مقالاتمقالات المنتدى

تأملات في الآية الكريمة ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾

تأملات في الآية الكريمة

﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾

 

 

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

 

كانت القوافل قديماً تأتي من الشام إلى مصر، فمرّت إحدى القوافل من المكان الّذي كان فيه يوسف عليه السلام وحيداً في غيابة الجبّ مقطوعاً عن كلّ الخلق ينتظر فرجاً من الله تعالى، الّذي لطف به وآنسه وبشرّه بما يؤول إليه حاله في المستقبل؛ من مكان كريم، ومكانة شريفة عالية.

– ﴿ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ﴾: وهذا شروع فيما جرى ليوسف عليه السلام في الجبّ بعد الفراغ عن ذكر ما وقع بين إخوته وبين أبيه، أي: وجاء إلى الجبّ سيارة. والتعبير بالمجيء وإيثاره على المرور أو الإتيان أو نحوهما؛ إيماء إلى كونه عليه السلام في الكرامة والزلفى عند مليك مقتدر، وفي عثور السيارة على الجبّ الّذي فيه، آية من لطف الله به. وقال: ﴿سيارة﴾ مبالغة في السير، يعني أنّهم أنس يسيرون دائماً بين البلدان البعيدة، وكانوا في طرقهم من جهة مدين إلى مصر باعتبار سيرهم المعتاد، وهو الّذي يقتضيه قوله تعالى على لسان قائلهم: ﴿يلتقطه بعض السيارة﴾، والظاهر أن الجبّ كان في طريق سيرهم المعتاد. والمقصود بالسيارة القوم المحترفون للسير، مثل من كانوا يرحلون في رحلة الشتاء والصيف، بهدف التجارة وجلب البضائع.

– ﴿فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ﴾: والوارد هو الّذي يرد الماء ليأتي به إلى بقية القوم، وربّما يعيّن في القافلة لتكون هذه مهمته فيها بناء على معرفته بالأماكن الّتي توجد فيها. وكانت السيارة لا تنتقل بكامل أفرادها إلى البئر بل يذهب واحد منهم إلى البئر ليأتي لهم بالمياه.

﴿فَأَدْلَى دَلْوَهُ﴾: أي: أرسل دلوه في البئر فرأى يوسف عليه السلام فيها سلّم النّجاة وسبيل الصعود من قاع الجبّ، فتعلق بها. ونلحظ من التعبير بفاء السرعة أوّل الجملتين: ﴿فأرسلوا﴾، ﴿فأدلى﴾ أن الوقت بين مجيء السيارة وبين عثور المدْلي على يوسف عليه السلام لم يستغرق إلّا زمنا قليلاً، بمعنى أنّهم جاءوا وتوّاً أرسلوا واردهم، ولم يتأخروا، وهذا لطف من الله تعالى بعبده يوسف عليه السلام، وفوجئ الوارد بغلام متشبثاً بدلو الماء فصاح مستبشراً.

– ﴿قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ﴾ أي: يا بشرى أقبلي هذا أوانك، نزّل البشرى منزلة شخص ينادَى، مما يدلّ على شدّة وقع المفاجأة على نفسه عندما رأى يوسف. والعجب كيف صاح واردهم حين وجد يوسف، فقال: يا بشرى، وصدق والله بالبشرى، فكيف لو علم بحقيقة البشرى؟ فقد كان يريد ماء لقافلة سيارة، فإذا به يجد الّذي به تكون النّجاة لمصر كلّها عند فقدان الماء سبع سنين. وإنّ طلائع النّجاة تبدأ بالتفاؤل في بدايات المحنة.

﴿هَذَا غُلَامٌ﴾: والغلام: من سنه بين العشر والعشرين. واختلف العلماء في تقدير يوسف عليه السلام حين أخرج من الجبّ ثمّ اشتراه العزيز، فمنهم من قدره بثلاث عشرة سنة، وآخرون بسبع عشرة، وذهب البعض أن عمره كان ثلاث سنوات، وغيرهم إلى أنّه كان ابن ثلاث عشرة سنة، أو أقل بقليل. وقد رجحت أنّه كان ابن اثنتي عشرة سنة كما مرّ معنا.

– ﴿وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً﴾ أي: جعلوه بضاعة سراً، وعزموا على بيعه رقيقاً، وبما أنّه لم يظهر لهم أنّه رقيق، تعاملوا معه بمقتضى السرية، وباعوه بسرعة خوفاً من أن تنكشف حقيقة أمره. وفي هذا الجزء من الآية دلالة واضحة على أن الرقّ مكروه ومنبوذ حيث يفقد الإنسان آدميّته، فيصبح بضاعة تباع وتشترى ولذلك كان علماؤنا على حقّ حينما فضّلوا دعوى كافر يدّعي بنوّة لقيط له على دعوى مسلم يدّعي أنّه عبده.

– ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾: من استرقاق من ليس لهم حقٌّ في استرقاقه، ومن كان حقّه أن يسألوا عن قومه ويبلّغوه إليهم؛ لأنّهم قد علموا خيره، أو كان من حقهم أن يسألوه لأنّه كان مستطيعاً أن يخبرهم بخبره. والله عليم بما عمله إخوة يوسف وأمرهم مع أخيهم يوسف وأبيهم في إخفائه وتغريبه وادّعائهم أنّ الذئب أكله. وحكمة الله فوق كلّ ذلك، والله عليم بما يترتب على عملهم القبيح بحسب الظاهر من الأسرار والفوائد المطوية تحت باطنه فكلّ ما فعله الإخوة مع يوسف عليه السلام ونيّة القافلة من استرقاقه وبيعه فيما بعد يجري كلّ ذلك بعلم الله تعالى وإرادته، وذلك لييسّر يوسف عليه السلام في بحر من الأقدار إلى تظهر حكمة الله تعالى فيها ويمتحنه الله بالسراء والضراء ليستعد لما يريد منه من حمل الرسالة.

– ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾: ولا يخفى ما فيها من تهديد ووعيد لأولئك الّذين استعبدوا يوسف عليه السلام، وهو حرّ كريم، واستعباد الحر واسترقاقه من كبائر الذنوب في الإسلام.

مراجع

يوسف وقصته العجيبة، ص 111.

التفسير الموضوعي، (4/147).

يوسف أيها الصديق، ص 51.

التحرير والتنوير، (5/659).

 

يمكنكم تحميل كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/668

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى