مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر (٢٩٠) .. المكاسب القاتلة

جواهر التدبر (٢٩٠)

المكاسب القاتلة

 

بقلم أ. د. فؤاد البنا

– كسب التراث:
من المعلوم أن السلف قد تفاعلوا مع الوحي بمنتهى الوعي والإخلاص، وكانت لهم أفهام اجتهادية للنصوص وتنزيلات تطبيقية لها على الوقائع، ورغم أن أفهامهم للنصوص تم تنزيلها على واقعهم البسيط إلا أنها ظلت أفهاما وتنزيلات نسبية، فكيف ستصبح هذه الأفهام النسبية إذا نزلناها على واقعنا المعقد والمختلف تماما بعد قرون من تسارع المتغيرات واختلاف المستجدات التي لا حصر لها؟!
ومن ناحية أخرى فإن السلف بشر من طين، وحدث بينهم من سوء الفهم وربما الظن بجانب عوامل أخرى، ما تسبب في نشوب الفتن بينهم والتي وصلت أحيانا إلى حد الاقتتال!
ومهما يكن من أمر فمن الخطأ استجرار الصراع أو استدعاء التراث إلى واقعنا المختلف، فإن الماضي له قدرة على الانتقام من الحاضر عن طريق التنزيل الخاطئ لأمور لا تتناسب بتاتا مع عصرنا، وما كان بالأمس حلا قد يصير اليوم مشكلة، وما كان في الماضي دواء قد يصير اليوم سما زعافا؛ إذ أن الزمان يؤثر على تلك الأدوية المعنوية كما يفعل مع الأدوية الحسية!
ولهذا فإن القرآن حينما يكلمنا عن الماضي يرسم لنا قاعدة تقول: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم} [البقرة: ١٣٤]، بمعنى أنه ينبغي أن يكون لنا كسبنا العصري في التعاطي مع الوحي، وكأنه يتنزل اليوم لحل مشكلاتنا وفتح طريق الاستقامة أمام حركتنا!
وقد أورد الله هذه القاعدة في أكبر وأعظم سور القرآن الكريم وكررها بالحرف الواحد في الآية ١٤١ من نفس السورة، لتأكيد القاعدة وحتى تستقر في الأذهان فيتجنب المسلمون التعرض لانتقام تراثهم من حاضرهم!

– كسب الآثام والخطايا:
يستخدم مصطلح الكسب في اللغة العربية بمعنى الربح والفوز والنجاح والحصول على المحبوب، لكن آيات كثيرة استخدمت هذا المصطلح في معرض الحديث عن الخسارة واجتراح السيئات، بل الآثام والخطايا، كما ورد في قوله تعالى: {ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه} [النساء: ١١١]، أي سيكون وبالاً عليه، ولخطورة الأمر فقد واصل الله التحذير من خطورة كسب الآثام في الآية التالية لها، فقال عز من قائل: {ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرمي به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثماً مبينا} [النساء: ١١٢].
ويبدو أن علة هذا الأمر تكمن في اجتماع صفات الغفلة والحمق والطمع في من يكتسبون الآثام، مع قوة النفوس الأمارة بالسوء وإغراء الوسوسات الشيطانية، مما يدفعهم لإشباع شهواتهم من أي سبيل معتقدين أنهم يكتسبون المنافع والمحبوبات التي ستمنحهم السعادة وهناء العيش!
وفي استخدام مصطلح الكسب في معرض الخسارة لفتة أخرى إلى قوة التزيين الذي تقوم به وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي المعاصرة، حيث تمتلك من وسائل التأثير وسحر الأعين والقلوب ما تستطيع به خداع الناس وقلب الحقائق رأسا على عقب، حتى أنها تحيط القبائح بهالة من الجمال، وتبشّع المناظر والقيم الجميلة في أعين المشاهدين وقلوبهم!

– مصائب الكسب السيء:
ذكر القرآن الكريم أن الظالمين يوم القيامة لو كان لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب الذي ينزل بهم، وأنهم يتفاجؤون يبدو لهم من الله ما لم يكن في حسبانهم، ثم بدت لهم السيئات التي كانوا يحسبون أنها مكاسب لهم فبذلوا في سبيلها أوقاتا طويلة وجهودا مضنية، وأفنوا أموالاً ثمينة ومشاعر عزيزة، بل وقطّعوا في سبيلها أواصر الرحم وداسوا على قيم الحق، والنتيجة أنهم قد حاق بهم ما كان محل استهزائهم وحل بهم ما ظنوا أنه بعيد عنهم، وأورد بعد ذلك واحدة من الطبائع البشرية الرديئة وهي الشكوى إلى الله عندما يمسه الضر وتنزل به المصيبة، والإعجاب بالذات حينما تنزل به النعمة والزعم بأنه لم يحصل عليها إلا بعلمه وذكائه، وأكد بأن السابقين قد قالوا نفس المقولة وصنعوا ذات الصنيع، فلم يغنِ عنهم يوم الحساب ما كانوا يكسبون. [الزمر: ٤٨ – ٥٠]، ثم قرر النتيجة لما سبق فقال عز من قائل: {فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين} [الزمر: ٥١]، بما يؤكد أن الطبائع البشرية متشابهة وسنة الله ثابتة في تعذيب من حادوا عن صراطه المستقيم وخالفوا منهجه القويم، فاجترحوا السيئات والآثام معتقدين أنهم يحققون بها الكثير من المكاسب!
ولو تأملنا الآية الأخيرة بتأنٍ لوجدنا أنها تتحدث عن أن المعاصي تصنع المعاصي، والسيئات تجر إلى السيئات، في ظل التزيين والإغراء الذي يجعل المرء يعتقد أنه يكتسب أفضل الحسنات وهو يقترف أقبح السيئات!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى