آفة الولاية العصبوية وانتهاك التحذيرات النبوية
بقلم د. فؤاد البنا
حذّر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من اتباع علل التدين التي ظهرت عند اليهود والنصارى بأساليب عديدة، ومنها أسلوب الإخبار حينما قال: “لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا فشبرا وذراعا فذراعا، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه”. قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟”
ومن المعلوم أن الله استثنى من هذه العلل تحريف القرآن الكريم، حينما تعهد بحفظه بنفسه فقال: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، ذلك أنه آخر الكتب السماوية وخاتم الهدايات الإلهية، ولو حرف لضلت البشرية طريقها إلى قيام الساعة!
ومن أبرز علل التدين التي تدخل تحت التحذير النبوي، المغالاة في شأن النبي صلى الله عليه وسلم وإعطائه بعضا من خصال الألوهية وجعل دعوته مغنماً لمن يزعمون أنهم أبناؤه رغم أن القرآن قد نفى أبوته صلى الله عليه وسلم لأي رجل: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين}.
وقد قمع النبي صلى الله عليه وسلم كل محاولة في هذا السياق مهما بدت بسيطة، كنهيه عن القيام له وتعظيمه، ورفض تصديره للمجالس حيث كان يجلس حيثما ينتهي به المجلس، والتحذير من اتخاذ قبره مسجدا على غرار ما فعل اليهود والنصارى مؤكدا أن هذا الصنيع جلب لهم لعنة الله!
وما فتئ صلى الله عليه وسلم يؤكد ما ورد في القرآن عنه بأنه بشر لا فرق بينه وبينهم إلا في ما يتعلق بتنزل الوحي عليه، وأن عصمته متصلة بشأن الوحي وليس بسائر شؤون الحياة، وكان يمشي في الأسواق ويأكل الطعام ويبيع ويشتري ويأخذ ويعطي ويدين ويستدين، وكان يضاجع زوجاته وينام قسطا من الليل ويعطي لبدنه حقه من الراحة والاستجمام حتى أنه كان يسابق زوجاته، وكان يداعب نساءه ويمازح أصحابه ويلاعب الأطفال، وأكد لهم بطريقة عملية أنه ينسى ويمرض ويتوجع ويخاف ويخطط ويشاور ويأخذ بالأسباب، وأعلن لهم أنه يحكم ببشريته ولا يعلم الغيب وقد يصيب أو يخطئ!
وقد ساعده الوحي على هذا الصنيع حينما تنزلت عدد من الآيات تعاتبه تارة، وتعفو عنه تارة ثانية، وتدعوه للاستقامة تارة ثالثة، وتحذره من الانحراف أو الميل أو الركون للظالمين، وتهدده إن لم يفعل ما أمر به بالويل والعقاب، وتنهاه عن الاستجابة للأهواء الجمعية أو التماهي مع رغائب الكبراء!
وما برح المصطفى يبين للجميع أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا عن أقاربه أو أي إنسان آخر بمن فيهم ابنته فاطمة وهي الأقرب إلى قلبه، وعمه أبو طالب الأقرب إلى وجدانه، بل وعمه العباس الذي اعتنق الإسلام ووقف بجانبه في جهاده الدعوي والقتالي، وحينما غضب بعاطفته البشرية لما حدث من تمثيل بجثة عمه حمزة بن عبد المطلب بعد استشهاده في غزوة أحد، وأقسم بأن يعاقب من فعلوا ذلك بأضعاف ما فعلوا، نزل القرآن يقول له ولكل من مر بامتحان صعب مثله بقوله عز وجل: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}!
وكان صلى الله عليه وسلم يأكل كما يأكل أبسط البشر ويلبس كما يلبس أوسط الناس، حتى أن الوافدين إليه لم يكونوا يتعرفون عليه وسط صحبه، وكان يعيش كما يعيش المساكين ويعاني مما يعانون، حتى أنه ربما ربط الحجر على بطنه من شدة الجوع، وأثرت المفروشات الخشنة التي ينام فوقها على جنبه، ولم يكن يتميز على أصحابه بشيء، وكان إذا رأى خوفا في وجه أحد ممن يفد عليه يطمئنه بأنه نبي وليس ملكا وأنه ابن امرأة كانت تأكل القديد في مكة!
وبعد هذا كله حينما سمع أحد أحب أصحابه إلى قلبه يقول لبلال الحبشي: يا ابن السوداء، غضب منه غضبا شديدا وقال له: “إنك امروء فيك جاهلية”، وحذر كل مسؤول من أن يضع شخصا في منصب ما لقرابته وفي الأمة كلها من هو خير منه، معتبرا أنه بهذا الصنيع قد خان الله ورسوله، ولذلك فقد وضع كل شخص في المكان الذي يناسب موهبته وقدراته دون محاباة لقريب أو هضم لبعيد!
وعندما اشتد مرضه ودنا أجله لم يوص بالأمر من بعده لأحد من أقاربه أو أصحابه، وأمر بأن يصلي أبو بكر الصديق بالناس، وهي الإشارة الوحيدة التي فهم الصحابة منها أنه يحبذ لهم تولية أبي بكر الولاية العامة للمسلمين، بجانب ما يعرفون من أنه أكمل المسلمين إيمانا وأغناهم بمشاعر المسؤولية والتفاني في خدمة الملة والأمة، وأملكهم للقدرات الإدارية والسياسية الضرورية للدولة، وهو ما أثبتته الأيام بعد توليه الخلافة!