مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر (٢٨٥) .. تعدد الصواب(٢)

جواهر التدبر (٢٨٥)

تعدد الصواب(٢)

 

بقلم أ. .د. فؤاد البنا

 

– تنافس الأنبياء والأولياء على القرب من الله:
بيّن تعالى أن الأنبياء والأولياء الذين يتخذهم المغفلون أندادا لله، طالبين منهم جلب النفع لهم ودفع الضر عنهم، إنما يدعون من لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضراً بل هم منهمكون في سباق بينهم للوصول إلى الله بصورة أسرع ولنيل منزلة أقرب، فقال عز من قائل: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: ٥٧]، وما يهمنا هنا هو أن الله ذكر بأن المدعوين في سباق بينهم، باحثين عن أفضل الطرق وأنجح الوسائل لكي يكون كل واحد منهم هو الأسبق في الوصول والأقرب في المنزلة، كما نفهم من: {يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}، ومع تعدد الطرائق والوسائل فإنهم جميعا {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ۚ}، ومع تنوع الطرق والأساليب فإنها كلها صائبة ما دامت تحقق الغاية وهي القرب من الله من خلال العروج إليه بجناحي الرغبة برحمته والرهبة من عذابه، وهذا الأمر قرينة على تعدد الصواب مع التفاوت النسبي بينها بحسب درجة القرب وقوة الحب، وهذا ما دعا له الله في مقام آخر حينما قال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة}.
وقد يقول قائل: كيف تنطبق الآية على المدعوين من الأنبياء والأولياء مثل المسيح عليه السلام وقطب الأقطاب عند الصوفية عبدالقادر الجيلاني وهم قد ماتوا، بينما النص يقول: {يبتغون إلى ربهم الوسيلة..} والمضارع يفيد الاستمرار؟
فأقول: إن الآية تنطبق على الأنبياء الموتى وعلى الأولياء الأحياء منهم والأموات، فقد كان هذا السباق ديدنهم جميعا في حياتهم، بدلالة اسم الإشارة للبعيد في مطلع الآية (أولئك)، وقد أتى بالمضارع ليشمل الأحياء وليقول للناس إن الموتى من شدة تنافسهم على القرب من الله واستمرارهم في الجمع بين الخوف والرجاء حتى آخر دقيقة من أعمارهم فكأنهم ما زالوا يتسابقون في مضمار التنافس، وهذا يوضح شدة افتقارهم إلى الله!

– الفوارق بين المؤمنين:
أخبرنا الله بأنه قد أورث الكتاب لمن اصطفاهم من خلقه، فقال عز من قائل: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ۖ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر: ٣١ – ٣٣]، وبناء على تعاطيهم مع الكتاب فقد انقسموا إلى ثلاثة أقسام:
الأول: الظالمون لأنفسهم، وهم الذين خالفوا تعاليم الكتاب فاقترفوا الكبائر وفرطوا بالواجبات، وقد اختلف المفسرون حول هذا الصنف وهل يدخلون ضمن المصطفين أم لا.
الثاني: المقتصدون وهم الذين يكتفون بأداء الواجبات والانتهاء عن المحرمات ولا يسارعون في الولوج من أبواب القربات.
الثالث: السابقون بالخيرات، وهم المحسنون الذين لم يقنعوا بأداء الحد الأدنى من المطلوبات العبادية بل سابقوا إلى معالي الأمور ونيل الدرجات العلى وسارعوا للدخول إلى الإيمان من مختلف الأبواب، وكانوا حاضرين في صناعة الحياة بفاعلية عالية.
ومهما يكن أمر الظالمين لأنفسهم ولو أخذنا صنفي المقتصدين والسابقين بالخيرات لوجدنا فريقين مختلفين في المسالك لكنهما خرجا من رحم الاصطفاء ودخلا الجنة، مع الاختلاف النسبي في نوعية الجزاء بما يتفق مع الاختلاف النسبي في الأعمال!

– الكفارات على رأي من يقولون بالتخيير:
وينتصب تعدد الجزاءات في الكفارات على من يقولون بالتخيير فيها كقرينة أخرى على تعدد الصواب، مثل كفارة اليمين التي ورد ذكرها في الآية ٨٩ من سورة المائدة، حيث جعلت كفارة اليمين: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم أو تحرير رقبة، وإذا عجز عن هذه الثلاثة الأمور ينتقل إلى الدرجة الثانية وهي صيام ثلاثة أيام.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى