مقالاتمقالات المنتدى

نماذج عُلمائيّة مُلهمة (8) .. (زيد بن ثابت) كاتب الوحي وجامع القرآن

نماذج عُلمائيّة مُلهمة (8)

 (زيد بن ثابت) كاتب الوحي وجامع القرآن

 

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

شابٌ نشأ في رياض القرآن، تشرب سوره وآياته، وتمثل أحكامه، ونبغ في بعض علومه، هو الإمام الكبير، شيخ المقرئين والفرضيين، مفتي المدينة، وكاتب الوحي، وجامع القرآن، العالم العابد الزاهد، القاضي الحكيم، والحافظ النجيب، والفقيه المفوه، أحد أصحاب الفتوى الستّة، له في الإسلام شأن عظيم، وفي الفقه والعلم باع كبير، يرجع إلى علمه أكابر الصحابة، ويأخذ عنه صغارهم وجل التابعين، ذلكم هو زيد بن ثابت الخزرجي الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه.

  • زيد بن ثابت (رضي الله عنه)؛ اسمه ونسبه وكنيته ونشأته

هو زيد بن ثابت بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار بن ثعلبة الخزرجي، فهو من بني النجار من الخزرج، ذو نسب فخم وشرف ضخم، قتل أبوه ثابت يوم بعاث، وهو آخر أيام الجاهلية بين الأوس والخزرج، وكان عمر زيد يومذاك ست سنوات، فيكون زيد قد ولد قبل الهجرة بأحد عشر عاماً، وأمه هي النوار بنت مالك بن صرمة بن عدي، من الخزرج أيضاً، وقد أدركت الإسلام وأسلمت، وبايعت رسول الله ﷺ وروت عنه، وعاشت النوار بنت مالك عدة سنوات مع زوجها ثابت بن زيد، وبعد أن قتل يوم بعاث، تزوجت عمارة بن حزم، وهو من بني النجار أيضاً، فانتقل زيد بن ثابت مع أمه إلى بيت زوجها، عمارة بن حزم، وعاش في كنفه، ولما شب زيد توفيت أمه، وصلّى عليها (1).

  • إسلام زيد بن ثابت (رضي الله عنه)

 أما قصة إسلامه فتبدأ من عمارة بن حزم (رضي الله عنه)، إذ كان أحد الذين شهدوا بيعة العقبة الثانية من الأنصار، وكان عددهم ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين، فرجع المبايعون إلى مدينتهم والإسلام يملأ قلوبهم‎ وجوانحهم، والإيمان يغمر أفئدتهم بنوره، فقاموا مسرعين‎ إلى نشر هذا الدين القويم في أهليهم وذويهم وأصحابهم،‎ فبدأ عمارة (رضي الله عنه) بزوجه النوار، ثم بولدها زيد بن‎ ثابت، فأسلما (رضي الله عنهم أجمعين)، وفي هذه البيئة‎ المؤمنة الموحدة، نشأ زيدٌ منذ نعومة أظفاره، فكان من توفيق‎ الله له أن هيأ له المحيط الإسلامي والوسط الإيماني، فنشأ‎ فيه ثم ازداد زيدٌ تعلقاً بهذا الدّين وحباً له، فعكف على‎ حفظ ما أنزل الله من القرآن الكريم، إذ كان النبي ﷺ قد بعث مصعب بن عمير إلى المدينة ليفقه أهلها في الدين، ويقرئهم القرآن، وذلك بعد بيعة العقبة الأولى.

 ولمّا قدم النبيّ ﷺ المدينة وزينت له، قدم عليه الأنصار مُسَلْمِينَ مهنئين، وكان زيدٌ من جملة مَنْ جاءه مع زوج أمّه وقد حفظ سُوراً من القرآن، وكان عمرّه إذ ذاك 11سنة، وفي ذلك يقول زيدٌ (رضي الله عنه): أتى بي النبي ﷺ مقدمّه المدينة، فقالوا: يا رسول الله هذا غلام من بني النجار وقد قرأ مما أنزل عليك سبع عشرة سورة، فقرأت على رسول الله ﷺ فأعجبه ذلك وقال: يا زيد تعلم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمنهم على كتابي، قال: فتعلمته فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته، وكنت أكتب لرسول الله ﷺ إذا كتب لهم، وهذه يدل على نبوغ زيدٍ منذ صغره، وعلى شدة حفظه وذكائه، حيث حفظ هذه السور من القرآن، بالإضافة إلى أنه تعلّم اللغة اليهودية، في نصف شهر، وأيضا فإنه تعلم اللغة السريانية، فقد قال: قال لي رسول الله: «أتحسنُ السريانية إنها تأتيني»؟ قلت: لا، قال: (فتعلّمُتها في سبعة عشر يوماً) (2).

  • زيد بن ثابت (رضي الله عنه)؛ علمه وفضائله

 إنَّ علم زيد بن ثابت وفضله من أكثر ما اشتُهر به، خاصَّة أنَّه أتقن لغة اليهود في عهد النبي ﷺ، فقد ورد عنه في تخريج المسند: “قال لي رسولُ الله ﷺ: تُحسِنُ السُّرْيانيَّةَ؟ إنَّها تَأْتيني كُتُب، قال: قُلْتُ: لا، قال: فتَعلَّمْها، فتَعلَّمْتُها في سَبعةَ عَشَرَ يومًا”، وقد جمع القرآن في زمن أبي بكرٍ الصديق (رضي الله عنه) وقد قال فيه مسروق: “قدمت المدينة فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم”، وقد قال فيه سليمان بن يسار: “مَا كَانَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ يُقَدِّمَانِ عَلَى زَيْدٍ أَحَدًا فِي الفَرَائِضِ وَالفَتْوَى وَالقِرَاءةِ وَالقَضَاءِ”، فكان أحد كبار الصحابة الذين يُوقف عندهم في الفتوى، وقد قال زيد عند تكليفه بمهمة جمع القرآن في زمن أبي بكر: “فَوَاللهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ”، ولما كان عهد عثمان وأراد جمع الناس على مصحف واحدٍ ليقطع اختلاف النَّاس في القراءة كان واحدًا من اللجنة التي انتُدبت لذلك، وقد روى سعيد بن عامر عن حميد بن الأسود قال: قال مالك: “كان إمام الناس عندنا بعد عمر زيد بن ثابت، وكان إمام الناس عندنا بعد زيد ابن عمر”، وقد قال فيه ابن عباس: “لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد ﷺ أن زيد بن ثابت من الراسخين في العلم”، وفي ذلك تبيينٌ لفضل قامةٍ من قامات الإسلام العظيمة (3).

لقد كان للصحابي الجليل زيد بن ثابت (رضي الله عنه) فضل كبير بسبب تفوقه العلمي وحفظه للقرآن وقراءته للقرآن كما أنزل كقراءة الرسول ﷺ، وأيضاً لعلمه القوي بالفرائض وكتابته للوحي، وصار موضع احترام المسلمين وتوقيرهم، ففي غزوة تبوك حمل عُمارة بن حزم أولاً راية بني النجار، فأخذها النبي ﷺ منه فدفعها لزيد بن ثابت فقال عُمارة: يا رسول الله! بلغكَ عنّي شيءٌ؟” فقال له الرسول ﷺ: لا، ولكن القرآن مقدَّم”، وكان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يستخلفه إذا حجّ على المدينة، وقد استعمله عمر بن الخطاب على القضاء، وزيد بن ثابت (رضي الله عنه) هو الذي تولى قسمة الغنائم يوم اليرموك (4).

يقول الزهري: “لولا أن زيد بن ثابت كتب الفرائض، لرأيت أنها ستذهب من الناس”، وقال الحاكم: ” أقاويل زيد بن ثابت حجة عند كافة الصحابة “، ومن خصائصه (رضي الله عنه): أنه كان من أهل الفتوى والقضاء في أصحاب النبي ﷺ، فكان زيد أهلاً لذلك وبه جدير، كما قال عنه ترجمان القرآن ابن عباس (رضي الله عنه): ” لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد أن زيد ابن ثابت من الراسخين في العلم”، ويحدثنا سليمان بن يسار بقوله: “ما كان عمر وعثمان يقدمان على زيد أحداً في الفرائض والفتوى، والقراءة والقضاء”، وأما عن روايته فقد كان زيد من المحدثين عن النبي وأصحابه أبي بكر وعمر وعثمان، إلا أن روايته للأحاديث قليلة، والسبب في ذلك انصرافه إلى القرآن، وكتابة الوحي في زمن النبي ﷺ وله في الصحيحين 92 حديثاً (5).

  • كتابته للوحي وجمعه للقرآن

لما تعلم زيد الكتابة وهو صغير لا يجاوز عمره الثانية عشرة، اختاره رسول الله ﷺ لكتابة الوحي، وهي مهمة عظيمة شريفة، لم يمنعه صغر سنه مع أهليته عن تولي هذه الوظيفة، فكان (رضي الله عنه) موضع ثقة رسول الله ﷺ ولم يكن الأول، بل سبقه أبي بن كعب، أي هما كانا يكتبان الوحي بين يدي رسول الله، فكان النبي ﷺ يثق به ويحرص على كتابته، ويحثه على تحسينها وتوضيحها، وكان زيد بالإضافة لكتابته للوحي يكتب كتب رسول الله ﷺ إلى الملوك والناس، وترجماناً للنبي ﷺ فيما يأتيه من الكتب الأجنبية.

وأما عن جمعه للقرآن: فإن لزيد بن ثابت (رضي الله عنه) خصوصية عظيمة ومزية كريمة، وشرفاً عالياً ومجداً سامياً، أي مجد أرفع من كتابة الفرقان. ففي الفترة الأخيرة من فترات تنزيله، كان الرسول يقرؤه على المسلمين، مرتباً سوره وآياته، وبعد وفاته ﷺ شغل المسلمون من فورهم بحروب الردّة، وفي معركة اليمامة  كان عدد الشهداء من قرّاء القرآن وحفظته كبيراً، فما كادت نار الردّة تخبو وتنطفئ، حتى فزع عمر إلى الخليفة أبي بكر (رضي الله عنهما) في إلحاح أن يسارع إلى جمع القرآن، قبلما يدرك الموت والشهادة بقية القرّاء والحفاظ، واستخار الخليفة ربه، وشاور صحبه، ثم دعا زيد بن ثابت، وقال له: إنك شاب عاقل لا نتهمك، وأمره أن يبدأ بجمع القرآن الكريم، مستعيناً بذوي الخبرة في هذا الموضوع، ونهض زيد بالعمل الذي توقف عليه مصير الإسلام كله كدين.

وقد أبلى بلاء عظيماً في إنجاز أشق المهام وأعظمها، فمضى يجمع الآيات والسور من صدور الحفاظ، ومن مواطنها المكتوبة، ويقابل ويتحرّى، فجمع زيد أصحابه وأعوانه، وجاؤوا بالمصاحف من بيت حفصة بنت عمر (رضي الله عنها)، وكانت محفوظة لديها، وباشر زيد وصحبه مهمتهم العظيمة الجليلة، كان كل الذين يعاونون زيداً من كتاب الوحي ومن حفظة القرآن، ومع هذا فما كانوا يختلفون، وقلما كانوا يختلفون إلا جعلوا رأي زيد وكلمته هي الحجة والفيصل، حتى جمع القرآن مرتباً ومنسقاً، وقد قال زيد وهو يصوّر الصعوبة الكبرى، التي شكلتها قداسة المهمة وجلالها: “والله لو كلفوني نقل جبل من مكانه، لكان أهون عليّ مما أمروني به من جمع القرآن، وقد نجح في مهمته، وأنجزها على خير وجه ” (6).

  • وفاته

تُوفّي زيد بن ثابت قبل غروب الشّمس، وكان رأي الأنصار أن يُدفن في الصّباح، وتمّ تغسيله بالماء، ثم بالسِّدر ثم بالكافور، وتم تكفينه بثلاثة أثواب، وقيل إنّه تُوفّي في سنة خمس وأربعين للهجرة، وقيل في سنة خمس وخمسين للهجرة، ولما مات رثاه حسان بقوله: فمن للقوافي بعد حسان وابنه     ومن للمعاني بعد زيد بن ثابت، وعن يحيى بن سعيد قال: “لما مات زيد بن ثابت قال أبو هريرة: مات اليوم حبر هذه الأمة، ولعل الله يجعل في ابن عباس منه خلف” (7).

المراجع:

  1. بناة دولة الإسلام، محمود شاكر، المكتب الإسلامي، ط1، بيروت، 1995م، ص207.
  2. زيد بن ثابت كاتب الوحي وحامل القرآن، صفوان داوودي، دار القلم، دمشق، ط2، 1999م، ص25.
  3. عفراء بكري، زيد بن ثابت، موقع سطور، نشر في 2020، https://www.google.com/url?sa=t&source=web&rct=j&opi=89978449&url=https://sotor.com/%25D9
  4. أم نور، السيرة الذاتية للصحابي الجليل زيد بن ثابت، نشر في 2022م، https://www.almrsal.com/post/336763
  5. من أصول أصحاب القراءات، زيد بن ثابت، موقع إذاعة القرآن الكريم، فلسطين، نشر في 2012م،

https://www.google.com/url?sa=t&source=web&rct=j&opi=89978449&url=http://www.quran

  1. ابن منظور، مختصر تاريخ دمشق، صفحة 122. بتصرّف.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى