نماذج عُلمائِية مُلهمة (14)
الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص “السبَّاق للإسلام والقائد المجاهد”
بقلم د. علي محمد الصلابي “الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” (خاص بالمنتدى)
أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن السابقين الأولين إلى الإسلام، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وقال له النبي (صلى الله عليه وسلم): “اِرم فداك أبي وأمي”، وهو من أخوال النبي، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين اختارهم عمر بن الخطاب ليختاروا الخليفة من بعده، وهو ممن شهدوا بدراً والحديبية، وقاد الجيش في القادسية وهزم الفرس، وفتح مدائن كسرى، وبنى الكوفة، إنه الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه وأرضاه).
- اسمه ونسبه وكنيته ومولده:
هو سعد بن مالك بن وهَيْب بن عبدٍ مناف، بن زّهرة بن كلاب، بن مُرّة بن كعب بن لؤي، يجتمع مع رسول الله ﷺ في (كلاب بن مرّة)، وسعد (زُهْريٌ) من بني زُهرة؛ أحدٍ بطون قريش المعروفين المنسوبين إلى (زّهرة بن كلاب)، أخو (قصّي بن كلاب) أحدٍ أجداد رسول الله ﷺ، وبنو زهرة هم أخوال رسول الله ﷺ، وسعد من أخواله المقربين، وكان رسول الله ﷺ يفتخر بهذه الخؤولة، فقد روى الحاكم عن جابر رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند رسول الله ﷺ فأقبل سعد بن أبي وقاص، فقال النبي ﷺ: (هذا خالي فليرني امرؤ خاله)، بهذا الاعتبار كان سعد رضي الله عنه خال الرسول ﷺ، كني واشتهر بابن أبي الوقاص، وولد رضي الله عنه في مكة قبل بعثة رسول الله ﷺ بسبع عشرة سنة وهو الذي حدد ذلك بروايته.
- إسلامه:
جاء في سبب إسلامه أنه رأى رؤيا تحثه على الإسلام، فعن ابنته عائشة أنه قال: “رأيت في المنام قبل أن أسلم كأني في ظلمة لا أبصر شيئاً إذ أضاء لي قمر فاتبعته، فكأني أنظر إلى من سبقني إلى ذلك القمر، فأنظر إلى زيد بن حارثة، وإلى علي بن أبي طالب وإلى أبي بكر وكأني أسألهم: متى انتهيتم إلى ههنا؟ قالوا: الساعة، وبلغني أن رسول الله ﷺ يدعو إلى الإسلام مستخفياً، فلقيته في شعب أجياد وقد صلى العصر فأسلمت، فما تقدمني أحد إلا هم”، وكان أبو بكر يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه، فكان سعد ممن دعاهم، وكانت أم سعد معارضة لإسلامه، فلما علمت بإسلامه هددته بأنها لن تأكل وتشرب حتى تموت، لكي تجعله يرجع عن الإسلام، فرفض سعد ذلك وأصر على الإسلام، فيقول: نزلت هذه الآية في {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون} (لقمان: 15).
- فضائله ومناقبه:
تميّز الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- بالعديد من الفضائل والمناقب، وبيان أبرزها فيما يأتي:
أحد العشرة المبشرين في الجنة: حيث شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة، وبشّره بدخولها، فقد جاء في الحديث: (عشرةٌ في الجنَّةِ: أبو بَكْرٍ في الجنَّةِ، وعُمرُ في الجنَّةِ، وعليٌّ، وعثمانُ، والزُّبَيْرُ، وطلحةُ، وعبدُ الرَّحمنِ، وأبو عُبَيْدةَ، وسعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ. قالَ: فعدَّ هؤلاءِ التِّسعةَ وسَكَتَ عنِ العاشرِ، فقالَ القومُ: ننشدُكَ اللَّهَ يا أبا الأعورِ منِ العاشرُ؟ قالَ: نشدتُموني باللَّهِ، أبو الأعوَرِ في الجنَّةِ).
مستجاب الدعوة: عُرف سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- بأنه مستجاب الدعاء، وكان الصحابة (رضوان الله عليهم) يردّون فضل ذلك ببركة دعوة النبي ﷺ، حيث دعا له النبي فقال: (اللَّهمَ استجِب لسعدٍ إذا دعاكَ).
شهادة النبي له بالصلاح: وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: سهر رسولُ الله ﷺ مقدمه المدينة ليلةً، فقال: ((ليت رجلًا صالحًا من أصحابي يحرسني الليلة))، قالت: فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح، فقال: ((من هذا؟))، قال: سعد بن أبي وقاص، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما جاء بك؟))، قال: وقع في نفسي خوفٌ على رسول الله ﷺ فجئت أحرسُه، فدعا له رسولُ الله ﷺ، ثمَّ نام.
أول من رمى سهماً: روى البخاري عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: إني لأول العرب رمى بسهمٍ في سبيل الله، وكنَّا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا ورق الشجر؛ ويروى مسلم عن سعد بن أبي وقاص أن النبي ﷺ جمع له أبويه يوم أُحُد، قال: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين، فقال له النبي ﷺ: ((ارْمِ فِداكَ أبي وأُمِّي))، قال: فنزعت له بسهم ليس فيه نَصْل، فأصبت جَنْبَه فسقط، فانكشفت عورتُه، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نظرتُ إلى نواجِذِه.
أول دم يراق في الإسلام: كان أصحاب رسول الله ﷺ إذا صلوا، ذهبوا في الشِّعاب، فاستخفُّوا بصلاتِهم من قومهم، فبينما سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسولِ الله ﷺ، في شعب من شعاب مكة؛ إذ ظهر عليهم نفرٌ من المشركين وهم يصلُّون، فناكروهم، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذٍ رجلًا من المشركين بلحي (عظم) بعيرٍ فشجَّه، فكان أول دمٍ أريق في الإسلام.
- عِلمه:
كان رضي الله عنه راوياً للحديث ليس بالمكثر منه، ومع ذلك حدّث أحاديث كثيرة عن رسول الله، كما يظهر من مسنده عند أحمد وأبي يعلى، وفي كتب الصحاح والسنن، ويعمل بما سمع من رسول الله ويقتدي بفعله به، ويحدث الناس ويخالطهم في مجالسه ويعلمهم أمور الدين والصلاة والجهاد وسائر العبادات، وكان طلبة العلم يحضرون مجلسه ليسمعوا منه، فقد روى الحاكم في المستدرك عن بشر بن سعيد قال: كنا نجالس سعد بن أبي وقاص، وكنا نتحدث حديث الناس والجهاد، وكان يتساقط في ذلك الحديث عن رسول الله، وكان يعلم أبنائه ويرشدهم ويذكرهم، برفق وسعة صدر، يرعاهم ويراقبهم، مستخدماً الأساليب المختلفة والمؤثرة، إذ هو رضي الله عنه عالم وحافظٌ ضبطاً وفهماً، ومن الأمثلة أنه روى البخاري عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، عن سعد بن أبي وقاص: أن النبي مسح على الخفين، وسأل عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن ذلك: فقال: نعم، إذا حدثك سعد شيئاً عن النبي فلا تسأل عنه غيره، وهذه دلالة وشهادة على علم سعد ودقته في نقل الحديث، فما حدث به فهو الصحيح، وما علمه لغيره هو الصواب، وإذا قال سعد قولاً في مسألة، فلا يحتاج فيها إلى قول غيره، هذا ما يراه عمر في سعد وعلمه، ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل.
- جهاده وقيادته في القادسية:
شهد رضي الله عنه بَدْرًا وأُحُدًا، وثبت يوم أحد مع رسول الله ﷺ حين ولى الناس، وشهد الخندق والحديبية وخيبر وفتح مكة، وكانت معه يومئذٍ إحدى رايات المهاجرين الثلاث، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله ﷺ، وكان من الرُّماة المشهورين من أصحابه ﷺ.
ولقد تولى سعد بن أبي وقاص قيادة جيوش المسلمين في معركة القادسية، فجعل أمر الحرب إلى خالد بن عرفطة، وجعل على الميمنة جرير بن عبد الله البجلي، وعلى الميسرة قيس بن مكشوح، وكان قيس والمغيرة بن شعبة قد قدما على سعد مددًا من عند أبي عبيدة من الشام، بعدما شهدا وقعة اليرموك، وكان المسلمون ما بين السبعة آلاف إلى الثمانية آلاف، وكان رستم (قائد الفرس) في ستين ألفًا، فصلَّى سعد بالناس الظهر، ثم خطب الناس فوعظهم وحثَّهم، وتلا قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: 105]، وقرأ القُرَّاء آيات الجهاد وسوره، ثم كبَّرَ سعد أربعًا، ثم حملوا بعد الرابعة، فاقتتلوا حتى كان الليل فتحاجزوا، وقد قتل من الفريقين بشر كثير، ثم أصبحوا إلى مواقفهم فاقتتلوا يومهم ذلك وعامة ليلتهم، ثم أصبحوا كما أمسوا على مواقفهم، فاقتتلوا حتى أمسوا، ثم اقتتلوا في اليوم الثالث كذلك، وأمست هذه الليلة تُسمَّى ليلة الهرير، فلما أصبح اليوم الرابع اقتتلوا قِتالًا شديدًا، وقد قاسوا من الفيلة بالنسبة إلى الخيول العربية بسبب نفرتها منها أمرًا بليغًا، وقد أباد الصحابة الفيلة ومَنْ عليها، وقلعوا عيونها، وأبلى جماعةً من الشجعان في هذه الأيام مثل طليحة الأسدي، وعمرو بن معدي كرب، والقعقاع بن عمرو، وجرير بن عبدالله البجلي، وضرار بن الخطاب، وخالد بن عرفطة، وأشكالهم وأضرابهم، فلما كان وقت الزوال من هذا اليوم ويُسمَّى يوم القادسية، وكان يوم الاثنين من المحرم سنة أربع عشرة من الهجرة، وهبَّت ريح شديدة فرفعت خيام الفرس عن أماكنها، وألقت سرير رستم (قائد جيوش الفرس) الذي هو منصوب له، فبادر فركب بغلته وهرب فأدركه المسلمون فقتلوه، وانهزم الفرس، وقتل من الفرس في هذه المعركة نحو أربعين ألفًا، واستشهد من المسلمين نحو من ألفين وخمسمئة، ودخل المسلمون المدائن عاصمة الدولة الفارسية، وقد غنم المسلمون الكثير من الأموال والسلاح، وبعث سعد بن أبي وقَّاص بالخمس والبشارة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد كان عمر رضي الله عنه، يستخبر عن أمر القادسية كُلَّ مَن لقيه من الركبان، ويخرج من المدينة إلى ناحية العراق يستنشق الخبر، فبينما هو ذات يوم من الأيام إذا هو براكبٍ يلوح من بعد، فاستقبله عمر فاستخبره، فقال له: فتح الله على المسلمين بالقادسية، وغنموا غنائم كثيرة، وجعل يُحدِّثه، وهو لا يعرف عمر، وعمر ماشٍ تحت راحلته، فلمَّا اقتربا من المدينة جعل الناس يحيُّون عُمَرَ بالإمارة، فعرف الرجل عمر، فقال: يرحمك الله يا أمير المؤمنين، هلا أعلمتني أنك الخليفة؟ فقال: لا حرج عليك يا أخي.
- وفاته:
توفي رضي الله عنه في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة، فحمل على رقاب الرجال إلى المدينة وصلَّى عليه مروان بن الحكم وهو يومئذٍ والي المدينة، ثم صلَّى عليه أزواج النبي ﷺ في حجرهن ودفن بالبقيع، وكان أوصى أن يكفن في جبة صوف له، كان لقي المشركين فيها يوم بَدْر، فكفن فيها، وذلك في سنة خمس وخمسين، وهو ابن اثنتين وثمانين عامًا.
المراجع:
- سعد بن أبي وقاص، صلاح الخالدي، دار القلم، دمشق، ط1، 2003م، صـ23
- تفسير ابن كثير، جـ 11، صـ 54
- حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني، جـ 1، صـ 93.
- سيرة ابن هشام، جـ 1، صـ 263.
- الطبقات الكبرى لابن سعد، جـ3، صـ 105
- البداية والنهاية لابن كثير، جـ 9، صـ 45:44
- صفة الصفوة، جـ 1، صـ 361:360.