبول السهر في ماخور “مدني إنساني في إطار العيش المشترك”!!
وعلى مستوى الرواية يبدو أن الكثير من “أدبائنا” المهووسين بالشهرة الزائفة لم يجدوا من طريقة للفت الانتباه إليهم في الصحافة الأجنبية إلا عبر التكسير المعتمد للرموز الإسلامية، حتى بلغت سهامهم صلاح الدين الأيوبي، في نموذج من نماذج إعلان البراءة من نماذج العزة القديمة لأجل تبرير صور المهانة الحاضرة، أو البكاء والنحيب على حال بلد لا يملك أقليات دينية تسمح للتنوع فيه بالتقدم والرقي بعد أن اكتسحته الواحدية الإسلاموية الظلامية !!وربما من خلال السخرية من شخصيات لها هيبتها وقامتها باسم “كسر الطابوهات” التي ما كانت المجتمعات لتقبل بها لو كانت لا تزال تمتلك من الحصانة الداخلية ما تنفي به خبثها.
لقد صارت هذه النماذج من الكثرة بحيث لا يمكن التمثيل لها، ففي كل اتجاه تشير إليه يمكنك أن تذكر الكثير من هؤلاء الذين صدقوا يوما أنهم “نجوم المجتمع” لمجرد أنهم يتقنون فن الصياح والتقمص وبذل العقل للتوجيه الخارجي، بينما كان الفن ولا يزال عند العقلاء رسالة نبيلة تعبر عن الضمير الجمعي في آماله وتطلعاته، وتعمل على الرفع بوعيه نحو قضاياه المصيرية، ولكن هؤلاء عندما تخلفوا عن مواطن التدافع خلت الساحة لأولئك، فمتى يستيقظ النائمون، لينافحوا عن ضمير الأمة ويدافعوا عن تاريخها عبر وسائل تعتبر من أهم أدوات بناء العقل الجمعي وتوجيه التصورات وتشكيل القناعات في وقتنا الراهن.