نحتاج أن نتعلم السياسة
بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)
لم تكن الأجيال الجديدة في حاجة لتعلم السياسة مثل حاجتها لذلك اليوم، فالتطورات الجارية في بلادنا ومنطقتنا وعالمنا، والصراعات الرهيبة بين الأنظمة السياسية المتنافسة على سيادة العالم، وحجم الفراغ الرهيب في مقاعد السياسة من الحي والقرية على المستوى المحلي مرورا بالمجالس التشريعية ومجالس الوزارات المختلفة ورئاسة الحكومات والدول، هذا خلا احتياجنا للألوف المؤلفة من خبراء السياسة المتخصصين في إعداد وتطوير وتنمية كل هؤلاء، وكذلك المؤسسات السياسية التي هؤلاء جميعا من معاهد وكليات جامعية ودراسات عليا ومراكز بحثية.
ترى لو أن من تصدى للسياسة من رجالات الأمة في لحظة انهيار الخلافة العثمانية كانوا على درجة بسيطة من الوعي هل كانت بلاد العرب تقسم على يد موظف بريطاني هاو كما قسمت؟ وهل لو كان هؤلاء على أدنى قدر من الفهم والالمام بالممارسة السياسة الصحيحة والقراءة الواعية للتاريخ ولوقائع زمانهم كانت الصهيونية تؤسس دولة في قدس أقداسنا في فلسطين؟ وهل لو كانت الحركات الاسلامية التي قامت للتغيير في مصر وغيرها لديها من الحكمة والدربة السياسة والفهم للتغيرات والانقلابات في عالمنا طيلة قرن مضى هل كانت أحوال بلادنا بل وأحوال تلك الحركات تصل إلى ما وصلت إليه من التدهور والانحدار وهذا الكم الرهيب من تضييع الفرص لبناء اجتماع سياسي متين ونظم سياسية تلائم هذا الاجتماع تكسبه المنعة وتتيح له النمو والازدهار؟ وهل لو رزقت هذه الحركات عقولا مفكرة ومعلمين خبراء يمكنهم توصيل المعلومة وتدريس السياسة للأجيال الجديدة ولأبناء الأمة على اختلاف أعمارهم ودرجات تعليمهم وتنوع بيئاتهم هل كانت تظل الجماهير على حالها البئيس من سيء إلى أسوأ؟ وهل لو كانت هناك مدارس لتخريج الساسة هل كانت الأمة تعدم رصيدها من الرجال الأكفاء الذين يمكنهم ادارة شئون الدولة من أدنى درجات السلم السياسي على مستوى الحي والقرية إلى اعلاها كما قرأنا وسمعنا ورأينا؟
ترى لو حكام الأمة منذ خمسة عقود فقط وحتى اليوم حتى لا نعود بالزمن إلى الوراء أكثر كانوا أكثر حكمة وحنكة ودراية بفنون الحكم وتصريف الدول وتدبير السياسات ودهاء الأعداء وحقيقة الأمم من حولنا وقيمة عقيدتنا وخطورة مواقع وجغرافية أمتنا وكم هي ثمينة مواردنا، والدور الخطير الذي تلعبه عقيدتنا في انعدال أحوال العالم من حولنا أو سفولها، وخطورة قوة المسلمين على كل أرباب الظلم والاستغلال والشره للربح السريع غير الآبه لحلال أو لحرام وغير الناظر لحقوق بني البشر من غيرهم، هل كانت الأمور تصير إلى ما صارت إليه اليوم من علو دول وحكومات وشركات تعتنق مذاهب أرضية أو ديانات محرفة وتؤمن بعقائد عنصرية ومذاهب كفرية لا ترقب في إنسان مسلم إلا ولا ذمة؟ وهل كان لهؤلاء أن يجوسوا في ديارنا ويتبروا ما شاد أسلافنا من حضارة عظيمة وملك واسع ومنعة لم تستطع قوة أن تخترقها؟
وهل لو كانت التجربة الأخيرة في مصر وتونس وليبيا والحرين واليمن وسوريا رزقت أهل سياسة حقيقيين كانت الأمور تصل إلى ما وصلت إليه؟ ولا يقولن أحدنا كان حجم التواطؤ كبيرا وكانت المؤامرة عظيمة وكان العدو شديدا لأنها جميعها ستظل موجودة ووجدت في أمتنا وفي غيرها وتغلب عليها رجال عرفوا السياسة وعرفتهم وعركوا الحكم وخبروا التاريخ والواقع وغلبوا كل ذلك، فالعيب فينا لا في من يتآمرون علينا.
فكيف هانت أمور الحكم والسياسة وخلت دواوين الحكم من حكام حقيقيين يمتلكون ناصية الحكم وزمام السياسة وتدبير أمور أمة بهذا العمق التاريخي والحضاري وهذه العقيدة الصافية وتلك الموارد الكبيرة والمواقع الاستراتيجية الحصينة، وكيف خلت دواوين الوزارة ومناصب الاستشارة من وزراء وخبراء ومستشارين يخبرون الحاكم بواجباته ويبينون له صورة العالم كما هو في الداخل والخارج، وكيف اجتمع حوله أراذل الأمة وخلت ساحات الحكم من علماء وفقهاء وخبراء يسددون ويقاربون ويبينون ويصلحون حيث وجب الإصلاح وينبهون إذا لاح الخطر، وكيف نامت جماهير الأمة ولم تدر ما يراد ولا ما يفعل بها، وكان الصانع في صناعته والفلاح في أرضه والعامل في مهنته والطالب في دراسته في شغل عما يجري حتى احتلت البلدان واستبيحت بيضة الأمة كما قرأنا وسمعنا، وها نحن اليوم نرى ونشاهد ونحن سكوت كما سكتوا لاهون كما لهوا مكبلون بالصمت والخنوع كما كبلوا وخنعوا؟ إلى متى ذلك؟
صحيح أنه لم تسلم أمة من الجهل بالسياسة أو الجهل السياسي، ولم تخل أمة من حكام جهلة أو خونة وشعوب جاهلة بواجباتها وحقوقها السياسية في الشرق أو الغرب والشمال والجنوب، لكن العزيمة والوقت والتخطيط كانت عوامل حاسمة في تجاوز تلك الأمم لذلك كله، فتم تداركه فقامت أمم من سباتها وصحت دول من غفلاتها، واصطنعت مؤسساتها السياسية ومدارس تخريج القادة ومراكز بحث السياسات وتحضير الشعوب وتثقفيها، حتى رأينا ما نرى اليوم من علوم للسياسة من العمق ومواكبة اللحظة في تداخل وتضافر وتكامل بين التخصصات العلمية والاجتماعية والانسانية لترفد رجل السياسة في مقر الحكم من رئاسة الدولة فما دونها لأقل منصب فيها إلى المواطن العادي بتدرجاته من الخبير السياسي والباحث السياسي والمواطن الخبير بالسياسة إلى رجل الشارع كل بما يناسبه، وجعلت لكل منهم دوائره التي تخاطبه وإعلامه الذي يلائمه ومادته السياسية التي تناسبه، فوجدت أمام الجميع الخيارات والبيانات والمعلومات والتلخيصات وأوراق العمل والسياسات وملخصات الآراء والخبرات التي تسهم وتسهل في اتخاذ القرار لمن يملكه وصنع القرار لمن انتدب له وتقييم القرار لمن كانت حرفته أو دوره تقييمه فارتفعت أمم من حضيض الجهل وسفول الهمة وانحدار المكانة وعبودية الاستعمار وقهر الاستبداد إلى ما نراه من تقدم ورقي وحريات وحكم وتحكم في مصائر الدنيا على تفاوت بينها في الدرجة من هذا كله: وفي الصين وجنوب فريقيا وغيرهما عبرة لمن أراد الاعتبار وخبرة لمن أراد الخبرة.
فهذه الصين والهند وجنوب أفريقيا وغيرها كثير من الأمم لما نفضت عنها نير الجهل وحمق التجربة الخالية من الخبرة والنظرية سمت في سماء العلاقات الدولية وارتقت في مراقي القوة بعد ان استتب أمرها داخليا بوجود النظم التي ثبتت وحفظت ونمت اجتماعها السياسي في شتى المجالات من خلال تدبير نظم سياسية تلائم مجتمعاتها وتحقق غاياتها.
إن خزانة السياسة في بلادنا خاوية على عروشها ورصيدها صفر كبير. ومن يقرأ تاريخ أمتنا السياسي من جانبيه: تاريخ الحكام وتاريخ المحكومين، لن يعجزه أن يخرج بعبرة واضحة وضوح الشمس أن عيبا قاتلا أصاب الجانبين في خبرتهم بالسياسة نظرا وممارسة وخبرة وتراكما وتطورا، وأن الاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي لم يتمكنا في هذه الأمة ويتجذرا إلا عبر بوابة الجهل والتجهيل السياسي ومعنى السياسة أو السياسة بمعناها الحضاري.
وها نحن اليوم على مقربة من تغيير كبير سواء بالإيجاب أو بالسلب وفرص وتحديات ومخاطر ورصيدنا من الساسة القادة صفر ومن الساسة الخبراء صفر ومن الساسة الوزراء صفر ومن الساسة أعضاء المجالس التشريعية والمحلية صفر ومن الساسة وزراء الخارجية والسفراء صفر، فهل تقوم مؤسسات الأمة ورجالاتها وأثريائها بما عليهم من واجبات في النهوض بحالة الأمة السياسية وإعداد أجيال جديدة من العلماء والخبراء والممارسين المؤهلين لبناء وعي الأمة السياسي وتزويدهم بكل الامكانات والأدوات اللازمة لذلك أم نظل على حالنا من السبية والعشوائية حتى نفاجأ عندما يحدث التغيير وتتاح الفرص للبناء فيقوم أحدهم بكل جهل وحماقة فيقول “نجيب الرجالة اللي زي الدهب وخبراء أحزاب الاستبداد علشان معندناش حد ينفع يحكم” و”ندور على سين ومش عارف مين اللي مات مليون مرة واللي كان وزير في عهد امنحتب علشان نتوسل إليه يكون رئيس”. ما هكذا تورد الأمور وما هكذا تحكم الأمم وما هكذا يتم التمكين في الأرض.
أمتنا على خطر عظيم، فهل نفيق قبل فوات الأوان ونضع خططا لبناء السياسة ومؤسساتها ورجالها من جديد قبل فوات الأوان؟