مقالاتمقالات المنتدى

معاناة المرأة في زمن موسى (17)

معاناة المرأة في الزواج

معاناة المرأة في زمن موسى (17)
معاناة المرأة في الزواج

بقلم د. عادل حسن يوسف الحمد ( خاص بالمنتدى)

المرأة مطلوبة لا طالبة، مرغوبة من الرجل، وهذا مما تحب المرأة أن تشعر به، تريد أن ترى الشباب يتقدَّمون لها طمعًا في الحصول على موافقتها، وهي تتخير منهم ما يطيب لها بحسب المواصفات التي تريد، والأحلام التي تبنيها لمستقبل حياتها الأسرية.
ولكن قد تعاني المرأة من توفُّر الصفات التي تبحث عنها في زوج المستقبل إذا كانت في مجتمع يقلُّ فيه الرجال بمثل هذه المواصفات التي تريد.
فالمرأة الصالحة ذات الدين اليوم لا تبحث عن المال ولا عن الشهرة، وإنما تبحث عن رجل صالح مستقيم الحال يظهر عليه أثر التمسُّك بدينه في طاعته لربِّه، وتظهر أخلاقه في تعاملاته مع الناس.

وهنا تظهر معاناة المرأة في رحلة الزواج، فقد يتقدَّم لها الكثير من الشباب ولكنها لا ترتضي دينهم، فتمرُّ عليها السنين وهي تنتظر، وغيرها يتقدَّم عليها في الزواج، والإنجاب، وتحقيق الأمومة، وهي تنتظر، لأنَّ صاحبة المبدأ لا تقبل بأي رجل تعيش معه.

هذه المعاناة التي تمرُّ بها المرأة اليوم في بعض المجتمعات، قد مرَّت بها المرأة الصالحة في مدينة مدين، في زمن موسى عليه السلام.
فرجال مدين تنقصهم المروءة، والغيرة على النساء، ورحمتهنَّ، وفيهم غلظة، وتعاملهم جاف مع النساء، كما مرَّ بنا في حلقة سابقة، ونُضيف في هذه الحلقة أنَّ الأمانة قليلة في رجال مدين، بدليل قول البنت لأبيها: ﴿يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ [القصص: 26].

فلو كانت صفة الأمانة منتشرة في رجال مدين، لما قالت هذه البنت لأبيها هذا الكلام، لأن الحاجة إلى من يرعى الغنم كانت قائمة قبل مجيء موسى عليه السلام، ولكن المانع من اتِّخاذ الأجير من أهل مدين فقدان صفة الأمانة أو ندرتها فيهم.
فالمرأة الصالحة تبحث عن زوج أمين، وقوي، وصاحب مروءة، وغيرة على نسائه.
والمرأتان ابنتا الرجل الصالح كانتا قد تربيتا على الأخلاق العالية، والتي ظهرت في تعاملاتهما في الحياة خارج البيت، وداخله.

أما خارج البيت فقد تربيتا على عدم الاختلاط بالرجال الأجانب، دل عليه قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ﴾ [القصص: 23].
كما تربيتا على أن الكلام مع الرجل الأجنبي يكون بقدر الحاجة، وفي وضوح تامٌّ، دلَّ عليه قوله تعالى عنهما: ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ [القصص: 23].
وقوله تعالى: ﴿قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ [القصص: 25].

قال ابن كَثِير رَحِمَهُ الله: ((وَهَذَا تَأَدُّبٌ فِي الْعِبَارَةِ لَمْ تَطْلُبْهُ طَلَبًا مُطْلَقًا لِئَلَّا يُوهِمَ رِيبَةً، بَلْ قَالَتْ: ﴿إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾، يَعْنِي لِيُثِيبَكَ وَيُكَافِئَكَ عَلَى سَقْيِكَ لِغَنَمِنَا)). (تفسير ابن كثير 6/ 205).
كما تربيتا على الحياء، والذي هو زينة المرأة الحقيقية، الذي تشعُّ منه بقية الأخلاق؛ فالحياء شعبة من شعب الإيمان. وقد أثَّر الحياء على حركتها خارج البيت، قال تعالى: ﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾ [القصص: 25].
إن المهمة التي خرجت من أجلها كانت صعبة جدًّا على نفسها، وهي دعوة موسى وهو غريب عنها إلى ملاقاة أبيها، وصعوبتها نابعة من شدَّة الحياء الذي تحلَّت به.

قال السَّعْدِي رَحِمَهُ الله: ((فجاءته ﴿تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾ وهذا يدلُّ عَلَى كرم عنصرها، وخُلقها الحسن، فإن الحياء من الأخلاق الفاضلة، وخصوصًا فِي النِّساء)). (تفسير السعدي 614).
فمثل هذه المرأة الحيية لا يصلح لها رجل قليل المروءة، فظٌّ غليظٌ، لا يغار على نسائه، وليس بأمين على أموال الناس، فكيف سيكون أمينًا على هذه المرأة؟!

إلا أن هذه الحيية لما وجدت الصفات التي تتمنَّاها كلُّ فتاة في الزوج قد تمثَّلت في نبي الله موسى، لمحت لأبيها برغبتها في الزواج منه، فقالت: ﴿يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ [القصص: 26].
قال السَّعْدِي رَحِمَهُ الله: ((أي: إن موسى أولى من استؤجر، فإنه جمع القوة والأمانة، وخير أجير استؤجر، من جمعهما، أي: القوة والقدرة عَلَى ما استؤجر عليه، والأمانة فيه بعدم الخيانة، وهذان الوصفان، ينبغي اعتبارهما فِي كل من يتولى للإنسان عملًا بإجارة أو غيرها. فإن الخلل لا يكون إلا بفقدهما أو فقد إحداهما، وأما باجتماعهما، فإن العمل يتمُّ ويكمل، وإنما قالت ذلك، لأنها شاهدت من قوة موسى عند السقي لهما ونشاطه، ما عرفت به قوته، وشاهدت من أمانته وديانته، وأنه رحمهما فِي حالة لا يرجى نفعهما، وإنما قصده بذلك وجه الله تعالى)). (تفسير السعدي 614).

إن هذا الوصف من المرأة لهذا الرجل الغريب لا يمكن أن يمرَّ على والدها مرور الكرام، وهو الذي ربَّاها على الحياء، وعلَّمها كيف تتعامل مع الرجال الأجانب، فأدرك مرادها بسرعة، واغتنم الفرصة.

قال ابن جرير رَحِمَهُ الله: ((وَقِيلَ: إِنَّهَا لَمَّا قَالَتْ ذَلِكَ لِأَبِيهَا، اسْتَنْكَرَ أَبُوهَا ذَلِكَ مِنْ وَصْفِهَا إِيَّاهُ فَقَالَ لَهَا: وَمَا عِلْمُكِ بِذَلِكَ، فَقَالَتْ: أَمَّا قُوَّتُهُ فَمَا رَأَيْتُ مِنْ عِلَاجِهِ مَا عَالَجَ عِنْدَ السَّقْيِ عَلَى الْبِئْرِ، وَأَمَّا الْأَمَانَةُ فَمَا رَأَيْتُ مِنْ غَضِّ الْبَصَرِ عَنِّي. وَبِنَحْوِ ذَلِكَ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ)). (جامع البيان 18/ 224).

وهذا الوصف منها يدلُّ على دقَّة الملاحظة عندها، كما يدلُّ على الإعجاب بهذا الفتى.
لقد أدرك الأب الحنون ما وقع في قلب ابنته من بداية القصة، قال ابن كَثِير رَحِمَهُ الله: ((لَمَّا رَجَعَتِ الْمَرْأَتَانِ سريعًا بالغنم إلى أبيهما، أنكر حالهما بسبب مجيئهما سَرِيعًا، فَسَأَلَهُمَا عَنْ خَبَرِهِمَا، فَقَصَّتَا عَلَيْهِ مَا فَعَلَ مُوسَى عَلَيهِ السَّلام، فَبَعَثَ إِحْدَاهُمَا إِلَيْهِ لِتَدْعُوَهُ إِلَى أَبِيهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ﴾ أَيْ مَشْيَ الْحَرَائِرِ)). (تفسير ابن كَثِير 6/ 205).

وهذا الأب الصالح يعرف حاجة ابنته إلى الزواج، ففهم تلميحها بذكر أهم أوصاف الزوج الصالح، فبادر بعرض ابنتيه على موسى ليختار من يريد منهما ليتزوجها، فقال: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ﴾ [القصص: 27].

وهكذا ينبغي للرجل الصالح أن يغتنم الفرصة إذا سنحت له في تزويج ابنته بالرجل الصالح.
وتأملي أختي الكريمة كيف أكرم الله عزَّ وجلَّ من تمسكت بدينها، وبحيائها، والتي كانت تعاني من نقص الرجولة في شباب مدين، بأن أحضر لها زوجًا صالحًا-بل نبيًّا كريمًا من أولي العزم من الرسل- من خارج مدينتها ليتزوَّجها!

17 رمضان 1446هـ

��معاناة المرأة في الزواج_17�

إقرأ أيضا:سمحاويات …. تأملية

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى