جواهر التدبر (٢٨٠)
أواني الزمان
بقلم أ. د. فؤاد البنا
– من البحث عن الخلود إلى الفرار منه:
من المعلوم أن الدافع لمعصية آدم الأولى في الجنة كان هو الرغبة في حيازة الخلود، فقد صدّق آدم وساوس إبليس بأن الشجرة التي حرمها الله عليه هي شجرة الخُلد والمُلك، ولأن الزمن مجرد إناء يملأه المرء بما يشاء من مفردات الخير أو الشر، فإن الخلود الذي كان آدم يلهث خلفه ليتمتع بنعيم الجنة إلى الأبد، هو ذاته الذي سيحاول أبناؤه العصاة الخلاص منه، حينما يدخلون النار ويُحكم عليهم بالخلود في عذابها، فقد ورد النص القرآني بأن ساكني جهنم سيطلبون من خازن النار مالك أن يتوسط لهم لدى الله حتى يقضي عليهم فيتخلصوا من عذاب الجحيم، لكن طلبهم يرفض قطعيا، أي أن الخلود سيصبح هو إطار التعذيب وجوهره، كما قال تعالى: {إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون. لا يُفتّر عنهم وهم فيه مبلسون. وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين. ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون}
[الزخرف: ٧٤ – ٧٧]
– سنوات المحنة وأعوام التفاؤل:
من الأمور المتفق عليها عند أغلب علماء الإعجاز البياني أنه لا يوجد في القرآن الكريم ما يسمى بالترادف، بمعنى أنه لا توجد كلمتان بنفس المعنى، ولكن هناك معنى عام أو مشترك ثم توجد فروق دقيقة بين الكلمتين، واكتشاف الفروق الدقيقة بحاجة إلى تأمل وتدبر دقيق.
وعلى سبيل المثال فإن اسمي السنة والعام يستخدمان للتعبير عن المدة الزمنية المكونة من ١٢ شهرا، ولكن يوجد فرق دقيق بين الاسمين، فالسنة تكون إناء للتعبير عن المحن والبلايا التي ملأتها أو غلبت عليها، مما يكرهه الإنسان، كما ورد في قوله تعالى: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذّكرون} [الأعراف: ١٣٠]، وأخبرنا بأن مدة القيامة خمسين ألف سنة [المعارج: ٤]، ولأن الحياة مليئة بالمشاق والمتاعب والله خلق الإنسان في كبَد كما هو معلوم من القرآن، فإن الأعمار تقاس بالسنين لا بالأعوام، وبصورة عامة فإن السنين تستخدم أكثر من الأعوام!
أما العام فهو اسم للإناء الزمني الذي يمتلئ بالخيرات والأمور التي يحبها الناس في العادة؛ كما قال تعالى في تفسير يوسف عليه السلام لرؤيا ملك مصر: {ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون. ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون}[يوسف: ٤٨، ٤٩]. فأطلق على زمن القحط والجدب والشدائد اسم السنين، بينما الزمن الذي يأتي فيه الفرج وتعود السماء فيه للهطول والأرض للإنبات والإثمار سماه عاما!
وهذا التدقيق يشبه ما ورد في قصة نبي الله نوح عليه السلام، فقد أخبرنا الله عن الزمن الذي عاشه فيهم، فقال عز من قائل: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} [العنكبوت: ١٤]، ومن الواضح أن استخدام السنة تعبير عن ما واجهه نوح عليه السلام من متاعب وصدود واتهامات وأصناف من الأذى طيلة أكثر من تسعة قرون، ولكن لماذا استخدم في تكملة الألف سنة اسم العام؟
يبدو والله أعلم أنه درس من دروس التفاؤل، فالخمسون عاما ما تزال في عالم الغيب ولا يعلم ما سيحدث فيها إلا الله، وتعد زمنا محايداً، لكن المؤمن مأمور بالتفاؤل بأن المستقبل سيكون أفضل من اليوم!