مقالاتمقالات المنتدى

بشرى الفتح المبين (3)

بشرى الفتح المبين (3)

بقلم الشيخ: أنور بن قاسم الخضري (خاص بالمنتدى)

* قوله تعالى: ((جَاءَ وَعدُ أُولَاهُمَا)):
تشير الآية إلى التفصيل في مسألة إفساد بني إسرائيل في (الأرض)، و(الأرض) هنا هي أرض فلسطين المباركة، بامتداداتها الجغرافية التي أشار لها القرآن الكريم. قال تعالى على لسان موسى -عليه السلام: ((يَا قَومِ ادخُلُوا الأَرضَ الـمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُم وَلَا تَرتَدُّوا عَلَىٰ أَدبَارِكُم فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ))، المائدة: 21. وهي فسلطين وما حولها، لأنَّها الأرض التي قدَّرها الله تعالى لأهل القيادة والريادة العالمية منذ فجر التاريخ، يقول تعالى: ((وَنَجَّينَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرضِ الَّتِي بَارَكنَا فِيهَا لِلعَالَمِينَ))، الأنبياء: 71، فمَن تمكَّن مِنها تمكَّن مِن قبل العالم ومحلِّ الصدارة فيه.
ولأنَّ الله تعالى قضى قدرًا بإفساد بني إسرائيل في هذه الأرض مرَّتين، وعلوِّهم فيها علوًّا كبيرًا، كان تحقُّق ذلك بمثابة الوعد، فالوعد هنا بمعنى القضاء المبرم أو التوقيت المحتوم. واختلف المفسِّرون في هذه الآيات هل هي على سبيل الإخبار عمَّا مضى بلغة المستقبل، أم إنَّها على سبيل الإخبار بالمستقبل. والذي يظهر مِن تلقِّي الصحابة -رضي الله عنهم- لها بالسكوت وعدم إثارتها مع اليهود في زمنهم، أو بإنكار اليهود لها أو سؤالهم عنها، بأنَّ الآيات في سياق الإخبار عن المستقبل، وأنَّ يهود كانوا يعلمون بتحقُّق هذا الأمر. ومنهج الصحابة -رضي الله عنهم- تلقِّي أخبار المستقبل الغيبيَّة في الوحي بالتسليم؛ ولو علموا بوقوع تلك الحوادث لعابوها على يهود ووعظوهم بها.
وإفساد بني إسرائيل قديم، سواء في فلسطين أو خارجها، غير أنَّه لم يتحقَّق لهم علو كبير في إفسادهم ذلك، وغاية ما قيل عن سليمان -عليه السلام- وحكمه لا ينطبق على مفهوم الإفساد الكبير، فقد كانت دولة سليمان دولة إيمان وعدل ورحمة. وما حلَّ على اليهود بعده مِن فساد وانقسام وتنازع، وضعف وتحلُّل لدولتهم، لم يمنحهم مجالًا ليعلوا في الأرض، فقد سلِّط عليهم مَن يخرجهم مِن فلسطين ويشرِّد بهم في الأرض.
وإنَّ أظهر حال للإفساد البالغ والعلو الكبير في فلسطين هو ما قام به الكيان الصصصهيوني المحتل منذ قرابة 76 عامًا؛ وهو ما أتاح لهم أن يتغلغلوا في كيانات الدول الغربية المسيحية العظمى التي ساندتهم، ولا تزال تساندهم، لإبقاء اليهود في هذه البقعة المباركة لمنع أي عودة للإسلام إلى الحكم مجدَّدًا. ولو فرض فشلهم في احتلال فلسطين، وذهابهم إلى أيِّ وطن بديل آخر، لم يكونوا ليحتلُّوا هذه الأهمِّية البالغة اليوم في السياسة الدولية والعالمية، وبالأخصِّ الغربية الاستعمارية مِنها.
وبهذا يتطابق الخبر مع الواقع في أعمق وأدق صورة له، بشهادة هذه الأمَّة التي جعلها أمَّة شاهدة على أهل الكتاب الذين يمثِّلون امتدادًا لرسالات الله تعالى لبني إسرائيل، إلى موسى وعيسى -عليهما السلام. وها هما اليوم يتحالفان رغم عدائهما التاريخي ضدَّ هذه الأمَّة المسلمة للقضاء عليها، ومحوا دعوة الإيمان والإسلام والتوحيد والعدل والرحمة، كما لم يكن مِن قبل، في أبرز تجلٍّ وأوضح مشهد لقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَولِيَاءَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم إِنَّ اللَّهَ لَا يَهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ))، المائدة: 51.

* قوله تعالى: ((بَعَثنَا عَلَيكُم عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأسٍ شَدِيدٍ)):
بعث عليه بمعنى سلَّط عليه، خلافًا لبعث له أو إليه فإنَّه بمعنى الإرسال. والبعث الإخراج، والانبعاث الخروج بعد انقطاع. ولهذا سمِّي البعث في الآخرة بعثًا، لإنَّه إحياء وإخراج للناس مِن قبورهم بعد الانقطاع عن الحياة. ويُسمَّى الجيش بعثًا لأنه يخرج للغزو، وفي الحديث الصحيح عند النسائي (رقم: 2878): (لا تَنتهبي البعوثُ عن غَزوِ هذا البيتِ حتَّى يُخسَفَ بجَيشٍ منهُم). وفي آية أخرى مِن القرآن الكريم، أخبر تعالى أنَّه سيبعث على هذه الأمَّة الغضبية مِن يهههود مَن يسومهم سوء العذاب، فقال تعالى: ((وَإِذ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبعَثَنَّ عَلَيهِم إِلَىٰ يَومِ القِيَامَةِ مَن يَسُومُهُم سُوءَ العَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ))، الأعرف: 167. وقد تحقَّق ذلك في دورات عديدة مِن هذا التسليط، والذي كان آخره تسليط الألمان عليهم في القرن العشرين. ونتيجة لهذا التسليط الذي استحقُّوه لذنوبهم وإجرامهم وكفرهم ذهبت دولتهم وتفرَّقت جماعتهم ولم تقم لهم قائمة عبر التاريخ، كما قال تعالى: ((وَقَطَّعنَاهُم فِي الأَرضِ أُمَمًا مِّنهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنهُم دُونَ ذَٰلِكَ وَبَلَونَاهُم بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ))، الأعراف: 168. فكانوا شذر مذر في البلدان والدول. لهذا قال تعالى في شأن مجيئهم الأخير للأرض المقدَّسة والإفساد فيها: ((فَإِذَا جَاءَ وَعدُ الآخِرَةِ جِئنَا بِكُم لَفِيفًا))، بعد أن قال تعالى: ((وَقُلنَا مِن بَعدِهِ لِبَنِي إِسرَائِيلَ اسكُنُوا الأَرضَ))، الإسراء: 104، أي فلسطين حيث دخلوها بعد وفاة موسى -عليه السلام- فاتحين، ومكثوا فيها قرونًا مِن الزمن. أمَّا مجيؤهم للإفساد آخر الزمان فسيكون مجيئًا بعد أن تنالهم عقوبة التقطيع في الأرض. والمقصود بـ”وعد الآخرة” أي يوم القيامة، خلافًا لمعناها أوَّل السورة، فيكون قيام دولتهم في فلسطين بعد ظهور الإسلام مِن علامات الساعة. واليوم الآخر وعد، قال تعالى: ((حَتَّىٰ إِذَا فُتِحَت يَأجُوجُ وَمَأجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقتَرَبَ الوَعدُ الحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيلَنَا قَد كُنَّا فِي غَفلَةٍ مِّن هَٰذَا بَل كُنَّا ظَالِمِينَ))، الأنبياء: 96- 97.
فكلا الإفسادين قبل يوم القيامة، فالأوَّل هو ما نشاهده اليوم على مرأى ومسمع مِن العالم، وشهادة البشرية جمعاء عليه؛ وأمَّا الإفساد الأخير فسوف يكون مع خروج الدجَّال -وهو في الأصل مِنهم- آخر الزمان، وقبيل نزول عيسى ابن مريم -عليه السلام، حيث سيعملون على تدمير كيان المسلمين في الأرض المقدَّسة وتهديدها بالزحف إليها، وتحشيد كلِّ قوى الكفر والنفاق ضدَّها، بحيث يكون خطرهم عليها عظيما، ويكونون مع الدجَّال أكثر نفيرًا.
إذن فالبعث الذي سيجري سيكون بعد انقطاع الأمَّة المسلمة عن الخلافة وعن دورها القيادي والريادي في العالم، ولن تعود لصدارة المشهد العالمي وتبعث مِن جديد إلَّا بجهادها لهذا الكيان الصصصهيوني الخبيث، ومَن يقف وراءه مِن قوى الاستكبار العالمي، وقوى النفاق التي طغت على عموم بلاد الإسلام.
وقوله ((عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأسٍ شَدِيدٍ))، يتَّفق مع كون هؤلاء العباد غابوا عن قيادة العالم وريادته، لأنَّهم أضاعوا الإيمان والجهاد، وهو ما مكَّن اليهود في الأرض المباركة. ومعلوم أنَّ الأمَّة التي أضاعت فروض الإيمان والجهاد حتَّى تمكَّن اليهود مِن احتلال فلسطين هم أمَّة الإسلام هذه. فالله كفيل ببعثها مجدَّدًا للقيام بمسئوليَّاتها الربَّانية في الأرض، وقمع قوى الشر الداخلية والخارجية. فقد خسر العالم بغياب المسلمين قوَّة روحية ومعنوية وأخلاقية، تقوم على الجهاد والاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصرة المظلوم وإغاثة الملهوف وإعانة الضعيف.
ووصفهم بالعباد على سبيل المدح لا الحكاية، لأنَّ الله تعالى إذا أراد زوال الباطل سلَّط رسله وعباده المؤمنين على الكفرة والظالمين، يقول تعالى: ((وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ))، الحشر: 6. وهذا التوافق بين “بعثنا عليكم”.. والتسليط يشي بأنَّ “عبادًا” هُنا في محلِّ امتداح لا الحكاية، غير أنَّهم لمـَّا فقدوا كامل الصلة بغيابهم عن مسئوليَّاتهم الربَّانية كان مناسبًا أن ينسبهم إليه بفاصل، كما في قول يوسف -عليه السلام- لإخوته مِن أبيه: ((قَالَ ائتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّن أَبِيكُم))، يوسف: 59، لأنَّه لما كانت صلتهم به غير مكتملة فصل بين الوصف وبينهم، فلم يقل: “بأخيكم”، وإن جاز ذلك لغة وعرفًا. وهؤلاء العباد هم أنفسهم المعنيُّون بالمعركة الثانية مع الإفساد الثاني، وتحرير المسجد الأقصى مِن قبضة اليهود وإبطال دولتهم في ذات سياق الآيات، فالآيات تتعرَّض لجهود أمَّة الشهود الحضاري في مقاومة جهود الأمَّة الغضبية في الإفساد والجبروت، فالمعركة بينهما سجال الكرَّة بعد الأخرى، خاصَّة وأنَّ معظم شعوب الأرض قد استسلمت للقوى الغربية المرتهنة لليهود في ضوء توظيفهم للمال والجنس، والخديعة والمكر.
وهؤلاء الذين سيبعثهم الله تعالى لتأديب اليهود وقطع إفسادهم الأوَّل، مِن بين أكبر إفسادين لهم عبر التاريخ، سيكون فيهم مِن قوَّة الإرادة وصلب العزيمة وحسن التدبير وطلب الأسباب وطول النفس والجلد في القتال ما يجعلهم أولي بأس شديد. وفيما عدا هؤلاء فقد جاء الوصف بالبأس الشديد في القرآن الكريم على لسان قوم سبأ لأنفسهم إذ قالوا: ((نَحنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأسٍ شَدِيدٍ))، النمل: 33، وعلى لسان النبي محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم- في شأن الروم: ((قُل لِلمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعرَابِ سَتُدعَونَ إِلَى قَومٍ أُولِي بَأسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُم أَو يُسلِمُونَ))، الفتح: 16. فكلُّ مَن أخذ مِن تلك المعاني أخذ بحظٍّ وافر مِن هذا الوصف، إذ هو وصف مشترك بين النَّاس. ولمـَّا كان إفساد اليهود وعلوُّهم في الأرض قائمًا على القوَّة والبأس كان مِن الطبيعي أن يكون زوالهم على فريق مِن المؤمنين متسلِّح بالقوَّة والبأس معنى وحسًّا. ولا يظهر أولي البأس إلَّا في ميادين القتال حيث تزلزل الأنفس زلزالًا عظيمًا لما تشهده مِن الأهوال، لهذا لا تطيقه أنفس المنافقين ومرضى القلوب، كما قال تعالى عنهم: ((قَد يَعلَمُ اللَّهُ الـمُعَوِّقِينَ مِنكُم وَالقَائِلِينَ لِإِخوَانِهِم هَلُمَّ إِلَينَا وَلَا يَأتُونَ الْبَأسَ إِلَّا قَلِيلًا))، الأحزاب: 18.

بشرى الفتح المبين (4)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى