مقالاتمقالات مختارة

جدليات الوقف والمقاصد والعمران في الحضارة الإسلامية

بقلم إبراهيم البيومي غانم – موقع الأمة

شكَّل نظام الوقف قاعدة مادية ومعنوية صلبة للعمران في الحضارة الإسلامية في عصور ازدهارها. حتى إن أغلب إنجازات هذه الحضارة تدين للوقف في مختلف المجالات ببناء وتمويل المساجد في المجال الديني، وتشييد المدارس والجامعات في المجال التعليمي، وتعمير القصور والفنادق والخانات والأسواق في المجال المدني، وبناء الحصون والقلاع والأسوار والأربطة في المجال الحربي، والبيمارستانات والمستشفيات والصيدليات في المجال الصحي، والمكتبات العامة في المجال الثقافي. وساهم الوقف أيضاً في مجال الترفيه والفنون. وارتبطت الفنون الجميلة في نشأتها وتطورها ببعض الأنظمة الشرعية. وساهمت تلك الأنظمة بدور كبير وممتد – عبر أحقاب زمنية متطاولة – في غرس تلك الفنون وجمالياتها في الوعي الاجتماعي العام. وكان نظام الوقف من أهم تلك الأنظمة الشرعية التي نمت في ظلها الفنون الجميلة وتنوعت وازدهرت على مر العصور.

وقد كشفنا في دراسة سابقة لنا بعنوان «مقاصد الشريعة في مجال الوقف»، أن نظام الوقف الإسلامي كان له دور فاعل وحيوي في خدمة المقاصد العامة للشريعة بصفة عامة. كما أن نظام الوقف دعم القيم الجمالية والفنية في حضارتنا الإسلامية ووضعها في خدمة مقاصد الشريعة أيضاً. وقد لا يعرف الكثيرون أن الفضل يرجع إلى نظام الوقف الإسلامي في وجود وبقاء عدد من المباني والمنشآت الأثرية ذات القيمة التاريخية والفنية والمعمارية التي نستمتع بمشاهدتها، وتزخر بها معظم المدن والحواضر العربية والإسلامية، ومن أهم هذه الآثار الوقفية: المساجد، والجوامع، والأسبلة، والتكايا، والحمامات الشعبية، والأسواق، والقيساريات، والقصور، والقباب، والأضرحة والمقامات، والمزارات، والقلاع والحصون والأسوار الحربية؛ ومثل تلك الآثار تزينها -في أغلب الحالات- نقوش بديعة، وزخارف ورسوم رائعة الجمال، فضلاً عن محتوياتها من أعمال الفنون الجميلة مثل التحف، والمقتنيات النادرة من السيوف، والمنابر، والمصاحف، والمخطوطات، والقناديل، والثريات، والأواني، والمشغولات الذهبية والفضية، والسجاجيد، وما شابه ذلك.

و«الوقف» في أصله الشرعي سنة حضّ القرآن الكريم على العمل بها في بعض آياته، مثل قوله تعالى: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران:92)، كما حضّ عليها الرسول (صلى الله عليه وسلم) في بعض أحاديثه، ومنها قوله: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له». وكان (صلى الله عليه وسلم) أول من أنشأ وقفاً، وكان وقفه عبارة عن سبع بساتين أوصى بها للفقراء والمساكين وذوي الحاجة، واقتدى به كل قادر من أصحابه، حتى قال الخصاف إنه لم يعرف أحد منهم له مال إلا ووقف وقفاً لينفق من ريعه في وجه أو أكثر من وجوه البر والمنافع العامة أو الخاصة.

والملاحظ أن «باب الوقف» هو من الأبواب الثابتة في كل مصادر الفقه الإسلامي بكل مذاهبه، وهو مليء بالاجتهادات والآراء والأفكار التي عالجت مسائل الوقف من مختلف الجوانب. وفي البحث في التاريخ المعرفي لفقه الوقف تبيَّن لنا أنه كان أول فرع من فروع الفقه الإسلامي يستقل بذاته، وتُفرد له مؤلفات خاصة به، وذلك منذ منتصف القرن الثالث الهجري على يد هلال بن يحيى المعروف بهلال الرأي (ت 245 هـ). وجاء من بعده بقليل من السنوات أبو بكر الخصاف الحنفي (ت 261) الذي ألف أشهر كتاب وهو كتاب «أحكام الأوقاف»؛ الذي لا يزال مرجعاً أساسياً في موضوعه.

ويستفاد من فقه الوقف أن الفقهاء بذلوا جهودًا مضنية لوضع أصول البناء المؤسسي لنظام الوقف على النحو الذي يحافظ على حرمته، ويضمن له استمرار النمو والعطاء اللذين يكفلان تحقيق الغاية منه في خدمة الترقي الاجتماعي العام. وتتلخص تلك الأصول في ثلاثة مبادئ كبرى هي:

أ‌- احترام إرادة الواقف: «إرادة الواقف» المقصودة هنا هي التي يقوم بالتعبير عنها – في وثيقة وقفه – في صورة مجموعة من الشروط التي يحدد بها كيفية إدارة أعيان الوقف، وتقسيم ريعه، وجهات الاستحقاق من هذا الريع، ويطلق على تلك الشروط في جملتها اصطلاح «شروط الواقف»، وقد أضفى الفقهاء عليها صفة الإلزام الشرعي فقالوا: إن «شرط الواقف كنص الشارع»، في لزومه ووجوب العمل به.

وعلى ذلك نظروا إلى وثيقة الوقف (الحجة) باعتبارها «دستورًا» واجب الاحترام، وأن أحكامه واجبة التطبيق، ولكنهم حدّدوها بأن تكون محققة لمصلحة شرعية، وموافقة للمقاصد العامة للشريعة، وأبطلوا كل شرط يؤدي إلى إهدار مصلحة معتبرة؛ وبذلك توافرت للأوقاف ومؤسساتها حماية شرعية، وحرمة معنوية؛ وكانت – هذه وتلك – من عناصر فاعليتها، ومن أهم أسباب زيادة الطلب الاجتماعي لها.

إن الإرادة الحرة للواقف هي حجر الزاوية في بناء نظام الوقف كله على صعيد الممارسة الواقعية، ولم يكن لهذا النظام أن يظهر وينمو وتتنوع وظائفه من دون تلك الإرادة، التي كفلت له أحد عناصر فاعليته؛ ولذلك فقد أضفى عليها الفقهاء صفة الحرمة، وأكسبوها قوة الإلزام.

ب‌ – اختصاص السلطة القضائية بالولاية العامة على الأوقاف: قرر الفقهاء أن الولاية العامة على الأوقاف هي من اختصاص السلطة القضائية وحدها من دون غيرها من سلطات الدولة، وتشمل هذه الولاية ولاية النظر الحسبي أو ما يسمى الاختصاص الولائي، وولاية الفصل في النزاعات الخاصة بمسائل الأوقاف، أو ما يسمى الاختصاص القضائي. وما يهمنا هنا هو «الاختصاص الولائي» الذي يشمل شؤون النظارة على الوقف وإجراء التصرفات المختلفة المتعلقة به؛ بما في ذلك استبدال أعيانه عند الضرورة، والإذن بتعديل شروط الواقف أو بعض منها، والحكم بإبطال الشروط الخارجة عن حدود الشرع وفقًا لمقاصده العامة.

ومن الواضح أن مثل تلك التصرفات من شأنها التأثير في استقلالية الوقف، ومن ثم في فاعلية النشاطات والمؤسسات العمرانية التي ترتبط به، وتعتمد في تمويلها عليه؛ ولهذا أعطى الفقهاء للقضاء – وحده من دون غيره – سلطة إجراء التصرفات في الحالات التي تعرض للوقف بما يدفع عنه الضرر ويحقق له المصلحة، باعتبار أن القضاء هو المختص بتقدير مثل هذه المصالح، ولكونه أكثر الجهات استقلالية ومراعاة لتحقيق العدالة وعدم تفويت المصلحة العامة والخاصة.

ويمكن القول إن بقاء نظام الوقف تحت الاختصاص الولائي للسلطة القضائية الشرعية كان أحد عناصر ضمان استقلاليته واستقراره وفعاليته، وبالتالي فإن إلغاء هذا الاختصاص، أو إخراج الوقف من تحت مظلته يضعف استقلاليته ويقوّض أساساً من أسس فاعليته الحضارية والمقاصدية.

جـ – تمتع الوقف بالشخصية الاعتبارية: يستفاد من أحكام فقه الوقف وتفريعاته – لدى كل المذاهب الفقهية كما أسلفنا، مع ما بينها من اختلافات – أن الوقف يصبح محلاً لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات متى عقد بإرادة صحيحة صادرة من ذي أهلية في ما يملكه، ومتى كان متجهاً لتحقيق غرض مشروع من أغراض البر والمنافع العامة أو الخاصة، وينطبق ذلك على أعيان الوقف وعلى المشروعات التي تنشأ تحقيقاً لأغراض الواقف وشروطه.

إن إقرار الشخصية الاعتبارية للوقف كان بمثابة ضمانة تشريعية وقانونية تدعم الضمانتين السابقتين، وتضاف إليهما للحفاظ على استقلاليته واستمراريته وفعاليته في آن واحد؛ وذلك لأن وجود ذمة مستقلة للوقف لا تنهدم بموت الواقف كان من شأنه دوماً أن يحفظ حقوقه في حالة تعرضه للغصب، أو الاعتداء، حتى ولو كان من قبل السلطات الحكومية. وإلى ما قبل العصر الحديث، وقبل الدولة الحديثة في العالم العربي والإسلامي كان من الصعب إقدام تلك السلطات على إدماج أموال الوقف ومؤسساته في الإدارة الحكومية أو إخراجها عن إطارها الشرعي والوظيفي الذي أنشئت من أجله.

في ضوء ما قرره الفقهاء من أصول نظرية قانونية وفرت لنظام الوقف ضمانات استقلاليته الإدارية والوظيفية، تبلورت عناصر مؤسسية وتنظيمية ساهمت في تفعيل هذا النظام عبر الممارسة الاجتماعية وتراكماتها الحضارية، مع ملاحظة أن ثمة علاقة جدلية مستمرة ربطت بين اجتهادات الفقهاء وبين ممارسات المجتمع والمقاصد العامة للشريعة.

وتتلخص أهم عناصر فاعلية الممارسة الحضارية لنظام الوقف في الآتي:

أ – المؤسسية

تعتبر «المؤسسية» من أهم العناصر التي كفلت فاعلية نظام الوقف في الممارسة العملية، وقد تجلت أهمية هذا العنصر منذ البدايات الأولى لنشأة الوقف، وكان من الطبيعي في تلك البدايات الأولى أن تتسم المؤسسية بالبساطة والبعد عن التعقيد، ومحدودية العلاقات التنظيمية والإدارية، ثم تطورت بمرور الزمن، وتعقدت بفعل استمرارية التراكم التاريخي، وأصبحت كثيفة العلاقات سواء على المستوى الخاص بكل مؤسسة وقفية على حدة، أم على المستوى العام، ولجهة ارتباط نظام الوقف بغيره من النظم الفرعية الأخرى في المجتمع.

لقد نشأ الوقف لبنةً في صلب البناء المؤسسي للنظام الاجتماعي الإسلامي نفسه، ولم ينشأ متأخراً عنه أو لاحقاً له، وقد وفرت الاجتهادات الفقهية لنظام الوقف مجموعة من القواعد والإجراءات والمعايير التي كفلت له الانتظام الإداري والانضباط الوظيفي، والفاعلية في الأداء، وجنبته العشوائية، وتجسد ذلك في كثير من الأمور؛ منها إثبات الوقف في صك مكتوب هو حجة الوقف، وتسجيل كل التصرفات التي تطرأ عليه، وحفظ كل وثائقه وأرشفتها، ووضع قواعد للمحاسبة والرقابة وتحديد الوظائف، وتعيين موظفين، وتقسيم العمل بينهم، مع وضع أهداف محددة للمؤسسة الوقفية …إلخ، وكلها عناصر أساسية لا غنى عنها لوجود أي مؤسسة، ولتمكينها من أداء وظائفها، ومدها بأسباب البقاء.

ب – استقلالية الإدارة والتمويل

استند عنصر استقلالية نظام الوقف الى الإرادة الحرة للواقف من ناحية، وتدعمت هذه الاستقلالية من ناحية أخرى من طريق السلطة القضائية التي كان لها كما سبق أن ذكرنا – الولاية العامة على شؤون الوقف، واستوى في ذلك وقف السلطان – بصفته الشخصية أو بكونه حاكماً – مع وقف الشخص العادي. ومن المعروف أن الأصل في الإرادة الفردية هو الحرية، كما أن الأصل في سلطة القاضي هو الاستقلال، وعلى ذلك فالمؤسسة الوقفية ولدت بإرادة حرة، واستظلت بسلطة مستقلة، وارتبطت فعاليتها – إلى حد كبير – بمدى تحقق تلك الاستقلالية. وعبر الممارسة الاجتماعية التاريخية برزت أهم سمتين لاستقلالية نظام الوقف في جانبين، هما:

– الاستقلال الإداري؛ اذ اعتمدت إدارة الوقف والمؤسسات الوقفية على القواعد والشروط التي وضعها الواقفون أنفسهم وأثبتوها في نصوص وقفياتهم، من دون تدخل من أي سلطة إدارية حكومية، ومن ثم لم يتم استيعاب الأوقاف داخل الجهاز الإداري للدولة، إلا في الحالات الاستثنائية التي كانت تنتفي فيها إمكانية وجود إدارة أهلية مستقلة. وفي الوقت الذي اتسمت فيه إدارة الأوقاف بالاستقلالية والتسيير الذاتي، غلب عليها – تاريخيًّا – نمط الإدارة العائلية -، التي كانت لها إيجابيات تمثلت أهمها في الحرص على أعيان الوقف والالتزام بتنفيذ شروط الواقفين، وكانت لها – أيضاً – سلبيات تمثلت أهمها في الإهمال وعدم المحاسبة وكثرة الخلافات، والمنازعات بين الناظر والمستحقين.

– الاستقلال المالي؛ اذ اعتمدت المؤسسات الوقفية على التمويل الذاتي من ريع الوقفيات المخصصة لها، ولم تكن الدولة تقدم لها أية مساعدات مالية تذكر، بل إنه – في أغلب الحالات – لم يتم إعفاء أموال الوقف من الضرائب الخراجية والعشورية (في الأراضي الزراعية)، وغير ذلك من الرسوم التي فرضت على العقارات والممتلكات، وكانت تؤدى لخزينة الدولـة باسم «النوائب» أو «أموال الميري».

جـ – اللامركزية

تجلى عنصر «اللامركزية» في نظام الوقف عبر الممارسة الاجتماعية في الناحية الإدارية؛ اذ لم تظهر إدارة مركزية موحدة تتولى شؤون كل الأوقاف في الدولة، بل وجدت «إدارات» متعددة غلبت عليها الصفة المحلية، وكان أساس عملها هو «التسيير الذاتي» وفقاً لشروط الواقف، وتحت إشراف القاضي، وبعيداً من الاندماج في جهاز الإدارة الحكومية، ولم يظهر النمط المركزي في إدارة الأوقاف إلا في ظل الدولة الحديثة التي نشأت في العالَمين العربي والإسلامي على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين.

كما تجلت «اللامركزية» كأحد عناصر فاعلية نظام الوقف أيضاً في الناحية الوظيفية – أو الخدماتية – حيث لم تتركز الخدمات التي قدمها الوقف في مجال دون غيره، كما لم تقتصر تلك الخدمات على فئة ما، أو في جماعة دون أخرى، بل انتشرت على أوسع رقعة من النسيج الاجتماعي للأمة ومرافقها العامة بتكويناتها المختلفة؛ بغض النظر عن الجنس، أو الدين أو المكانة، أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي، ولم تنحصر ممارسة الوقف ولا خدماته في المراكز الحضرية دون غيرها من البوادي والأرياف والمناطق النائية، بل شملت كل تلك الجهات، بنسب متفاوتة بطبيعة الحال.

وتكشف الممارسة التاريخية أيضاً أن الأوقاف استفادت من تعددية المذاهب والاجتهادات الفقهية في دعم استقلاليتها وتقوية فعاليتها في الاستجابة للحاجات المحلية التي تختلف من جهة لأخرى، وبما أنه لم يكن هناك مركز فقهي واحد مُلزم للجميع – بل تعددت المذاهب والاختيارات – فقد أدى ذلك إلى إضفاء قدر كبير من المرونة على نظام الوقف، وظل هذا التوجه قائماً حتى مشارف العصر الحديث إلى أن تم اعتماد مذهب رسمي للدولة في بعض الحالات.

وكفلت تلك الأسس الفقهية والمؤسسية لنظام الوقف – قبل أن تسيطر عليه الدولة الحديثة في المجتمعات العربية والإسلامية – أن يكون مصدراً للتمويل الأهلي يتمتع بثلاث خصائص هي الاستقرار Stability– والاستمرار Sustainabilityوالاستقلال Independency.

أما «الاستقرار» فلأن أصوله المادية تنتمي إلى أثبت دعائم الثروة الاقتصادية في المجتمع وهي «العقارات والأراضي الزراعية»، التي تمثل العمود الفقري لاقتصاديات نظام الوقف، والتي تولد النسبة الأكبر من عوائده.

وأما «الاستمرار» فلأن من شروط الوقف – عند غالبية المذاهب الفقهية – أن يكون مؤبداً، ولا يجوز الرجوع فيه، وبخاصة إذا كان مخصصاً للإنفاق على أغراض خيرية، أو مؤسسات ذات نفع عام. ويضمن شرط التأبيد استمرار تدفق التمويل النتائج من الأعيان الموقوفة لفترات زمنية طويلة، شرط أن يتم استثمار تلك الأعيان وفقاً لأكفأ أساليب الاستثمار.

وأما «الاستقلال» فلأن الأصل في نظام الوقف برمته هو استقلال إرادة الواقف – مؤسس الوقف – وقدرته على تحديد أولويات صرف عوائده وتخصيصها للمنفعة العامة؛ من دون أن تكون لأي سلطة حكومية أو إدارية حق التدخل بتغيير إرادته طالما لم تخالف مقصداً عاماً من مقاصد الشريعة الإسلامية. ومعروف أن «المصلحة» هي جوهر المقاصد العامة للشريعة.

إن نظام الوقف «الفاعل» – في نموذجه التاريخي – كان بمثابة نسق فرعي من أنساق بناء الكيان العام للمجتمع بما في ذلك بناء سلطته السياسية، اذ اشتركت في بنائه، واستفادت منه في الوقت نفسه؛ ومن ثم فإن نظام الوقف لم يقم بمواجهة هذه السلطة أو خلق حركية اجتماعية مضادة لها – وإنما نشأ للقيام بدور تلقائي – وأساسي في الوقت نفسه – في مجال ضبط العلاقة بين الأمة (المجتمع) والسلطة السياسية بطريقة تجعل إمكانات تغلغل السلطة وهيمنتها على الكيان الاجتماعي في حدها الأدنى، وهو ما حدث على مر عصور الدولة الإسلامية التقليدية؛ إذ ظل حيز السلطة السياسية محصوراً في نطاق ضيق – هو نطاق النخبة – ومحدد الاختصاصات بالنسبة الى مؤسسات الأمة التي دعمها نظام الوقف باستمرار، وكان له دور أساسي في ضبط هذه العلاقة من خلال إسهامه في تلبية قسط كبير من مختلف الحاجات، وتوفير كثير من خدمات المرافق العامة التي عادة ما اتخذتها الدولة – في الخبرة الأوروبية وفي التجربة العربية المعاصرة – ذريعة لتمددها وبسط سلطتها على مختلف مناحي الحياة : مثل الحاجة للأمن، وللخدمة، وللمرافق العامة، وللتوظيف والحصول على فرص العمل، وعندما كانت تقدم الدولة تلك الحاجات والخدمات كانت تفرض في الوقت نفسه هيمنتها وتحكم سلطتها على المجتمع، لقد كانت تقدمها ترياقاً للقمع الذي تمارسه وتؤسس له، الأمر الذي استوجب نهضة المجتمع المدني في مواجهة تسلط المجتمع السياسي.

(المصدر: موقع الأمة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى