بقلم محمد إلهامي
الأول: أن يأتي في القرآن خبر في التاريخ القديم، ثم تسفر الآثار والنقوش والبحوث العلمية الحديثة عن صحة هذا الخبر الذي كان يستحيل معرفته على بشر مثل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا أمثلة عديدة؛ كما في قصص نوح وعاد وثمود وموسى عليهم السلام، لا سيما إن كانت الرواية القرآنية مخالفة لما جاء في التوراة والإنجيل، هذا مع قيام الاستحالة الأصلية لكون محمد -صلى الله عليه وسلم- أخذ علما عنهما.
والثاني: أن يذكر القرآن أمرا لم يقع لحظة نزول الآية مخبرا أنه سيقع، فيكون كما ذكر، فيكون هذا إعجازا تاريخيا بمعنى التنبؤ بالحدث التاريخي، وأشهر الأمثلة في هذا الوعد بعودة الانتصار إلى الروم بعد بضع سنين كما في قوله تعالى {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1 – 4]، أو الإخبار باجتماع اليهود قبل يوم القيامة {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء: 104] وغير ذلك كثير.
والثالث: أن يقع في تاريخ هذه الأمة من الظواهر والأحداث العظيمة ما لا يكون عادة في تاريخ الأمم، فيثير الدهشة والفخر، وهنا يكون وصف هذه الظاهرة بأنها “إعجاز تاريخي” من قبيل خرقها للعادة التاريخية لا للسنة الكونية الطبيعية.
وموضوع حديثنا في هذه المقالة، والمقالات التي ستليها بإذن الله، ينتمي لهذا المعنى الثالث، وقد اخترنا أن نرصد فيه موضوع “الفتوحات الإسلامية” باعتبارها ظاهرة تاريخية متفردة ومثيرة للدهشة وتخالف عادة الأمم في التوسع والانتشار. وقد اخترنا في هذه الورقة أن نسكت عن الكلام كله، مكتفين بالنقل عن المستشرقين والمؤرخين الغربيين وصفهم لظاهرة الفتوحات الإسلامية، لتكون الدلالة أبلغ، على طريقة (وشهد شاهد من أهلها)، والموضوع التاريخي وإن كان لا يحتاج بذاته النقل عن الغربيين فالحقائق ظاهرة والتاريخ فوق الجميع، إلا أن شهادة غير المسلم في هذا المقام أولى وأحسن أثرا.
الاستثناء التاريخي
يعد كتاب “دراسة التاريخ” للمؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي من أعظم ما كُتب في بابه على الإطلاق، وقد قضى في تأليفه نحو أربعين سنة (1921 – 1961م)، وصدر أول الأمر في اثني عشر مجلدات، ثم اختصرت تعميما للفائدة، ونُشر المختصر مترجما إلى العربية في أربعة مجلدات.
وقد ابتكر توينبي في هذه الدراسة -ضمن كثير من نظرياته ونظراته العميقة- قاعدة تاريخية تفيد بأن الغزاة يستطيعون تأسيس إمبراطوريات كبرى ويظفرون برضا ومحبة الشعوب المحكومة إن هم كانوا من ذات ثقافتهم أو اعتنقوها دون شوائب دخيلة، فأما إن اعتنقوا ثقافة أخرى أو كانوا ممثلين لحضارة أخرى فإنهم يصيرون مكروهين منبوذين من الشعوب المحكومة مهما طال زمن سيطرتهم ولا بد سيأتي يوم يتدمر سلطانهم على يد هذه الشعوب، يقول: “وفي وسعنا في الواقع أن نقدم على صياغة شيء يماثل قانونا اجتماعيا عاما مداره:
إن الغزاة البرابرة الذين يتبدون أحرارا من شائبة أية ثقافة دخيلة، في وسعهم كفالة مصائرهم. ويختلف الأمر بالنسبة لهؤلاء الذين اصطبغوا خلال مرحلة هجراتهم بصبغة أجنبية أو بنزعة ضالة، فهؤلاء يجب أن يحيدوا عن طريقهم ليطهروا أنفسهم من هذه الصبغة أو تلك النزعة، حتى يقيض لهم اجتناب المصير الآخر: أي الطرد والإبادة”.
إلا أنه بعدما ضرب الأمثلة على صدق نظريته، سارع ليرصد هذا الاستثناء، فقال: “وثمة استثناء من قاعدتنا يمثله العرب المسلمون الأوائل. إذ كان العرب جماعة من العشائر من خارج المجتمع الهليني، أنجزوا مرتبة سامية من النجاح إبان مرحلة هجراتهم التي صاحبت تحلل ذلك المجتمع. وتمَّ هذا النجاح رغما عن حقيقة قوامها أن العرب قد تشبثوا بمنحاهم الديني الأصيل عِوَضًا عن اعتناقهم المذهب المسيحي المينوفيستي الذي كان يعتنقه رعاياهم في الأقاليم التي انتزعوها من الإمبراطورية الرومانية. بيد أن الدور التاريخي للعرب المسلمين الأوائل، يعتبر دورا استثنائيا تماما.. وبالأحرى؛ يعتبر تاريخ الإسلام حالة خاصة، لن تنسخ نتائج بحثنا العامة”.
يفسر جاك ريسلر هذا بأن الإسلام لم يكن “الغالب” وإنما كان “الفاتح”، فيقول: “يُظهر التاريخ أن الشعوب المغزوَّة تتبنى نظاما سياسيا جديدا بسهولة أكثر مما تبدل لغتها ولسانها. ولقد برهن على ذلك مرة أخرى فشل اليونان والرومان في المشرق. فماذا يمكن أن تكون، بعد الآن، لغة الشعوب الخاضعة للإسلام؟ لا يمكنها إلا أن تكون اللغة العربية، المميزة بكونها لغة الفاتح لا الغالب”.
أصل الظاهرة
لهذا ينبغي أن ننظر في مسألة الفتوحات باعتبارها فرع من أصل، فالأصل هو الإسلام نفسه، فظاهرة الفتوحات المدهشة هي فرع عن الإنجاز الإسلامي المدهش، وعلى حد ما نعلم فإنه لم يتعرض أحد قط بالبحث في تاريخ الإسلام إلا وأقر بأن ما فعله محمد -صلى الله عليه وسلم- كان أمرا مدهشا في مسار التاريخ.
نفس هذا القول يردده البريطاني رونالد فيكتور بودلي، في كتابه “الرسول” فيقول: “قد أنجز كل هذا رجل واحد في الإسلام، وتم كل هذا التبدل في جيل واحد.. إن عمل محمد -صلى الله عليه وسلم- كان جبارا، حتى إن عيسى -عليه السلام- لا يمكن أن يسجل له شيء يقارب ما أتاه محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولا حتى بولس”.
ويردده كذلك المستشرق الأمريكي -اللبناني الأصل- فيليب حتي ، إذ يقول: “لقد تسنى لمحمد -صلى الله عليه وسلم- -في سحابة عمر غير طويل- أن يهيئ الوسائل الفعالة في تكوين أمة متراصة من قبائل مختلفة متناحرة في بلاد لم تكن لذلك العهد إلا تعبيرا جغرافيا، وأن يقيم دولة فاقت بانتشارها السريع إلى أبعد أقطار العالم كلتا الديانتين اليهودية والنصرانية، وفضلا عن ذلك فقد وضع محمد -صلى الله عليه وسلم- حجر الأساس لإمبراطورية ضمت بين أطرافها فضلى مقاطعات العالم المتمدن يومئذ، واليوم يدين جزء كبير من العالم بالإسلام، وينادي بتعاليم هذا الرجل الأمي، الذي كان الواسطة في إخراج كتاب لا يزال سبع سكان المعمورة يعتبره القول الفصل في العلم والحكمة والدين”.
وهذا أمر يطول استقصاؤه وهو من حقائق التاريخ التي لا ينكرها أحد كواقع، ولا ينكر عظمتها من له الحد الأدنى من العقل والإنصاف. فما آثار هذه المعجزة العامة في جانب الفتوحات الإسلامية؟.. ذلك ما نراه بإذن الله في المقال القادم.
أرنولد توينبي، مختصر دراسة التاريخ، ترجمة: فؤاد محمد شبل، (القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2011). 2/248.
السابق 2/248، 249 بتصرف بسيط.
جاك ريسلر، الحضارة العربية، ترجمة: خليل أحمد خليل، ط1 (بيروت: منشورات عويدات، 1993م). ص52.
مايكل هارت (1932 – … ) عالم في الفيزياء الفلكية والرياضيات ومؤرخ أمريكي، يعمل في هيئة الفضاء الأمريكية.
مايكل هارت، الخالدون مائة أعظمهم محمد صلى الله عليه وسلم، ترجمة أنيس منصور، ط6 (القاهرة: المكتب المصري الحديث، 1985م)، ص13.
ر. ف. بودلي (1890 – 1970م) عسكري بريطاني، وصل إلى رتبة كولونيل، عمل بالعراق والأردن، ثم مستشارا لسلطنة مسقط (1924م)، وكان أول من عبر الربع الخالي، وكشف عن أسراره بين عامي (1930 – 1931م)، ولما ترك الخدمة عاش في صحراء المغرب العربي بين البدو وتأثر بهم وكتب عنهم، ويعد كتابه “الرسول” واحدا من ثمار هذا التأثر.