مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر (٢٨٣) .. أنواع الخوف

جواهر التدبر (٢٨٣)

أنواع الخوف

 

بقلم أ. د. فؤاد البنا

– الخوف الطبيعي:
إن الخوف من الأخطار والمكروهات شعور غريزي طبيعي عند البشر ويحمله حتى الأنبياء منهم، فقد خاف موسى عليه السلام من فرعون حينما قتل قبطياً بالخطأ، وفرّ بسبب ذلك من مصر وبقي في مدين قرابة عشر سنوات، ويبدو أن خوفه لم يكن عابرا، فحينما وصل إلى مدين وقابل شعيباً عليه السلام قص عليه القصص فقال له كما جاء في القرآن: {لا تخف نجوتَ من القوم الظالمين}[القصص: ٢٥]، وحينما كلمه الله وأخبره بأنه رسوله، ثم أمره أن يرمي عصاه ورآها ثعبانا يتحرك خاف فنهاه الله عن الخوف لكونه أصبح رسولا، وخاف مرة أخرى من فرعون هو وشقيقه هارون حينما أمرهما الله بأن يذهبا لتبليغ رسالة الله إلى فرعون فأخبرهما الله بأنه معهما يسمع ويرى، وخاف حينما رأى أحابيل السحرة تتحول إلى ثعابين وحيات تسعى في مضمار المناظرة والتحدي!
والعجيب أن أكثر من أورد القرآن مواقف من خوفه الغريزي هو موسى عليه السلام، وهو من أقوى الأنبياء ومن أولي العزم من الرسل، ولا بد أن الله قد أعده ليقف في وجه أكبر طغاة الأرض، فكيف هذا بذاك؟
يبدو أن المولى عز وجل أراد أن يبين لنا بالموقف العملي أن الخوف الطبيعي مسألة لا تنفك عن الناس بحكم تكوينهم البشري الآتي من الطين!
وقبل الكليم موسى أخبرنا القرآن أن الخليل إبراهيم أوجس خيفة من الأضياف حينما قدّم لهم العجل السمين ورأى أن أيديهم لا تمتد إلى الطعام، وخاف الكريم يعقوب على ابنه يوسف من الذئب حينما طلب أبناؤه إرساله معهم!
وبعد موسى فزع داوود حينما تسور المشتكون المحراب عليه ووجدهم بين يديه فجأة!
وهكذا فإن الخوف غريزة بشرية، وقد يكون نعمة حينما يدفع المرء للاستيقاظ من الغفلة والتسلح بالأسباب، وعندما يترجم المشاعر النفسية إلى أفعال تمكن صاحبها من الاحتماء بالحذر والاستعداد لمواجهة الأعداء والكوارث!

– خوف الاستشراف:
هناك خوف آخر ليس مشروعا فحسب بل هو مطلوب وهو الذي يقوم على استشراف المستقبل، عبر قراءة صحيحة للمعطيات الحاضرة، والتنبوء العلمي بطرائق تفاعلها وتطورها، والتوقع القريب من الحقيقة لمآلاتها، ومما ذكره الله في هذا الشأن خوف زكريا عليه السلام من مواليه، وخوفه منهم محمول على أحد أمرين أو كليهما:
الأول: أن يقوم ورثته وعصبته بوراثة ممتلكاته وظلم زوجته ومن كان يعولهم، وطمس ذكره.
الثاني: أن لا يقوم أقاربه بحق الله في إبلاغ دينه ومواصلة رسالته نحو المجتمع، فتتوقف هدايته عندهم ولا بستفيد منها الناس.
وقد تبنت كل احتمال من الاحتمالين السابقين طائفة من المفسرين، وكلاهما يحتملهما النص والطبيعة البشرية، ولذلك لا أستبعد أن يكون زكريا عليه السلام قد قصد الاثنين معاً حينما رفع تخوفه إلى الله.
فسينطلق في الاحتمال الأول من بُعده البشري، فالغريزة الطبيعية تجعل كل إنسان محتاجا إلى عقب يخلفه ويحب أن يكون له من يحمل اسمه ويرفع ذكره.
وسينطلق في الثاني من بُعده النبوي، حيث يدفعه الشعور بالمسؤولية إلى التفكير المتأني بمستقبل رسالته وكيفية المحافظة على استمرار رسالته في الهطول والإثمار؛ ولذلك دعا الله أن يهبه ولدا من صلبه يرث دعوته ويواصل جهاده ويستكمل تبليغ رسالته.

– خوف السقوط في دوامة المعصية:
لقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة على من عرف قدر نفسه، كما هو معلوم، ومعرفة قدر النفس تعني أن يعرف المؤمن نقاط قوته فيعززها ويستثمرها في تكثيف الطاعات وعمل الصالحات ومراكمة المنجزات التي ترضي الحق وتفيد الخلق، ويعرف نقاط ضعفه فيعالجها، وإن كانت من العيوب المزمنة فإنه يضع لنفسه حدودا حتى لا يُؤتى من قبلها.
ومن أمثلة هذا الأمر ما ورد في قوله تعالى: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا}[النساء: ٣]، أي إن خفتم، من خلال ما تعرفونه في أنفسكم من صفات أو مفردات ضعف، أن لا تعدلوا في يتامى النساء اللاتي تحت ولايتكم، مثل أن لا تعطوهن مهور المثيلات أو أن لا تعاشروهن بإحسان، نتيجة أي صفة فيهن أو فيكم، فتجنبوا خوض هذا الامتحان ابتداء ولا تنكحوهن، بل انكحوا ما طاب لكم من النساء اللاتي ترون أنكم ستنسجمون معهن وتعطونهن حقوقهن كاملة غير منقوصة، فقد أباح الله لكم أن تنكحوا اثنتين أو ثلاثاً أو أربعا، وإذا شعرتم مرة أخرى بأنكم ربما لا تستطيعون العدل بين الاثنتين فما أكثر، من أي زاوية من زوايا العدل المطلوبة مع الزوجات والمعروفة في كتب الفقه، فاكتفوا بزوجة واحدة أو بما عندكم من الإماء، وهذا الاحتياط أقرب إلى التقوى وأنجى من الوقوع في حفرة الظلم والتعدي، ذلك أن عاقبة الظلم وخيمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى