مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر (٢٩٦) .. مقومات الوعي الجمعي(٦)

جواهر التدبر (٢٩٦)

مقومات الوعي الجمعي(٦)

 

بقلم أ. د. فؤاد البنا

– إبراز بركة الجماعة:

من يتأمل آيات القرآن الكريم بتدبر خاشع؛ سيجد في مواضع عديدة منه أن الله عز وجل يُشيد ببركة التجمع، ويبارك الجماعة بما يملك من أسباب عالم الشهادة وأسرار عالم الغيب، بجانب عشرات الآيات التي تدعو إلى الوحدة والائتلاف والتآخي بشكل صريح ومباشر.

ومن الآيات التي تُبرز بركة الجماعة قوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين} [العنكبوت: ٩]، فكيف سيدخلهم الله في الصالحين وهم صالحون في الأصل؟ أوليسوا مؤمنين كما تذكر الآية، ويعملون الصالحات بشكل دائم كما يفيد الفعل المضارع (يعملون)؟!

وفي جواب هذا التساؤل يبدو كأن الله يقول بأنه سيدخل كل فرد في جماعة الصالحين، بمعنى أنه لن يظل الصالح منعزلاً عن الصالحين أمثاله، بل سيصبح خلية في جسم الصلاح الكبير، وهذه إشارة إلى بركة الجماعة، تلك البركة التي تستدعي عطايا ومزايا عديدة وتستجلب أجوراً رحمانية إضافية، إذ أن من خصائص الجماعة في الإسلام تجسيد قيمة الشورى في اتخاذ القرارات ومراقبة الأداء المتصل بعامة الناس، والشورى لها بركة كبيرة وثمار طيبة، ومنها أنها تسمح برؤية الحقائق من زوايا متعددة حتى تبدو مكتملة، وتكفل للجميع المشاركة في صناعة القرار الذي يهم الجمع العام والذي يسميه القرآن الأمر، كما في قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر}[آل عمران: ١٥٩]، وهو الأمر الجامع الذي ينعكس إيجابا أو سلباً على المجموع، ومثلها قوله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم}[الشورى: ٣٨]، مع العلم أن الآية الأولى مدنية وتتحدث عن الشورى في الحكم والقيادة، بينما الآية الثانية مكية ووردت في سورة (الشورى)، وتتحدث عن الشورى كقيمة اجتماعية!

وفي هذا المقام يعجبني ما توصل إليه المصلح التركي بديع الزمان النورسي عن بركة الشورى، فقد قال: “إن الشورى الحق تولّد الإخلاص والتساند؛ إذ أن ثلاث ألفات هكذا (١١١) تصبح مائة وإحدى عشرة، فإنه بالإخلاص والتساند الحقيقي يستطيع ثلاثة أشخاص أن يفيدوا أمتهم فائدة مائة شخص. ويخبرنا التأريخ بحوادث كثيرة أن عشرة رجال يمكنهم أن يقوموا بما يقوم به ألف شخص..”!

وهناك آيات تحث على الاستفادة من بركة الجماعة، مثل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}[التوبة: ١١٩]، فلا يكفي المؤمن أن يكون صادقا بل ينبغي أن يكون في جملة الصادقين وأن ينضوي تحت رايتهم الجمعية؛ لأن الله يحب له ما هو أفضل من الأجور، ويحب أن يكون أشد حصانة من شياطين الإنس والجن، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية!
وحينما أرجعت البصيرة كرّتين في قوله عز ذكره:{اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}، تأكد لي أنه يتضمن دعوة لامتلاك مفردات الائتلاف مع الطيبين، وتتوزع هذه المفردات بين فكرية وسلوكية، وأهمها: الابتعاد عن احتكار الحقيقة المطلقة، التعامل الموضوعي مع المخالفين، الحذر من الإصابة بآفة تورم الذات، تخلية القلب من آفات العجب والكبر.

ويبدو أن بركة الجماعة لا تقتصر على الإنسان بل تتعداه إلى الحيوانات التي ألهمها الله التكتل على شكل قطعان وإلى الطيور التي تحرص على التجمع في هيئة أسراب، فقد كشف العلم الحديث عن أن الطيور التي تطير صافات في أسراب، تستطيع أن تقطع مسافات إضافية لا تقل عن ٧١% عما يمكن أن يقطعه الطائر بمفرده، وقدم العلماء المختصون تفسيراً علمياً لهذه الظاهرة، ولكن ليس مجالها هنا، وما يهمنا في هذا المقام هو أننا وجدنا قرينة إضافية على بركة الجماعة وسط جميع الكائنات، حيث التقليل من الجهد والوقت، والزيادة في السرعة والكفاءة، مع التقليل من مخاطر الطريق، مع العلم أننا نفرق بصورة حاسمة بين الفكر الجماعي وثقافة القطيع، حيث ندعو للأول ونرفض الثاني!

ويواصل القرآن توطين الوعي بأهمية الجماعة والتجمع، في عقول وقلوب قرائه، كما قال تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلاً ما تتذكّرون}.

ورغم أن الموضوع الأساسي هنا هو نفي المساواة بين طرفين نقيضين، لكن إحكام الصياغة الإلهية لهذه الآية منحنا فائدة أخرى متصلة بأهمية الوعي الجمعي وما نحن بصدده هنا، فبحسب المتعارف عليه في صياغة المبنى القرآني، فإن الأمر يحتاج إلى مماثلة في المبنى، كما فعل في الجملة الأولى حينما نفى التساوي بين الأعمى والبصير بصيغة المفرد، لكنه في الحديث عن (الذين آمنوا) جاء بصيغة الجمع مقابل مفردة (المسيئ)، وكأنه بذلك يقول إن المؤمن الحق لا بد أن يستظل تحت راية الجماعة المؤمنة حتى يستفيد من ظلها ويستقوي بريحها!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى