مقالاتمقالات مختارة

” الغِشُّ السياسيُ” غِشُّ الراعي للرعية

” الغِشُّ السياسيُ” غِشُّ الراعي للرعية

الشيخ أ. د. حسام الدين عفاتة

يقول السائل:ذكرتَ في الحلقة السابقة من”يسألونك”حديث النبي صلى الله عليه وسلم:(مَنْ غَشَّنَا،فَلَيْسَ مِنَّا) فأرجو أن تبين لنا نوعاً خطيراً من الغِش وهو غِشُّ الراعي للرعية،أفيدونا؟

الجواب:

أولاً:لا شك أن غِشَّ الراعي للرعية من أخطر أنواع الغِش وأعظمها ضرراً على الأمة،ونستطيع أن نسميه”الغِش السياسي”وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها:عن معقل بن يسار المزني رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:(مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً،يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ،إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)رواه مسلم.

وفي رواية أخرى قَالَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(ما مِن عَبْدٍ اسْتَرْعاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً،فَلَمْ يَحُطْها بنَصِيحَةٍ،إلَّا لَمْ يَجِدْ رائِحَةَ الجَنَّةِ)رواه البخاري ومسلم.

وفي رواية لمسلم:(ما مِن أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ المُسْلِمِينَ،ثُمَّ لا يَجْهَدُ لهمْ وَيَنْصَحُ،إِلَّا لَمْ يَدْخُلْ معهُمُ الجَنَّةَ)

ومعنى (لا يَجْهَدُ) أي لا يبذل جهدهُ وطاقته.

وهذا الحديث برواياته يدلُّ على خطر الولاية وعظم مسؤوليتها أمام الله سبحانه وتعالى،وهو عامٌ في كل مسؤولية يتولاها المسلم،ابتداءً من منصب الحاكم والوزير والوكيل والمدير والزوج والزوجة،وانتهاءً بأي ولايةٍ وإن صغرت.ويدل على ذلك عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:(كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ،الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ،وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ،وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا،وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ ومَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ،قَالَ:وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ:وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ- وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)رواه البخاري ومسلم.

وفي هذا الحديث التحذير الشديد من غش الراعي الرعيةَ،وأنه من كبائر الذنوب.

وعن عائذ بن عمرو المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إنَّ شرَّ الرِّعَاءِ الحُطَمَةُ) رواه مسلم.والحُطَمةُ:صيغة مبالغة من الحطم،وأصل الحطم كسر الشَّيء اليابِس،والحَطِم:السَّواق بعنفٍ كَأَنَّه يحطم الأنعام بعضها بِبَعض فهو عنيف في سوقها،ويدخل في عموم الحديث الحكام الظلمة المفسدون الذي يبطشون ويسوسون رعيتهم بالقهر والظلم والعسف والجبروت ولا يرفقون في معاملتها.

وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنه أن النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال:(لا يَستَرعي اللهُ تَبارك وتَعالى عبدًا رعيَّةً،قَلَّتْ أو كَثُرَتْ،إلَّا سَأَلَه اللهُ تَبارك وتَعالى عنها يَومَ القيامَةِ،أقامَ فيهم أمْرَ اللهِ تَبارك وتَعالى أم أضاعَه؟حتى يَسأَلَه عن أهْلِ بَيتِه خاصَّةً)رواه أحمد وصححه الشيخ شعيب الأرناؤوط.

وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عن قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(ما مِنْ أَمِيرِ عَشَرَةٍ إِلا جيء بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولَةٌ يَدُهُ إلى عُنُقِهِ حَتَّى يُطْلِقَهُ الْحَقُّ أَوْ يُوبِقَهُ وَمَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ لَقِىَ اللَّهَ وَهُوَ أَجْذَمُ)رواه أحمد.

وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عن أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:(مَا مِنْ أَمِيرِ عَشَرَةٍ إِلاَّ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولَةٌ يَدَاهُ إلى عُنُقِهِ أَطْلَقَهُ الْحَقُّ أَوْ أَوْثَقَهُ)رواه الدارمي،وقال العلامة الألباني حسن صحيح في صحيح الترغيب والترهيب.وغير ذلك من الأحاديث.

قال الإمام النووي:[قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) هَذَا الْحَدِيثُ وَالَّذِي بَعْدَهُ سَبَقَ شَرْحُهُمَا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ،وَحَاصِلُهُ:أَنَّهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ،أَحَدُهُمَا:أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِلًّا لِغِشِّهِمْ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ،وَيَخْلُدُ فِي النَّارِ.

وَالثَّانِي:أَنَّهُ لَا يَسْتَحِلُّهُ فَيَمْتَنِعُ مِنْ دُخُولِهَا أَوَّلَ وَهْلَةٍ مَعَ الْفَائِزِينَ،وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ:(لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ)أَيْ:وَقْتَ دُخُولِهِمْ،بَلْ يُؤَخَّرُ عَنْهُمْ عُقُوبَةً لَهُ إِمَّا فِي النَّارِ وَإِمَّا فِي الْحِسَابِ،وَإِمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ .

وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ:وُجُوبُ النَّصِيحَةِ عَلَى الْوَالِي لِرَعِيَّتِهِ،وَالِاجْتِهَادِ فِي مَصَالِحِهِمْ،وَالنَّصِيحَةِ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ،وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ قَبْلَ حَالَةِ الْمَوْتِ نَافِعَةٌ]شرح النووي على صحيح مسلم 2/345.

وقال القاضي عياض:[ معناهُ بيِّنٌ في التحذير من غِش المسلمين لمن قلده الله تعالى شيئاً من أمرهم واسترعاه عليهم ونصبه لمصلحتهم في دينهم أو دنياهم، فإذا خان فيما اؤتمن عليه فلم ينصح فيما قلده إما بتضييعه تعريفهم ما يلزمهم من دينهم،وأخذهم به،وإما بالقيام بما يتعين عليه من حفظ شرائعهم والذب عنها لكل متصدٍّ لإدخال داخلةٍ فيها أو تحريف لمعانيها أو إهمال حدودهم،أو تضييع حقوقهم،أو ترك حماية حوزتهم،ومجاهدة عدوهم،أو ترك سيرة العدل فيهم،فقد غشَّهم.قال القاضي:وقد نبه صلى الله عليه وسلم على أن ذلك من الكبائر الموبقة المبعدة عن الجنة.] المصدر السابق.

وقال القرطبي المحدث:[قوله صلى الله عليه وسلم( مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللّهُ رَعِيَّةً) الحديث هو لفظٌ عامٌ في كل من كُلِّف حفظ غيره،كما قال صلى الله عليه وسلم:(كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) فالإمام الذي على الناس راعٍ وهو مسئولٌ عن رعيته،وهذا الرجل في أهل بيته والولد والعبد،والرعاية:الحفظ والصيانة،والغِش ضد النصيحة، وحاصله راجعٌ إلى الزجر عن أن يُضيَّع ما أُمر بحفظه، وأن يقصِّر في ذلك مع التمكن من فعل ما يتعين عليه] المفهم شرح صحيح مسلم 1/353–354.

ثانياً:إن واقع الأمة المسلمة في زماننا محزنٌ ومؤسفُ، حيث افترق السلطان عن الدِّين والقرآن،مما أدى إلى تولي الظلمة مقاليد الأمور،فسعوا في الأرض فساداً وإفساداً،قال شيخ الإسلام ابن تيمية:[إن انفرد السلطان عن الدِّين،أو الدِّين عن السلطان،فسدت أحوالُ الناس] السياسة الشرعية لابن تيمية 460.

ومظاهر غش الحكام للرعية في زماننا كثيرة جداً منها:

(1)تخلي الحكام عن الحكم بما أنزل الله عز وجل،لذا استحقوا الوعيد الشديد لذلك،قال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} سورة المائدة الآية 44،وقال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} سورة المائدة الآية 45،وقال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} سورة المائدة الآية 47.

(2) سياسةُ الأمة بالقسوة والغلظة والشدة،وما يجري للمسلمين في ديار المسلمين من قتلٍ وذبحٍ وتشريدٍ واعتقالٍ،معروفٌ ومشهورٌ.يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ) رواه مسلم.

(3) فقدانُ العدل غالباً في بلاد المسلمين مما دفع كثيراً من الناس إلى الهجرة من بلادهم،والفرار إلى دول الغرب كما هو حال الملايين من الشعب السوري الذين لجأوا إلى تركيا وأوروبا.يقول تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} سورة النساء الآية 58، وقال تعالى:{ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } سورة المائدة الآية 49.

(4) من أعظم غِشِّ الحكام وخيانتِهِم للرعية تولية المناصب لمن ليس أهلاً لها من أولادهم وأقاربهم وجماعتهم،مع وجود من هو أولى وأصلح،فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(مَنِ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ عِصَابَةٍ وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وخانَ رَسُولَهُ وخانَ الْمُؤْمِنِينَ) رواه الحاكم وصححه.

ورواه الطبراني بلفظ:( مَنْ تَوَلَّى مِنْ أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِذَلِكَ وَأَعْلَمُ مِنْهُ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، فَقَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَجَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ ).قال الهيثمي في مجمع الزوائد :” فيه أبو محمد الجزري حمزة ولم أعرفه،وبقيَّه رجاله رجال الصحيح”.

وقال صلى الله عليه وسلم:(مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدًا مُحَابَاةً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ) رواه الحاكم وصححه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ. قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: إِذَا أُسْنِدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ)رواه البخاري.

(5) غش الأمة في رعاية مصالحها العامة، وهذا أمرٌ ظاهرٌ في كثيرٍ من بلاد المسلمين،حيث تجد ضعف التعليم والصحة، وانتشار البطالة بين الشباب، وتدني الرواتب والأجور،وعدم توفير الحاجات الأساسية للناس كالخبز والمياه،وسوء أحوال الطرق والكهرباء،واختلال الأمن والأمان، وغير ذلك.

(6) غش الأمة في المال العام، فقد سيطر الحكام وحاشيتهم على خيرات الأمة ونهبوها،وحولوا البلاد إلى مزارع شخصية لهم ولزوجاتهم ولأعوانهم،واستولوا على الملايين،وحولها إلى حساباتهم الشخصية في بنوك العالم.

وغير ذلك من مظاهر غش الحكام للرعية، ويكفينا قول النبي صلى الله عليه وسلم 🙁 إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ)رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح”. وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود، وفي صحيح الجامع وفي السلسلة الصحيحة.

قال الإمام النووي:[أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلُّونَ]مَعْنَاهُ: أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي أَخَافُهَا عَلَى أُمَّتِي، أَحَقُّهَا بِأَنْ تُخَافَ: الْأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ]شرح النووي على صحيح مسلم 18/64.

والمراد بالأئمة المضلين هم الذين يتبعهم الناس من الحكام الظلمة الفسدة،والعلماء الفسقة الفجرة،والعُبَّاد الجهلة،فيضلون الناس عن كتاب الله عز وجل وعن هدي النبي صلى الله عليه وسلم،ولا شك أن ضلال هؤلاء الأصناف الثلاثة فيه ضلالٌ لمتبعيهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:[فالأئمة المضلون هم الأمراء] مجموع الفتاوى 1/355 .

وقال الشيخ العثيمين:[(الأئمة المضلين)، أئمة الشر، وصدق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إن أعظم ما يخاف على الأمة الأئمة المضلون؛كرؤساء الجهمية والمعتزلة وغيرهم الذين تفرقت الأمة بسببهم.

والمراد بقوله: «الأئمة المضلين» : الذين يقودون الناس باسم الشرع، والذين يأخذون الناس بالقهر والسلطان؛ فيشمل الحكام الفاسدين، والعلماء المضلين، الذين يدعون أن ما هم عليه شرع الله، وهم أشد الناس عداوة له] مجموع رسائل وفتاوى العثيمين 9/477.

ثالثاً:وأخيراً أختم بصورتين مشرقتين من تاريخنا الإسلامي في بيان ما كان عليه حال الحكام،فقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب يوماً فقال:( ألا إنما أبعثُ عُمَّالي ليُعلِّموكم دِينَكُمْ وليُعلِّموكم سُنَّتَكُمْ ولا أبعثهم ليَضربوا ظهوركم ولا ليَأخذوا أموالكم,ألا فمن رابَهُ شيٌء من ذلك فليرفعْهُ إليَّ فوالذي نفسُ عمرَ بيدِهِ لأُقِصَّنَّكُمْ منهُ.فقام عمرو بنُ العاصِ فقال يا أميرَ المؤمنينَ,إن بعثتَ عاملًا من عُمَّالِكَ فأَدَّبَ رجلًا من رعيتِهِ فضربَهُ إنك لمُقِصَّهُ منهُ ؟ قال:نعم,والذي نفسُ عمرَ بيدِهِ لأُقِصَّنَّ منهُ,وقد رأيتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُقِصُّ من نفسِهِ,أَلَا لَا تَضْرِبُوا الْمُسْلِمِينَ فَتُذِلُّوهُمْ،وَلَا تَمْنَعُوهُمْ حُقُوقَهُمْ فَتُكَفِّرُوهُمْ،وَلَا تُجَمِّرُوهُمْ فَتَفْتِنُوهُم،وَلَا تُنْزِلُوهُمُ الْغِيَاضَ فَتُضَيِّعُوهُمْ) رواه أحمد وغيره.

والغِياض: جمع غَيْضة، وهي الشجر المُلْتَف؛ لأنهم إذا نزَلُوها تفرَّقوا فيها، فتمكََّن منهم العدوُّ.

وورد في الوصية الرائعة التي أرسلها الإمام الحسن البصري،إلى الخليفة الراشد عمرَ بنِ عبد العزيز رضي الله عنه:[ اعلم يا أمير المؤمنين،أنَّ اللهَ جعل الإمامَ العادلَ قِوَام كلِّ مائل،وقَصْدَ كلِّ جائرٍ،وصلاحَ كلِّ فاسدٍ،وقوةَ كلِّ ضعيفٍ،ونَصَفَةَ- إنصاف – كلِّ مظلوم،ومَفْزَعَ كلِّ ملهوف.

والإمام العادل – يا أمير المؤمنين – كالرَّاعي الشفيقِ على إبلِهِ،الرفيقِ بها،الذي يَرتَادُ لها أطيبَ المراعي،ويذودُهَا عن مَرَاتِعِ الهَلَكة،ويحميها منَ السِّبَاعِ،ويُكنُّهَا من أذى الحرِّ والقَرِّ.

والإمام العادل – يا أمير المؤمنين – كالأبِ الحاني على وَلدِه،يسعى لهم صغاراً،ويعلمهم كباراً؛يكتسبُ لهم في حياته،ويدَّخِرُ لهم بعدَ مماتِهِ.

والإمام العدل – يا أمير المؤمنين – كالأمِّ الشفيقةِ البرَّةِ الرَّفِيقَةِ بولدها،حملتهُ كُرْهَاً،ووضعتهُ كُرْهَاً،وربَّتهُ طِفْلاً تسهرُ بسهرِهِ،وتسكنُ بسكونِهِ،ترضعُهُ تارةً وتفْطمُهُ أخرى،وتفرَحُ بعافيتِهِ،وتغْتَمُّ بشكَايَتِهِ.

والإمام العدل – يا أمير المؤمنين – وَصِيُّ اليتامى،وخازنُ المساكينِ،يُرَبِّي صغيرَهم،ويمونُ كبيرَهُم.

والإمام العدل – يا أمير المؤمنين -كالقلبِ بينَ الجوارِحِ،تَصْلُحُ الجوارحُ بصلاحِهِ،وتَفْسُدُ بفسادِهِ.

فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما مَلَّكَكَ اللهُ عزَّ وجلَّ كعبدٍ ائتمَنَهُ سيدُهُ،واستحفَظَهُ مَالَهُ وعيَالَهُ،فَبَدَّدَ المالَ وشَرَّدَ العيَالَ،فأفقرَ أهلَهُ،وفَرَّقَ مالَهُ] الحسن البصري لابن الجوزي والعقد الفريد لابن عبد ربه 1/12.

رابعاً:إن الحاكم في الإسلام ليس مطلق الصلاحيات، يفعلُ ما يريد بلا حسيبٍ ولا رقيبٍ،بل هو مقيدٌ بشرع الله عز وجل،وهو غير معصومٍ من الخطأ والزلل،لذلك واجبٌ على الأمة أن تنصحه وتراقبه وتحاسبه إن أخطأ ويُعزل إن ارتكب ما يستوجب العزل.عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِي رضي الله عنه أَنَّ النبى صلى الله عليه وسلم قَالَ:(الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلْنَا: لِمَنْ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ)رواه مسلم.

وقال أبو بكر الصديق يوم أن بويع بالخلافة:[أَيّهَا النّاسُ!فَإِنّي قَدْ وُلّيت عَلَيْكُمْ وَلَسْت بِخَيْرِكُمْ,فَإِنْ أَحْسَنْت فَأَعِينُونِي؛وَإِنْ أَسَأْت فَقَوّمُونِي.الصّدْقُ أَمَانَةٌ وَالكَذِبُ خِيَانَةٌ.وَالضّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيّ عِنْدِي حَتّى أُرِيحَ عَلَيْهِ حَقّهُ إنْ شَاءَ اللهُ,وَالقَوِيّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ عِنْدِي حَتّى آخُذَ الحَقّ مِنْهُ إنْ شَاءَ اللهُ.لا يَدَعُ قَوْمٌ الجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللّهِ إلا ضَرَبَهُمْ اللّهُ بِالذّلّ.وَلا تَشِيعُ الفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطّ إلا عَمّهُمْ اللّهُ بِالبَلَاءِ.أَطِيعُونِي مَا أَطَعْت اللّهَ وَرَسُولَهُ,فَإِذَا عَصَيْتُ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَلا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ.قُومُوا إلَى صَلاتِكُمْ يَرْحَمُكُمْ الله] رواه عبد الرزاق في مصنفه والبيهقي في السنن الكبرى وقال ابن كثير :إسناده صحيح.

وخلاصة الأمر:
أن غِشَّ الراعي للرعية من أخطر أنواع الغِش وأعظمها ضرراً على الأمة،ونستطيع أن نسميه”الغِش السياسي.

وأن قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً،يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ،إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) أصل في هذا الباب وورد في معناه أحاديثُ كثيرةٌ.

وأن هذا الحديث برواياته يدلُّ على خطر الولاية وعِظم مسؤوليتها أمام الله سبحانه وتعالى،وهو عامٌ في كل مسؤولية يتولاها المسلم،ابتداءً من منصب الحاكم والوزير والوكيل والمدير والزوج والزوجة،وانتهاءً بأي ولايةٍ وإن صغرت.

وأن مظاهر غش الحكام للرعية في زماننا كثيرةٌ جداً.

وأن خروج الحاكم على الأمة هو السائد الغالب في زماننا، وليس خروج الأمة على الحاكم.

وأن الحاكم في الإسلام ليس مطلق الصلاحيات، يفعلُ ما يريد بلا حسيبٍ ولا رقيبٍ،بل هو مقيدٌ بشرع الله عز وجل،وهو غير معصومٍ من الخطأ والزلل،لذلك واجبٌ على الأمة أن تنصحه وتراقبه وتحاسبه إن أخطأ، ويُعزل إن ارتكب ما يستوجب العزل.

والله الهادي إلى سواء السبيل

(المصدر: شبكة يسألونك الإسلامية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى